جاسر الجاسر

يابني يتحدثون هذه الأيام عن الانتخابات والترشيحات وغيرها من بدع العصر المتوالية التي بلينا بها إثر العولمة والصلات مع الفرنجة. عافانا الله منها، وأنجانا من شرورها، فإن حضرت وقتها فاعتصم بمنزلك واعتزل أهلها. والتزم الصمت.
قلت وقد أذهلني ما وجدت في شيخي من حدة وصرامة وتشدد لم أعهدها منه: يا أبا ميسون، منحك الله رضى الأمة فانتخبوك عليهم سلطاناً، هلاّ تفضلت وبينت لي الرأي السديد الذي انتهيت إليه في هذه المسألة؟
فاستدنى شيخي المبخرة ودفنها بين أطراف عمامته، ثم قربها من شآبيب لحيته ، واستنشق بخورها بنشوة كنت أظنها قصراً على الحشاشين، وبعد أن استرخى في جلسته قال: كنتُ، يابني، من المتوقفين عند& هذه المسألة، مثل ما توقفت، العام الماضي، عند مسألة وطء الخادمة غير المسلمة باعتبارها من الجواري. لكني بحثت هذا الموضوع، ووجدت فيه أراء كثيرة، ينكر بعضها بعضاً، حتى وجدت أن التوقف هو خيار الحصيف.
حذرنا عكنكر اللعبي من استعمال كلمة "انتخاب" إلا في حال التعوذ والاستنكار، لأنها شر داهم، وخطر عظيم، وبدعة منكرة، ولو كان فيها خير لسبقنا إليها سلفنا الصالح.
واجتمعت برصيصة الخطابة مع بعض صويحباتها، وكتبن بياناً يعارضن فيه الانتخابات، قيل لها: يابرصيصة متى كان لك اهتمام بالسياسة؟
قالت: قاتلكم الله من قوم جاهلين، ألا تعلمون أن الانتخابات مقدمة لاعتياد الناس على معالجة شؤونهم بأنفسهم، والتفكر في أوضاعهم، والثقة في أنفسهم، وربما شاع الاختلاط، وظهر الناس على بعضهم، وتزاوجوا دون وسيط.& وفي هذا كساد سوقنا، وضياع مهنتنا، وانتشار البطالة بيننا. وما دامت الانتخابات شر علينا فإننا نحاربها، وسنعطي أصواتنا لمن يعارضها.
وحمل بزيون النضاجي، راية المؤيدين للانتخابات وشعاره: إن كنا لا بد مسروقين فليكن ذلك بأيدينا.
وجُن صندلة المتفلسف وكان من عقلاء زقاقنا، فلما سألنا عن السبب قال أبوه، زغبيب المطازيزي: إنه عندما سمع نبأ الانتخابات، أخذ يشد شعره، ويضرب رأسه في الجدار، ويصرخ: قضيت عمري لا أملك الحق حتى في اختيار ملابسي، أفيعقل أن أغدو فجأة، صاحب القرار، في اختيار من يدير شؤوني، وكأنه بعض خدمي بعد أن كنت له رقيقاً، وفي عينيه صغيراً!؟
وكان صنفرة الخليع- من وجهاء البلدة، وقد خدم في ديوان الوالي أربعين سنة- من أكثر الناس تذمراً من الانتخابات، ويعتقد أن رواج هذه الفكرة أسوأ واخطر من رواج المخدرات؛ فالمخدرات قد تدمر فرداً بعينه، لكن الانتخابات تدمر البلد بأجمعها.
فسأله خيناف بن الدُلجّه: وكيف ذاك يا أبا خنزقيق؟
فتمخط وقال: لقد أمضيت زهرة شبابي، وأعطيت عصارة فكري وعبقريتي لخدمة الرعية بفضل حنكة الوالي، وحسن اختياره. ولو كان الأمر متروكاً للعامة والغوغاء لما عرف الناس فضلي، وحسن بلائي، ولحُرموا الاستفادة من مواهبي.
