&د. مهند البراك

&
&&&&&&&&&
لايمكن الحديث عن استقرار العراق في ظروفه الأمنية الصعبة القائمة دون تسليم العراقيين مقاليد بلادهم والتوجه الجاد لمكافحة البطالة المخيفة، ومكافحة غلاء الأسعار، والمباشرة بمحاكمة كبار المسؤولين عن جرائم الدكتاتورية المنهارة، واشاعة مبدأ التسامح، ووضع جدول زمني لأنهاء الأحتلال بمشاركة المجتمع الدولي، وعدم الأعتماد على ازلام صدام في بناء الديمقراطية المنشودة؟! ان الوضع بالغ الخطورة وقد يؤدي، ان لم يجر تداركه بسرعة، الى حرب اهلية، تحقيقاً للشخصية الوطنية وبحثاً عن الأستقرار..
بعد ان تغيّرت سمة العصر من الحرب الباردة والصراع بين الأشتراكية والرأسمالية وقطبيها، الى انتصار الرأسمالية، يحاول قطبها الأعظم برؤيته ودرجة ثقافته وجيوشه، تقرير مصير العالم بدوله الصناعية والنامية ولفلاحية والرعوية، شرقية وغربية، شمالية وجنوبية، اسلامية ومسيحية ويهودية وبوذية وهندوسية وعلمانية ولادينية، وعلى اختلاف قومياتها وثقافاتها ووعيها وامزجتها.
وفيما انتظرت الشعوب من الولايات المتحدة باحزابها ومجتمعاتها، ومراكز بحوثها وحضارتها، ان تغيّر آلياتها بما يناسب العصر، وان تنزع بدلات القتال وتحوّل ما امكن من صناعاتها العسكرية الى انتاج بضائع الخير والسلام ورفاهية البشر ومساعدة ضعفائهم وفقرائهم وقومياتهم المضطهدة، بعد ان انتهت الحرب الباردة، واغلقت مصانع السلاح الستراتيجي المتطور في الشرق؟!
فان ذلك لم يحصل، بدعوى الحاجة للوقت، الى ان طال الوقت حتى فاز حزب الأدارة الأميركية الحالية الذي اعتبر نهاية الحرب الباردة انتصاراً انتظره وعمل له طويلاً، وعليه ان يواصل الأنتصار لتحقيق اعلى الأرباح. لقد نسى الحزب الجمهوري، كما يبدو ان من انهى الحرب الباردة هي شعوب المعسكر الشرقي التي من غضبها وحنقها، قلبت انظمتها التي اصابها النخر بفعل تجدد الحياة والأنتاج والفكر الذي لم تتجدد معه وخالفت قواعدها ذاتها، وليس حباً بالغرب. ولجمود الفكر فيها اتخذت فكر الغرب بمفهومها بوصلة وليس صنماً للتجديد، تحاول صياغته وفق واقعها هي، كما تشير الوقائع.
لقد فرح الشعب العراقي كبقية الشعوب بنهاية الحرب الباردة التي انتظر منها نهاية للصراعات الدولية على ارض بلاده، والتي سخّرها الدكتاتور لبناء عرشه الدموي، طاحنا الشعب العراقي بعربه وكرده، بيسارييه ويمينييه، باسلامييه ومسيحييه وبكل الوان طيفه، بنسائه ورجاله واطفاله وشيوخه.
انتهت الحرب الباردة بسقوط جدار برلين تأريخاً، وكانت الحرب العراقية ـ الأيرانية قد توقّفت، وكانت طاحونة الدكتاتورية والقتل الجماعي في انفال كردستان واعمال تطهير الأهوار قد دارت، بعد ان قتلت وشوّهت عشرات آلاف جديدة من شعب العراق. وكانت الأعلان عن ان الدكتاتورية الكريهة بدأت تدخل في صراع مباشر مع الشعب بعد ان حصرت وحددت نشاط قوى المعارضة الذي استمر مع ذلك عنيداً، حتى بعد ان خسرت الآلاف من قادتها واعضائها، وسط صمت العالم الجديد الخارج توّاً من الحرب الباردة.
