منذ أن أعلنت نتائج الانتخابات العامة في جورجيا في الثاني من نوفمبر 2003 خرجت إلى شوارع العاصمة الجورجية تبليسي مظاهرات سياسية عارمة أدت في نهاية المطاف إلى رحيل الرئيس إدوارد شيفرنادزة الذي قدم استقالته حقناً لدماء أبناء شعبه وسلامة وطنه كما يقول، وانقشع الغبار عن تولي رئيسة البرلمان السابقة نينو بورجا نادزة منصب رئيس الدولة بالإنابة إلى أن تجري انتخابات عامة جديدة يتم من خلالها اختيار رئيس جديد للدولة·
ولكن استقالة شيفرنادزة وتغيير الطاقم الحاكم في جورجيا لا يعني بأي حال من الأحوال أن تتمكن البلاد من تجاوز محنتها وتدهور اقتصادها بلمسة سحرية من يد القادمين الجدد· فهؤلاء يعلمون جيداً بأنهم لا يستطيعون فعل الشيء الكثير وإن تحركوا بسرعة لإحداث الإصلاحات· وأول ما يتوجب عليهم القيام به هو موازنة طموحات وتطلعات الجماهير الجورجية مع الواقع الاقتصادي الأليم الذي تعيشه بلادهم، لذلك فإن شهر العسل الذي سيعيشه من وصلوا إلى الحكم حديثاً سيكون قصيراً جداً، ربما أقصر مما يتصورون·
والواقع هو أن ما حدث لشيفرنادزة يوم الأحد 23/11/2003 يعيد إلى أذهاننا الثورات الشعبية التي حدثت في أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينيات، وإسقاط ديكتاتور صربيا سلوبودان ميلوسوفيتش عام ·2002 إن كلتا الانتفاضتين الجورجية وقبلها الصربية وعقت في أعقاب نتائج انتخابات عامة مزورة كانت فيها المعارضة فائزة ولكنها حرمت من جني ثمار ذلك الفوز· إن قلب نتائج انتخابات الثاني من نوفمبر 2003 الذي قام به أنصار شيفرنادزة كان بمثابة الشرارة التي أوقدت الانتفاضة التي أوقعت به· إن النشاط والحيوية المفعمة التي تشعر بها الآن فئة سياسية موالية للغرب نتيجة لقدرتها على الانتصار على النخبة الحاكمة السابقة لابد وأن تحد منها وتهدئها التحديات الجسيمة التي تنتظر الحكام القادمين الذين كانوا يجلسون في خانة المعارضة قبل أيام· إن هذه الجمهورية التي تعتبر صغيرة إلى حد ما بالمقاييس الغربية وتقطنها كثافة سكانية تبلغ حوالى خمسة ملايين نسمة توجد فيها مقاطعات موالية لروسيا ليس من المتوقع لها أن ترضخ بسهولة لمشيئة الحكومة المركزية بعد أن رحل شيفرنادزة·
وقي قطر لا زالت فيه الأواصر الأسرية والفئوية والولاءات القومية القائمة على العرق أو الدين قوية فإن من غير المؤكد أن يتمكن الحكام الجدد من تجاوز المشكلات الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بالفساد والرشوة والمحسوبية، وهي جميعها عوامل أدت إلى اهتزاز سمعة شيفرنادزة لدى المجتمع الجورجي· إن عدم الاستقرار الذي يلم بجورجيا الآن هو مثال واضح لما يجري على كامل ساحة دول القوقاز ودول آسيا الوسطى الممتدة من البحر المتوسط إلى الصين، فجميع هذه الجمهوريات الجديدة التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي واقعة الآن تحت حكم ديكتاتوريات يقودها سياسيون من مخلفات الاتحاد السوفييتي السابق·
وما يعطي تلك المنطقة الشاسعة أهمية هي المصالح الاستراتيجية الضخمة لدول الغرب وروسيا، فهذه المنطقة تقبع تحت أراضيها كميات ضخمة من النفط الخام الذي يحتاجه الغرب وروسيا، وتشكل أراضيها معبراً لمرور الجماعات المسلحة التي تنتقل بين باكستان وأفغانستان والشيشان· إن جورجيا تقع في منطقة مهمة يمكن أن تمر بها خطوط أنابيب تحمل النفط من مكامنه في بحر قزوين إلى الغرب دون أن تمر بالأراضي الروسية أو الإيرانية· تلك الحقيقة أدت بدول الغرب وخاصة الولايات المتحدة إلى ضخ مليارات الدولارات في اقتصاد جورجيا خلال العشر سنوات الماضية على أمل أن تؤدي دورها في تحقيق مصالح الغرب لديها·
إن القيادة الجديدة مطالبة بالتركيز على الصعيد الاقتصادي على رغم أن الفساد المستشري لا يزال مشكلة صعبة· وفي خطابها الذي ألقته بعد تسلمها السلطة مباشرة قالت الرئيسة المؤقتة الجديدة إنه بسبب ما حدث من تزوير في الانتخابات الرئاسية، وما تمر به البلاد من ظروف صعبة فإن البرلمان السابق الذي كانت ترأسه هي ذاتها سيبقى يمارس صلاحياته إلى أن تجري انتخابات جديدة·
وفي خطوة أرادت من خلالها الرئيسة المؤقتة أن ترسل إشارة إلى الجماهير بأهمية عودة الأمن والاستقرار إلى البلاد دعت جميع الشخصيات الرسمية العليا إلى اجتماع عاجل فور توليها السلطة رسمياً· إن ما ينتظر جورجيا على مدى المستقبل المنظور كثير ومعقد ومتشابك، فمن الملف الاقتصادي إلى الملف الأمني إلى العلاقة مع روسيا من جانب ومع دول الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأميركية من جانب آخر· ولكن عودة الهدوء والاستقرار تعتمد كثيراً على ما يمكن للنخبة الجديدة أن تنجزه على صعيد الملف الاقتصادي أولاً·
*المستشار الثقافي بسفارة دولة الإمارات العربية المتحدة - واشنطن
الاتحاد