د. عبد الرضا الفائز&
&
&
&
صباح يوم بصري حزين من شهر آب عام 1993 وقبل الفجر في هرج صامت، ووسط وداع عائلي حزين ومتكتم كان وداعا مع والدة ملتاعة تلف ذراعاها بلوعة حول عنق في وداع لن يكون له لقاء (وقد كان). تلقف أخوة وبعض من أولاد أخوات بهدوء حقائب وأكياس متاع الى سيارة بالخارج، ودون معرفة الجيران والأقارب كانت المغادرة، والظلام لا يزال مسبلا بأتجاه بغداد الى الأردن. ووحدي كنت أبكي بحرقة دموع على فراق أهل ووطن نتوضوء بطهر ترابه. وكان التساؤل لماذا نغادر الوطن، ولماذا يكون للسفلة والجهلة والأميين القتلة والمرتشين دون الأنسان تحت راية عبث ودعم المرتشين؟ ومرت عشرة سنوات.
بعد التحرير من الكابوس وسنواته الثقال، وفي الباخرة العائدة الى ميناء أم قصر كنت ألمم شتات الذاكرة عن الوجوه الحبيبة القريبة والصديقة وعن الأزقة والبيوت والذكريات التي سرقت. كيف يكون العراق؟ وقد تحرر من حفاري المقابر الجماعية وحاملي أسياط البطش والنذالة وفاقدي امتيازات التفريق وكوبونات السرقة وعشاق أستعباد الأنسان، أزلام القتل والأغتصاب والعهر، ومزوري الكلمات والمباديء.
قبل السفر الى العراق قال واحد من المعارف: أياك الخروج وحيدا (خصوصا بعد المغرب) ولاتنسى حمل السلاح. قبل الوصول بقليل قال زميل عمل ورفيق سفر: ترى كيف أصل بغداد لو رست الباخرة بعد الظهر؟ سؤال غريب على الناس الآخرين، لكنه ليس كذلك بالنسبة للعراقيين. وبين الركاب، كانت الصراحة والراحة على الوجوه. فقد سقطت جمهورية الخوف والشك والتربص ومغارات الرعب في سلطة الكذب والنفاق. ولأول مرة تكون الحدود غير مسكونة بالخوف والرعب كما كانت كل أيام المقبورين.
في اليوم الثالث للرحلة وحين رست الباخرة، كان اللقاء حارا ومبكيا وهو يعتصر كل آلام السنين الثقال. صغارا لم تر وجوههم قبلا وكبارا تغيرت وجوههم ليس قليلا وآخرين أختفوا. المفاجأة الكبيرة كان العراق. فكل ما قيل عن الأمن والسلامة سقط في لحظات. لقد كان الأمر طبيعيا. الشوراع في ليل رمضان كانت ممتلئة كالمساجد والحسينيات. عشرات مقاهي الأنترنت في اشد زحامها. أطباق الفضاء، البعبع الذي كان يخيف النظام البغيض قد أنتشرت في أغلب البيوت. محلات بيع الهاتف النقال لم تكن كثيرة لكنها ليست غريبة كما كانت أيام عهد بلا رجعة ولى. الأمان كان طبيعيا. فحتى ما بعد منتصف الليل كان شارع الجزائر في البصرة ينبض بالحياة من زحام لا يصدق من سيارات بآخر الموديلات ومشاة يرتادون مطاعم ومقاهي ومحلات. محل أسمه "دولار" للصرافة كان باقيا يعمل بلا مظاهر حماية أو حراسة (رغم تأخر الليل بعد أنتصافه)، وعلى وجوه العراقيين كان البشر والتفاؤل وعلى موائدهم كان الخير بدل الجوع الذي أدمنوه أيام سلطة حقراء النضال وسراق المباديء والمال ومشوهي الأفكار وخازني مليارات الحرام في عشرات القصور والأطيان وبنوك الأجانب.