وبسبب انتهاء مرحلة تمحور دول العالم على قطبين، وتخلخل موازين القوى الأقليمية، حاول صدام تحقيق احلامه التوسعية واثبات ديمومة قوته، بالحرب وغزو دولة الكويت الشقيقة، ضاربا عرض الحائط بكلّ الأعراف (و قيل انه شجّع عليها)، وقد استنجد بها لأعلان الأحكام العسكرية وتكبيل الشعب العراقي واستمرار سوقه بالعنف.
انسحب جيش صدام من الكويت اثر اعلان الحرب وتحشيد قوات التحالف الدولي بقيادة الجيش الأميركي ومشاركة كل الدول الصناعية الكبرى واكثر الدول العربية وبقرار من الأمم المتحدة، بعد ان رفض الأنصياع الى مناشدات دول العالم وكل قوى الخير والسلام للأنسحاب من الكويت وتجنيب شعوب المنطقة كارثة الحرب، بعد ان ماطل واتبع سياسته في احراج الجميع، والمعروفة بـ "ازمة اشتدي، تنحلّي".
وقد ادّت تلك الأوضاع الوحشية الى تصاعد الرفض للطاغية الذي حطّم الشعب العراقي وشعوب المنطقة، وبدأت شرارة الرفض باطلاق جندي النار على جدارية الدكتاتور في البصرة، الأمر الذي انتشر كالنار بالهشيم وعم مدن الجنوب وكردستان بالأشتعال مسفراً عن انتفاضة عارمة، شاركت فيها كل القوى المعارضة للدكتاتورية بالوان طيفها وشاركت فيها اوسع الأوساط، رجالاً ونساءاً، وكانت التصويت الشعبي على كره الدكتاتور من جهة، وبداية لصياغة الأمل بالعالم الجديد و بنداء الرئيس الأميركي بوش الأب الذي دعى العراقيين للأنتفاض وبناء الديمقراطية و" ستجدون كل العالم معكم!! " على حد النداء.
لقد اصيب المنتفضون بالم وخيبة امل هائلة عندما خففت القوات الأميركية والمتحالفة من ضغطها على الدكتاتور( في الوقت الذي انتظروا فيه مساعدتها ودعمها)، بل وفسحت المجال لسمتياته لتحطيم انتفاضة آذار المجيدة عام 1991 وتخضيبها بالدم، الأمر الذي ادى الى استمرار الدكتاتور حاكماً بالحديد والنار وبقطع الأذن وقطع اللسان، وبالبحث الدائم عن عقوبات اقوى من الموت لردع الشعب العراقي التوّاق للديمقراطية ومواصلة كسر شوكته، بعد ان تكبّل بالحصار..
الأمر الذي حطّم آمال العراقيين بالعالم الجديد وبقطبه الأعظم، وولّد مشاعر ان هناك تناغم بينه وبين الدكتاتورية، وانكفأت الناس تداوي جراحاتها وتدبّر امور عيشها الصعب في ظل الحصار الظالم، بعد ان زادت لاأباليتها بشعورها أنها لعبة تتقاذفها مصالح عليا خافية عليها، بين الدكتاتورية ونقمة النفط ومصانع السلاح والدول الصناعية الكبرى، وهو ما طمحت له الأطراف المتصارعة، بتقدير الكثيرين.
جاءت الحرب الأخيرة.. التي ادت الى اسقاط الدكتاتورية بالحرب بعيداً عن الأمم المتحدة والأرادة الدولية، وبتجاوز واحراج غالبية قوى معارضة الدكتاتورية التي انتظرت الدعم وليس قطع الطريق بالحرب من الخارج، مهما رفعت من شعارات ووصفات لبناء الديمقراطية والمجتمع المدني. لقد سقطت الدكتاتورية وحُلتّ اجهزة الشرطة والجيش والدولة، ثم اُعلن الأحتلال في ظرف انكماش المنطقة من سياسة الأدارة الأميركية القائمة، وتزايد السياسة الأسرائيلية تعنتاً وعنفاً، الأمر الذي لم يكن خافياً عن الدولة الأعظم.
