حيان نيوف من دمشق: لقد اخترت هذه المرة أن أقف عند بعض كتابات الشاعر السوري، وابن منطقة السلمية، محمد الماغوط الذي كتب لكل وعن كل شئ. الوقوف عند كتاباته يشبه الوقوف تحت شجرة تتساقط ثمارها، ففي لحظة ما تسقط ثمرة يابسة على الرأس، وإذا لم يحتملها هذا الرأس فقد ينكسر أو ينفجر.
لقد اخترت أن أقتبس بعض ما قاله عن رفيقة دربه سنية صالح، وأكتب بعد انفعالاتي على بعض كلماته الشعرية التي تشعر القارئ أنه شاعر فذ وبارع بأدوات وكلمات بسيطة.
... "مأساة محمد الماغوط أنه ولد في غرفة مسدلة الستائر اسمها الشرق الأوسط". هذه هي أولى الكلمات في مقدمة مميزة بقلم سنية صالح، رفيقة درب الماغوط،& لكتاب "أعمال محمد الماغوط". وتقول سنية صالح: "من يدرس حياة هذا الشاعر يرى أن فترات الخصب عنده تتواقت مع الأزمات. "فالعصفور الأحدب" وأعمال أخرى مازالت مخبأة في الأدراج وقسما كبيرا من "الفرح ليس مهنتي" جاءت نتيجة انفجار بشري داخلي عنيف حدث في أواخر ذلك الشتاء".
الكتاب الذي بين يدي صادر عن دار المدى للثقافة والنشر في سورية وقد صدرت طبعته الأولى عام 1998. بعد أن قرأت الكتاب شعرت كما لو أنني أقرأ صفحة واحدة، فكل القصائد تتشابه وتميل إلى الرمزية أحيانا وإلى التهكم وتكسير الواقع أحيانا أخرى. وتخيلت أن قصائد محمد الماغوط تعاني من الشيخوخة ولكني فجأة أنفر من هذا التخيل لأذهب إلى شعور آخر ينطوي على حساسيتي المفرطة تجاه بعض الجمل والمفردات فتهزني هزا وتقلب كياني وأحبها فلا تذهب من عقلي. المجموعة الأولى هي" حزن في ضوء القمر" والتي تتألف من مجموعة من القصائد تتفاوت وتختلف ولكن أكثر ما لفت انتباهي منها قصيدة "الشتاء الضائع "، وهنا اسرد مقتطفا بعض أبات هذه القصيدة:
... "منذ بدء الخليقة وأنا عاطل عن العمل
أدخّن كثيرا
وأشتهي أقرب النساء إلي
ولكم طردوني من حارات كثيرة
أنا وأشعاري وقمصاني الفاقعة اللون"...
صوت متمرد عبثي يخرج من حروف وكلمات عادية وبسيطة ليست مقفاة ولا تسير على بحر شعري معين، إنها قصيدة حرة وبنفس حر يتدفق الصوت من بين بساطتها.
والمجموعة الشعرية الأخرى هي غرفة بملايين الجدران. تتألف أيضا هذه المجموعة من قصائد عديدة أبرزها قصيدة أوراق الخريف. ومنها أقتطف:
... " لا أريد أن أسمع شيئا
لا المطر ولا الموسيقى
لا صوت الضحية ولا صوت الجلاد
لن أسمع إلا طقطقة القصائد في جيوبي
وارتطام الحقائب على ظهري من مكان إلى مكان ".
تتكرر في هذا المقطع الشعري الصغير حروف مثل " س، ص " وهذه تعكس موسيقا متدحرجة من شعر الماغوط تعبر عن جو الخريف ليس بمكنونه الواقعي كما نعرفه وإنما برمزيته و مدلولاته إلى أشياء أخرى: لقد قرر بطل القصيدة الرحيل كما قررت ورقة الخريف أن ترحل عن شجرتها الأم.
وأما المجموعة الشعرية التي حملتني من مكاني إلى مكان آخر وشجعتني أن أحلم أكثر وأكتب أكثر، فهي مجموعة الفرح ليس مهنتي. في هذه المجموعة نلمس الخلق الشعري في قالب فني أدبي بسيط. وكما نعرف أن كتابة قصيدة على منوال وطالع معقد فلسفي ليس بصعوبة كتابة قصيدة بسيطة سهلة منجرفة ولكنها خلاقة. ومن بين هذه القصائد قصيدة "خريف الأقنعة "، ومنها أقتبس:
... " أنا متسول
ها أنا أشحذ أسناني على الأرصفة
وألحق المارة من شارع إلى شارع
أنا بطل.. أين شعبي ؟
أنا خائن.. أين مشنقتي ؟
أنا حذاء.. أين طريقي ؟ "
في اللحظة ذاتها التي يكون فيها شعر الماغوط واقعيا شفافا، فإنه يقوم بطريقة، غير مسفسطة، بقلب الكلمات وهدم المفردات من أجل بناء تعابير أخرى أكثر وضوحا: إنه يقوم بعملية " هدم الهدم " حتى يتمكن من إعادة صياغة الواقع في سلاسة شعرية لا تنجح عند الكثيرين دون سفسطة وفلسفة مما يدفع القارئ إلى الملل. بنفس الوقت هناك ثنائية الحذاء والطريق، الخائن والمشنقة، البطل والشعب، وهناك التسول.