فعلق أبو شنب، هامساً: والله لو لم يكن في الانتخابات من خير سوى النجاة من أمثالك لحبونا إليها حبواً!
وسئلتُ أحد العامة عن رأيه، فقال، بعد أن تلفت يمنة ويسرة، وتحقق خلو المكان من البصاصين: ياشيخ لقد حرمونا من "شختك بختك" وألعاب الحظ ودواليبه، فلعلنا نجد في الانتخابات هذه لعبة نسلي أنفسنا بها من حين إلى آخر!
وكان نيموس الطفيلي يدعو كل يوم فيقول: اللهم عجّل علينا ببدعة الانتخابات، وأكثر أنواعها وأشكالها، وعدد أوقاتها وأزمانها.
فغاضبناه بقولنا: وما شأنك، وأنت مجرد طفيلي أحمق؟
قال، وقد أزبد وانتفخ غيظاً: بل أنا صاحب الشأن كله، فإن الانتخابات تجلب معها الولائم والأعطيات، وكلما كثرت، شبعت بطوننا، وامتلأت جيوبنا. وفي هذا كفاية.
فلما سمعه لينم القطروري قال: صدق هذا الأحمق، ورب الكعبة. لقد أبلغني من أثق به من حاشية الوالي، أن هذه هي غاية الدولة ومدار سياستها، لأن فيها ما& يرضي الناس، ويشغلهم بأحوالهم، وينثر عليهم من الدراهم ما يغني ديوان الحكومة عن زيادة الأعطيات، ومراقبة التجمعات.
وروى أحد منتديات الانترنت، أن أنس، ابن أخت هذيل، قال في أحد دروسه: الانتخابات بدعة لغة واصطلاحاً، فهي ليست من سنن الاسلام ولا عادات العرب. ولقد تفحصت التاريخ صفحة صفحة، فلم يرد ذكر الانتخابات إلا في موضعين: انتخب الرجل جاريته، إذا انتقاها رعبوبة، فرعاء، وركاء. وانتخب الفارس سلاحه، إذا انتقى أمضى السيوف وأسن الرماح.
وهاتف شخص أحد شيوخ الفضائيات سائلاً: إذا انتخبت مرشحاً، ثم خدع وغش وسرق، فهل عليّ إثم؟
فأجاب الشيخ: قلت في سؤالك أنك لو انتخبت مرشحاً ثم خدع وغش وسرق، فهل عليّ إثم. والجواب، أنت مأثوم، ومعك كل الذين انتخبوه. أترى لو أنه ظل في بيته هل كان سيغدو سارقاً وغشاشاً؟ أترى لو أن الوالي اختاره، بما له من هيبة وسلطة، أكان سيجرؤ على السرقة مالم يكن في ذلك مصلحة عامة؟ ثم إنك يا أخي، غفر الله لك، حملت نفسك مالا تطيق، إذ أنجاك الله من الإثم حين تحمل الوالي مسؤولية اختيار موظفي دواوينه، لكنكم تنطحتم إلى الشر فعاقبكم الله بما تستحقون.
فذعر السائل وقال: ياشيخ، هداك الله، الانتخابات لم تأت بعد، ولكنها مجرد فكرة قد لانعيش زمن تحققها. وأشدك الله أنني لن أنتخب غير مطربات "سوبر ستار".
ثم نظر شيخي، أبعده الله عن الحاجة إلى تبييض الأسنان، إلى ساعته، ونهض قائماً وهو يقول: يابني لقد حان وقت أم ميسون وقضاء حاجاتها العاجلة، وإني محدثك الدرس القادم عن ماورد في وطء الخادمات باعتبارهن امتداد للجواري.
قلت في نفسي: هذا موضوع ليس لي منه سوى لذة السماع، ونشوة التخيل والأحلام!