وبسبب ذلك وباندلاع الفوضى والنهب واعمال الأجرام التي بدأتها فلول صدام، دخلت مجاميع مسلّحة متنوعة الأهداف بعيداً عن أمل وحق الشعب العراقي بالحياة، مجاميع لاتتورّع عن قتل المدنيين والأطفال، بدعوى الدفاع عن شعب العراق الذي لم يذكروه في ظلام ليله الطويل على مدى خمسة وثلاثين عاماً، على حد تقدير غالبية العراقيين، اضافة الى غض نظر بعض الأطراف الأقليمية عن ذلك، لغايات متنوعة في مقدمتها عرقلة قيام عراق مستقر قائم على اساس مؤسسات حكم تمثّل طيفه، وتحت واجهات (السعي لأيقاع جنود الأحتلال في المستنقع العراقي)، الأمر الذي لن يؤدي في الواقع الاّ الى اطالة وتكريس الأحتلال من جهة، ولن يخرجوا (منه) الاّ باعمال اكثر عنفاً وبطشاً وقتلاً يروح ضحاياها بنات وابناء العراق، و كأنما كُتب على العراقيين الموت الدائم، تحت مختلف الأدارات والتسميات (الديمقراطية) والأجراءات، ليقبلوا بالموجود رغم ارادتهم.
لقد جاءت قوات التحالف بوصفة للحكم الجديد، قائمة على تكوين الملل والنحل والطائفية، التي تخطّاها المجتمع العراقي منذ زمن ليس بالقصير، لرسم وبناء مؤسسات المجتمع المدني في العراق وفق تقديرهم، غير مبالين بنتائج خمسة وثلاثين عاماً من الدكتاتورية الدموية ولا بما ادىّ تخليّ الرئيس الأميركي بوش الأب عن الشعب العراقي بعد ان دعاه للأنتفاضة وانتفض وذبح، ولا بنتائج السياسة الأميركية في المنطقة والعراق طيلة نصف قرن مضى، التي اقرّ بها الرئيس الأميركي في خطابه الأخير فقط، الأمر الذي اضاف تعقيدات كبيرة جديدة واثبت مجدداً ان قوى التغيير وبالتالي ارادة التغيير لايمكن ان تتخطى الواقع القائم والقوى والأحزاب والشخصيات الوطنية ودورها وتطلّعاتها.
وعلى تلك الوجهة ورغم دعوة الأحزاب والقوى الوطنية الى مؤتمر للقوى والشخصيات الوطنية لتشكيل حكومة ائتلافية انتقالية ذات صلاحيات، قامت ادارة الأحتلال بتشكيل مجلس حكم انتقالي ارادته ان يكون استشاريا في البداية، الذي رغم تحفظات اكثر القوى الوطنية على طبيعة تشكيله، شاركت به بوجهة السعي لتغييره وفق الأمكانات المتوفرة وبعد ان امتلك صلاحيات محدودة، بوجهة العمل على تعزيزه او الوصول الى تشكيل سلطة وطنية انتقالية ذات صلاحيات.
واليوم وبعد مرور اكثر من سبعة شهور على انهيار الدكتاتورية، يزداد الوضع الأمني تردياً، وتزدادت البطالة الى درجات مخيفة اخذت تزيد عن الـ 70 % من اليد العاملة، بعد حلّ مؤسسات الدولة من جهة، وحلّ الجيش (المقصود ليس فدائيي صدام والحرس الجمهوري وغيرها من الوحدات الخاصة) الذي اهانه صدام واهمله من جهة أخرى، والذي ضمّ عشرات الآلاف من الشباب على اختلاف الأختصاصات والمهارات الذين رموا الى الشارع. ورغم ما صرف من رواتب مقطوعة لفئات دون اخرى، فانها اخذت لاتسد الحاجة امام الارتفاع الجنوني المستمر للأسعار الذي اوصل سعر كيلو البصل الى ( 1000 ) الف دينار عراقي.
