أحمد حافظ
&
&
&مقدمة:
&إن لكمة "التمرد" أثر سيئ في المجتمعات بشكل عام، وفي المجتمعات العربية بشكل خاص. حيث ينظر لها بسلبية لأنها تعني رفض الموجود والرغبة في التغير، وقد يكون مصدر الخوف كامنا في مجرد كلمة التغير، فالتغير يرادف المجهول، والمجهول يثير الرعب في النفس البشرية التي ترغب المألوف وتكره التغير. وقد يكون الخوف من التمرد مصطنعا ومدعوما من الأشخاص الذين سيتأثرون بهذا التغير، فقد يكره التغير من سيخسر منصبة أو نفوذه، خصوصا إذا كان التمرد شاملا ومغيرا لفكر معين وذو تأثير كبير.
&ولكن ورغم كل ما يحول حول الكلمة من شبهات وأقاويل، يظل التمرد رفيق الإبداع وحافزة الوحيد. ولن أعود للماضي لأحكي قصة غاليليو الذي حرقة رجال الدين لأنة أثبت أن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس! ولكن لنعود للستينات من هذا القرن عندما كانت فكرة إرسال الإنسان على صاروخ للفضاء أضحوكة على أصحابها، وقد أصبحت اليوم حقيقة نراها كل يوم. فلا يمكن أن يوجد إبداع إذا لم يكون للفرد رجلا كان أم امرأة، مساحة خاصة به من الحرية الفكرية والشخصية، يعبر فيها عن اختياره الشخصي بكل حرية، وإن كان مخالفا للبعض. فكل فكرة لها الحق في أن تسمع، ولصاحبها الحق في الاختلاف والمناقشة.
&ولا أعتقد بأني سأقع في مغالطة تاريخية (1) إذا ما رجعت لثورة الرسول الكريم وتمرده على أهل مكة. بل إن الثورة على الظلم والتمرد على الجهل هي من أهم العبر التي يمكن أن يستفاد منها في دعوته صلى الله علية وسلم، حيث أنة جاء مغيرا لنظام بدائي يصنع فيه الشخص إله من الثمر ثم يأكله! فلنا هنا في رسول الله أسوة حسنة في كيفية تمرده، وإصراره على أن ينهض بأمته من عيش الجاهلية إلى نعيم العقل، ذلك العقل الذي سيؤثر فيما بعد ويسيطر لوقت غير قصير. ولولا تلك الثورة وذاك التمرد لما وصلنا هذا الدين العظيم، ولما نجح المسلمون في توليد هذه الحضارة.
&
&أ- ضرورة تطور الفكر:
&إن تطور الفكر الإنساني يمثل ضرورة من ضرورات الحياة، وقانون إلهي في الكون. ويكمن ذلك في كون الإنسان كائن ذو قدرة على النطق والاتصال، مما يمنحه القدرة على نقل تجاربه جيل بعد جيل بعد جيل. لذلك فإن المعرفة الإنسانية في ازدياد مطرد، مما يدعوه بالضرورة إلى التطور والتقدم، إذا ما عرف هذا الإنسان كيف يستفيد من تجارب الماضي، وأن يستغل أحسنها ولا يقع في السيئ منها. والحضارة التي نعيشها اليوم ليست وليدة اللحظة، فقد استغرقت البشرية السنون والسنون لإنتاجها. فكل جديد له قصة بداية حتى وصل إلى النهاية التي نراه بها الآن. سواء أكان هذا الناتج ثقافي أو اجتماعي أو على مستوى العلوم الدقيقة.
&و إذا عرفنا نظام الفكر على أنة القدرة على الاستفادة من هذه الخبرات وتوظيفها فيما ينفع، فإننا وبشكل تلقائي، نفرض على هذا النظام ضرورة التغير بتغير المعطيات وازدياد التجارب. ولو ظل هذا النظام ثابتا راكدا، فمعنى ذلك أن البشرية ستعيش في ظلام دامس، وتشهد عصر آخر من عصور الانحطاط الذي نقرأ عنة في التاريخ. وأفضل مثال هنا هو الحالة التي تعيشها الأمة الإسلامية اليوم، فقد نسينا الثورة التي قام بها رسولنا واكتفينا بالمحافظة على مكاسب العقل القروسطي (2) الذي لا يجد له مكان اليوم.