والقصيدة الأخرى في هذه المجموعة هي"النخاس". ومنها أقتبس المقطع التالي:
"الاسم: حشرة
اللون: أصفر من الرعب
الجبين: في الوحل
مكان الإقامة: المقبرة أو سجلات الإحصاء
المهنة: نخاس...."
... "كل الفتوحات العربية
مقابل سرير
كل نجوم الشرق
مقابل عود ثقاب..."
هذه هي هوية النخاس في هذه القصيدة، وتبدو هذه الهوية ليست محشوة بالفتوحات والانتماء لتاريخ مجيد بل تشير إلى واقع متبعثر لا يمتد أكثر مما هو عليه. ونجد أن بعض الكلمات والتعابير تسبح بهدوء وبكثافة في قصائد الماغوط: عود ثقاب، الشرق، شعوب، نهد، قبلة.. الخ. ولكن هذه التعابير واضحة للقارئ وليست بحاجة إلى معجم يفسرها.
وفي هذا الكتاب أيضا نجد بعض الكتابات المسرحية. ومن هذه النصوص المسرحية نجد " العصفور الأحدب ". وتقول سنية صالح في مقدمتها عن هذه المسرحية: " لذا انعكست أوضاعه على أبطال العصفور الأحدب سجنهم، خلقهم مشوهين، وبأمزجة حادة، متقلبة وشائكة. المسافة في المسرحية لا تنقلهم نحو أحلامهم أو نحو الأفضل وإنما تحاصرهم. وعندما امتلكوا الحرية تغيرت مرتفعاتهم الإنسانية..."
ومن أحدث المسرحيات التي قدمتها فرقة الماغوط المسرحية، مسرحية «بدون كلام» عنوانها: ليش الحكي؟!، من إعداد وإخراج: وائل رمضان، عن عدة نصوص ماغوطية، لاسيما من: «سأخون وطني» وغيره، ومن بطولة: سلاف فواخرجي¬ نضال سيجري¬ طارق مرعشلي¬ حسام الشاه¬ لونا الحسن¬ رياض المرعشلي¬...الخ. وقد استطاع الشاعر السوري خليل صويلح أن يؤلف كتابين عن الماغوط هما: " نسر الدموع.. قراءات في تجربة الشاعر محمد الماغوط "، " اغتصاب كان وأخواتها " الصادر عن دار البلد في دمشق، وفيه حوارات مع الماغوط، أعدها الشاعر خليل صويلح.
&ويقول الشاعر محمد الماغوط في حديثه إلى الكتاب الثاني "رغم بؤس طفولتي فيها (طبعا هنا يقصد السلمية)، إلا أنها نمّت فيّ حسَّ التمرد، أما مغادرتي النهائية للسلمية فكانت بين 1955، أو.. 1956، عندما اعتقلت لأول مرة، وكان المكان الأول الذي أزوره خارجها: سجن المزة ". ويقول أيضا " كنا أنا وأدونيس في زنزانتين منفصلتين، وكنت أراه من بعيد، وبداياتي الأدبية الحقيقية كانت في السجن. معظم الأشياء التي أحبها أو أشتهيها، وأحلم بها، رأيتها من وراء القضبان: المرأة¬ الحرية¬ الأفق".
ويقول الماغوط عن رفيقة دربه سنية صالح " تعرفت عليها في بيت أدونيس في بيروت، وهي شقيقة خالدة سعيد زوجة أدونيس، وحين عدت من لبنان الى سورية، جاءت هي للدراسة في جامعة دمشق، وساعدتها في استكمال أوراق الجامعة، ثم نشأت بيننا قصة حب عاصفة ". وكان قد كتب على قبر زوجته: ‏ "هنا ترقد الشاعرة سنية صالح آخر طفلة في العالم ".
ومن أبرز عبارات الماغوط أيضا:
"الطغاة كالأرقام القياسية، لابد من أن تتحطم في يوم من الأيام". ‏
&"لا يوجد عند العرب شيء متماسك منذ بدء الخليقة حتى الآن سوى.. القهر". ‏
&"الغرب وضع الإنسان العربي أمام خيارين: البوط العسكري أو.. العمامة". ‏
&"محاصر بين تيار العولمة، وتيار الأصولية، فكيف أوفق بين الاثنين.. هل أصلي على الانترنت؟!". ‏
&"أخذوا سيفي كمحارب، وقلمي كشاعر، وريشتي كرسام، وقيثارتي كغجري. ‏
ثم أعادوا لي كل شيء، وأنا في الطريق إلى.. المقبرة!. ‏
ماذا أقول لهم أكثر مما يقوله الكمان.. للعاصفة؟".&