من ناحية اخرى، يستمر حضورازلام الدكتاتورية المنهارة بطول قامتهم علناً، وبنفوذهم السابق في الدوائر والمحلات وفي المجالس، مستغلين الأحكام الأدارية الفوقية التي لاتشرك الناس وقواها الوطنية الاّ بمقاسها ورؤيتها ومصالحها، الأمر الذي اخذ يؤدي الى ضياع دور حتى ضحايا الدكتاتورية ممن اجبروا على الأنتماء لمؤسساتها.
واضافة لقصور أجراءات ادارة التحالف، والأجراءات الجيدة لمجلس الحكم المحدود الصلاحيات، فانها لاتزال دون مستوى مواجهة التدهور السريع والمتفاقم للوضع الأمني الذي وصل الى تلاقي فلول الدكتاتورية واطراف ارهابية دولية (الذي قد يصل حدود التنسيق، على حد مصادر التحالف) التي تواصل باعمالها الأرهابية المتفرقة والمتصاعدة على نشر حالة الخوف والرعب بين المدنيين، الذي اعتمدته الدكتاتورية ذاتها اساساً لحكمها.. الأمر الذي يوصل البلاد الى المزيد من الخراب والدمار، ويهدد بتحويل البلاد الى مسرح دائم لأعمال عنف وجرائم تزيد من انقسام المجتمع وقد تؤدي الى نزاعات وحرب اهلية يصعب السيطرة عليها، تحقيقا للشخصية الوطنية وبحثا عن الأستقرار.
ولمواجهة التدهور الأمني السريع، يتطلب ضمن ما يتطلّب، عقد مؤتمر يضم مجلس الحكم الأنتقالي والوزراء الذين تم تعيينهم، وممثلين عن القوى والأحزاب والشخصيات الوطنية داخل وخارج مجلس الحكم، ممن تتبنى النهج الوطني الديمقراطي والتعددية وتنبذ العنف، يقوم باختيار حكومة انتقالية مؤقتة ذات صلاحيات تتوضح فيها شكل العلاقة مع قوات التحالف بوجهة التهيئة لأنهاء الأحتلال بالأعداد للمرحلة القادمة تشريعياً وتحديد الوجهة الديمقراطية، واعتماد مبدأ التسامح، والأعداد للأنتخابات.
حكومة تباشر بمحاكمة ومعاقبة كبار رجال الدكتاتورية علنا، وتقوم باجراءات سريعة لحل مشاكل البطالة، وتشغيل عشرات آلاف منتسبي الجيش كمرحلة اولى وعلى دفعات( وليس فدائيي صدام ووحداته الخاصة التي ينظر فيها في مرحلة لاحقة سريعة)، وفق كفاءاتهم واعمارهم بعد ابعاد العناصر التي ثبت اجرامها، في مجالات الدفاع المدني وحماية مؤسسات الكهرباء والماء والمؤسسات الصحية ومخازن التموين والمدارس والدوائر، اضافة الى الأعمال التي تتطلب جهوداً جماعية كأصلاح الطرق ومياه الصرف وبناء المنشآت.. ودفع منح مقدمة لهم وحساب ودفع رواتبهم القابلة للزيادة مع وتيرة العمل، اضافة للقيام بدورات لهم توضّح واجباتهم واعمالهم في سبيل مجتمع مستقر خالي من العنف.
عقد مؤتمر عسكري يضم الحكومة الأنتقالية المؤقتة الجديدة وممثلين عن العسكريين الذين عرفوا بوقوفهم وعملهم ضد الدكتاتورية المنهارة، اضافة الى ممثلي المنظمات والأحزاب التي لها منظمات خاضت نضالاً مسلحاً ضد الدكتاتورية، لأقرار وجهة تجميع وتنظيم ما موجود وما تشكّل حديثاً من وحدات عسكرية، ووضع خطة عمل عسكرية لها لمواجهة المخاطر القائمة، بعيداً عن دعوة ازلام الدكتاتورية بدعوى ضغط الحاجة لهم، حيث لايمكن بناء الدمقراطية برجال الدكتاتورية!