&وبهذا الإصرار على عدم الاعتراف بضرورة التطور، لا بل ورفضه تماما! تعيش الأمة الإسلامية قطعتين لا واحدة. فالقطيعة الأولى هي مع ذلك الفكر الثوري الذي أنتجه النبي و أصحابه واستمر ليغطي القرون الأولى المستنيرة وحتى وفات ابن رشد عام 595 هـ. والقطيعة الثانية هي مع الفكر الحديث والذي بلغ ذروته بعد الثورة الفرنسية فبل 200 عام. وهنا تأتي ضرورة التمرد على الفكر السائد، وضرورة مجابة التيارات الفكرية المعاصرة وإجبارها على التغير للأفضل. ولن يكون ذلك ممكنا إذا لم يفتح المجال للمناقشة والحرية لكل التيارات الفكرية المختلفة بأن تكون عاملة على الساحة.
&ولا يعنى التمرد هنا بأي حال من الأحوال رمي القديم واستبداله بالجديد، لأن هذا الانسلاخ لن يؤدي للتطور المنشود بل إنه سيفقد الأجيال القادمة الهوية ويتسبب في المزيد والمزيد من التخبط. ولكن التمرد هنا يعني مجابة التراث وإعادة تفكيكه والتحقق من كل مسلماته والتي كانت قد اعتبرت نهاية وغير قابلة للنقاش.
&
ب- مفهوم الأرثوذكسية:
&إن الترجمة الحرفية لكلمة orthodoxy& تعني الخط المستقيم أو الرأي الصحيح. أما المعني الاصطلاحي للكلمة فيعني النواة العقائدية الصلبة والمغلقة على ذاتها لدين ما أو لأيديولوجية ما أو لاتجاه سياسي ما والتي ترفض كل ما يقع خارجها باعتبار أنة الضلال وهرطقة ويحتل هذا المصطلح مكانة مركزية في علوم الأديان وفي العلوم الإنسانية بشكل عام: كأن نقول الأرثوذكسية المسيحية، أو اليهودية، أو الإسلامية، أو حتى السنية أو الشيعية. بل ويمكن التحدث عن الأرثوذكسية الماركسية والعلمانية....." (3)
&نجد من التعريف لهذه الكلمة الضرورية جدا لفهم المجتمعات الإنسانية المعاصرة، أن الأرثوذكسية كلمة ذات معنى سلبي. فهي تعني تمسك عقل فكري معين بمسلمات يدافع عنها ويرفض تغيرها وكنا قد رأينا ضرورة التغير وكيف أنة ضرورة. ورغم أن كلمة الأرثوذكسية تطلق في العادة على الفكر الديني فقط، إلا أنها أصبحت تطلق على أي تيار فكري دوغماتي(4) يرفض التطور. وأعتقد أن السبب في تركيزي على هذا المفهوم في البحث واضح، فالأرثوذكسية بكل أشكالها تمثل العدو الأول للتمرد. بل هي تقتل كل محاولة جادة للإطاحة بها، لتضمن بذلك بقائها واستمرارها للأبد.
&وقد نرى سهوله نوعا ما في إطلاق هذا المصطلح على الفكر الديني التقليدي، عند شرح مشكلة معينة كمشكلة الطائفية مثلا! وكيف تدعي كل طائفة أنها وحدها تملك الحقيقة دون سواها ويسود مبدأ الصراع أو حتى تسامح اللامبالاة (تسامح القرون الوسطى)، بدلا من أن يسود التسامح الحقيقي القائم على التعايش والاعتراف بالآخر.أو أن نصف الفكر الديني المعاصر بأنة يستخدم عقل قروسطي يقوم على مجموعة من المسلمات التي لا تناقش. ولكن كيف يمكن أن تكون الماركسية أو العلمانية أرثوذكسيات هي الأخرى؟ والإجابة على هكذا سؤال تدعونا للعودة إلا أصول هذه الأفكار وكيف تحولت عن هدفها الأساسي وأصبحت ترفض التطور هي الأخرى.
