من المعروف أن حملة الانتقادات لإدارة بوش، ولغزو واحتلال العراق وممارسات سلطات الاحتلال، تتصاعد يوما بعد يوم داخل أمريكا. الذي يقرأ مثلا بانتظام مجلة "نيوزويك" الأمريكية الواسعة الانتشار، سوف يجد انه لا يكاد يخلو عدد من أعدادها من خطابات يبعث بها أمريكيون عاديون يوجهون فيها انتقادات لاذعة لإدارة بوش ولاحتلال العراق. ولقد استقبلت في الأسبوع الماضي أستاذتين أمريكيتين فاضلتين زائرتين للبحرين. ودار حديث طويل معهما حول السياسة الأمريكية في المنطقة بصفة عامة وفي العراق بصفة خاصة. وقد اكتشفت انهما تتفقان مع وجهة النظر التي توجه انتقادات شديدة لإدارة بوش وسياساتها.
الشيء الغريب أنه بدلا من أن تأخذ إدارة بوش تصاعد الانتقادات على هذا النحو من داخل أمريكا نفسها، وفي العالم كله بالطبع، بعين الاعتبار، وان تغير من سياساتها وتحاول أن تعالج "ورطتها" في العراق، تصر على المضي قدما في نفس السياسات والممارسات، وتصر على استفزاز العالم كله. ولننظر فقط إلى القرار الغريب الذي اتخذته مؤخرا بحرمان كل الدول التي عارضت غزو العراق، والتي ترفض إرسال قوات إلى العراق، من أي نصيب في عقود إعادة الإعمار. هذه الخطوة وحدها تنسف كل الدعاوى والذرائع التي تبرر بها أمريكا استمرار احتلال العراق، وتكشف عن النوايا الأمريكية الحقة في العراق. بداية، هي خطوة تمثل انتهاكا للقانون الدولي ولكل قواعد التجارة العالمية الحرة بحسب قواعد منظمة التجارة العالمية على نحو ما أعلنت الدول الأوروبية بالفعل، وليس هذا بالأمر الغريب على الإدارة الأمريكية على أية حال. فلم يعرف عنها منذ مجيئها إلى السلطة، في أمريكا أي احترام للقانون الدولي، وأي احترام للمنافسة الاقتصادية الحرة، ولا للقواعد والمواثيق الدولية. وإذا كانت روسيا والدول الأوروبية، قد عبروا عن رفضهم لهذا القرار الأمريكي من منطلق ان شركاتهم ومصالحهم الاقتصادية سوف تتضرر، فإن القرار يكشف عن جوانب أخرى أكثر خطورة. لقد ظلت إدارة بوش تردد منذ حتى ما قبل الاحتلال انها غير طامعة في ثروات العراق، وانها انما قامت بالغزو والاحتلال كي "تحرر" الشعب العراقي وتضمن له مستقبلا أفضل. فماذا يعني هذا القرار إذن؟.. ألا يعني رغبة مبيتة أكيدة لنهب ثروات العراق لحساب الشركات والمؤسسات الأمريكية وحدها؟
وظل الأمريكيون يرددون باستمرار أنهم حريصون أشد الحرص على أن يتولى الشعب العراقي حكم نفسه بنفسه، وانهم يعتزمون نقل السلطة إلى العراقيين في أسرع وقت. لكن الأمر العجيب أنه في مسألة أساسية مثل هذه، مسألة عقود ضخمة لاعادة الإعمار، تهم العراقيين قبل أي أحد آخر، لم يهتم الأمريكيون بأخذ رأي العراقيين أنفسهم فيها. لم يهتموا حتى بأخذ رأي "مجلس الحكم" في العراق الذي نصّبوه هم بأنفسهم واختاروا أعضاءه. فكيف يمكن أن يصدق العراقيون أو أي أحد في العالم بعد ذلك، دعاواهم حول تسليم السلطة للعراقيين؟ وما معنى أن تعلن الإدارة الأمريكية هكذا صراحة أنها بهذا القرار تعاقب الدول التي ترفض إرسال قوات إلى العراق على نحو ما تريد؟ معناه أنها تريد أن تبتز دول العالم كلها، فإما ان ترسل قوات كي تحمي بقاء الاحتلال واستمراره في العراق، وإما أن تكون عرضة للعقاب بمثل هذا الشكل. هذا في حد ذاته أسلوب لا أخلاقي، وخاصة إذا لاحظنا أن أمريكا سبق أن دعت دول العالم إلى التبرع لإعادة إعمار العراق. وعندما عقد مؤتمر بهذا الخصوص، تبرعت كثير من دول العالم بالفعل بأموال طائلة. أي أن أمريكا تريد أن تجبر دول العالم على تمويل احتلالها بالمال، وحمايته وضمان بقائه واستمراره بالقوات، والا فسوف تعاقبها أشد العقاب. ماذا يبقى إذن من دعاوى الاحتلال ودعاوى الحرص على مصلحة العراقيين ومستقبلهم بعد ذلك؟