في اليوم التالي للوصول، أبتدأ سيل من الأقارب والأصدقاء في الزيارة مما عكس حال الأرتياح عند الناس. وكان الجميع بالخير مستبشرين وللعبث وصدام لاعنين. عند زيارة مدن الجنوب الأخرى مرورا (الناصرية والسماوة والحلة وكربلاء والنجف) كانت البصرة الأفضل في خدمات الكهرباء والوقود. وفي كل المدن، فأن حال الدمار الذي تركه أهمال النظام البغيض للبنية التحتية المدمرة لا يمكن أغفاله أو منع التحسر عليه. وكانت معجزة الأنذال أنهم جوعوا بلدا يملك النفط والماء والبشر والسياحة وكل الثروات الطبيعية والتعدد. قال أبن أختي: أنها لعبة أيجاد الأخطاء السبعة بين رحيلك ووصولك يا خالي، لقد كان زمن بغيض (بلد نفطي بيد عفطي).
وطوال كل الرحلة لم يكان هناك تدهور أمني كما تقول لنا الفضائيات العربية (الظلامية)، وعراق الخير تحرسه غيرة العراقيين وحبهم. من قصص "المقاومة" التي يذكرها الناس بأشمزاز وأحتقار: الدراجة المفخخة التي أريد منها أن تكون كمينا لقتل أطفال مدرسة وبرميل النفاية المفخخ في تقاطع طرق بالبصرة، والقنبلة التي قتلت تلميذين ومعلمتهما في كربلاء. غير ذلك لم يقال ما يعكر.
في منطقة البراضعية وميتان في البصرة حيث قصر الطاغية المقبور وأسيجته المبالغ أرتفاعها والذي يصل طول كل ضلع فيها أكثر من كيلومتر ونصف وبأبراج حراسة عديدة مزودة بغرف من كواتها كانت فوهات الدوشكا تظهر لتذكر الجيران الفقراء في أكواخهم البائسة ان صادم الزمان ولعنة الرجال ومنة الأنذال موجود، بأمره تزال مدن وتمحى قرى كما حصل في الدجيل وآلاف قرى الشمال والأهوار، ومن عطاءاته يعتاش الحقراء ويجوع الشرفاء. وكان يكفي ان ترى ضخامة القصر وأسيجته وتشاهد أكواخ القصب والطين للمساكين المقهورين بالسفلة والمسروقين بالنذالة جنب ذلك السياج الملعون الذي قطعت كل النخيل حوله (حتي التي عبر شط العرب من الجهة الأخرى) لتشعر بالغثيان من الحرامية الثوار وانت تتذكر اللؤماء والأشرار الذين كافحوا بضراوة من أجل ماكانوا يسرقوه في دفاعهم ضد تحرير العراقيين من الجوع والتشريد والتهجير والأفقار والسجون والمقابر. ولقد ذهب أؤلئك الى حيث يجب ان يذهبوا يوم سقوط الصنم، الا انهم وكعادة بواقي الفضلات والأزبال تتعلق أجزاء في الجوانب وتتمسك بالحوافي لكنها في الأخير تذهب الى حيث يجب ان تكون. كذلك حال اللصوص الذين يقاومون اليوم رياح الحرية والديمقراطية والمساواة والعدل والخير والتقدم في العراق الجديد بالقتل والأرهاب والجرائم. أن همهم أعلافهم وغرائزهم، أما قيمتهم فما يخرج منهم. فشكرا لكل الذين قاتلوا بضراوة من أجل أن يستقر الظالمون - الذين أتوا من مزابل الدنيا الى مزابل التأريخ.
عند العودة وحين تلامس قدمك بلدا آخر، وتلحظ التقدم والحضارة في بلدان هي جيران العراق أو في منطقته ولم تكن له سابقة قبل ظلام ذلك السرطان، حتى تشعر بالسرور والأبتهاج لتحرير العراقيين من أقسى وأبشع ماكنة همجية متخلفة عرفها تأريخهم الطويل، لكنك أيضا تشعر بالأشمئزار من كل أؤلئك الذين أرادوا أستمرار ليل العراق ليستمر تطفلهم الكريه في أستحذاء ذلك البلد العظيم، وتدرك لماذا يرفضون اليوم ديمقراطية العراقيين، ذلك لأنهم يطلبون ثانية ويتمنون دائما حاكما منبوذا مكروها من شعبه لينتصر بهم (مرتشين)، ولكل أمر ثمن، فيا لبؤسهم. لقد ذاق العراقيون اليوم الحرية، ولسوف يحموتها بالروح لأنها المعنى أن يكون لهم أنسانية ووطن.