&ولنتناول العلمانية ولنعرفها بالمعنى السلبي للكلمة وهي فصل الدين عن الدولة. لقد كانت العلمانية فكرة ثورية أتت لتخليص الناس من سيطرة رجال الدين والكنيسة ومن ورائهم العقل الدوغمائي الرافض لكل جديد (كمثال خرق غاليليو لأنة رفض فكرة أن الأرض هي مركز الكون!). وفعلا قامت الثورة الفرنسية لتخلص أوربا وتنهض بها وتمنحها التطور الذي تعيشه اليوم. ولكن لم يخلوا هذا التطور من السلبية التي أتت على الإنسان الذي أوجدها. وذلك عندما سيطرت الرأس مالية وحولت الإنسان إلى إنسان يعبد الإنتاج والاستهلاك والتوسع. ونجد أن هذه الثورة العظيمة التي أنتجت حقوق الإنسان بالمعنى الحديث للكلمة، راحت تغزو الشعوب الأكثر فقرا واستعمرتها! وهذه الثورة أيضا شهدت حربين عالمتين قتل فيها ملاين البشر و هي التي كانت قد وجدت من أجلهم! وحتى الحرب الأخيرة في العراق لا تعبر إلا عن تلك الرغبة في التوسع وفتح المزيد والمزيد من الأسواق. كل ذلك ليحافظ الفرد الأوربي على دخلة العالي وقدرته الاستهلاكية، الذين يبعدانه عن التفكير في الفراغ الحاصل في حياته؟
&إذن نجد أن الأرثوذكسية وغياب النقد الذاتي لأي تيار فكري وسيطرت العقل الدوغمائي يؤدي في النهاية إلى فشل الفكرة الأساسية مهما كانت ثورية ومبدعة ومتعالية عند تأسيسها. ومن هنا تأتي أهمية التمرد الذي يمثل الحل الأوحد للتغير في ظل سيطرت الأرثوذكسية مهما كان لونها وشكلها.
&
خاتمة:
&لقد رأينا ماهية العلاقة بين التمرد والإبداع، وكيف أن كل فكر عظيم ومنتج وثوري، يحتاج لمن يجدد فيه ويبعده عن الأرثوذكسية التي تحطمه وتجعله متحجرا متخلفا. ويأتي الوقت الآن لنسأل أنفسنا السؤال الذي طالما بقي في دائرة اللامفكر فيه أو حتى في دائرة المستحيل التفكير فيه: هل قدمنا نحن للأجيال المتعاقبة حق التمرد؟ هل درسنا تراثنا بحيادية وبعقل نقدي منير وليس بعقل إسقاطي دوغمائي مغلق؟ ستحدد الإجابة على هذه الأسئلة مستقبل الأمة، وستحدد ما إذا كنا سنعود لننير الطريق للبشرية، كما فعل ابن رشد والفارابي ومسكويه، أم أننا سنكتفي بالنظرة المغلقة المحجمة والتي ساعدت على سقوط الإسلام في يد التطرف والتزمت.
&
(1)& - تعرف المغالطة التاريخية على أنها إسقاط مفاهيم حديثة على الماضي أو العكس. كأن نجزم بأن مفهوم حقوق الإنسان أو التسامح الديني بالمعنى الحديث و الذين تم بلورتهما حديثا كانا معروفين منذ القدم! بالرغم من كل الحروب ذو الأصول الدينة والاضطهاد الذي عانى منة المسلمون (هذا إن سمح لهم بالوجود أصلا) في بلاد المسيحيين والعكس صحيح. بل إن مفهوم التسامح الذي نعرفه اليوم كان مستحيل التفكير فيه في ذلك الوقت، فعجبا كيف نسقط فكرة نعيشها اليوم على زمان كانت فيه الفكرة مستحيلة التفكير فيها!
&
هوامش:
&(2)& - العقل القروسطي يعني عقل القرون الوسطى.
&(3)& - كتاب: "من فيصل التفرقة إلى فيصل المقال.. أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟" للكاتب محمد أركون،ترجمة هاشم صالح.
(4) يعرف العقل الدوغماتي على أنة ذلك العقل المغلق والذي يرى الأشياء كما يريدها أن تكون وليس كما هي فعلا. فهو عقل يسير على معتقدات ثابتة غير قابلة للتغير. وعلى النقيض يأتي العقل النقدي الذي يقبل بالعودة على ذاته في كل مرة يقطع فيها مسارا معينا. إنه عقل قلق لا يطمئن إلى قناعات جاهزة أو حقائق نهائية.فالحقائق تبنى من خلال البحث والتجريب وتكون تتويجا للمسار لا بداية مسبقة له. إنها حقائق مؤقتة قابلة للتعديل والتصحيح باستمرار.
&
مجموعة حقوق المرأة السعودية