عاطف أحمـد&
&
الحلقة الثانية
&فكلمات مثل "الحضارة و"الثقافة" كانت تعتبر، بالنسبة لزكي نجيب محمود في مرحلته الوضعية المنطقية الخالصة، كلاما فارغا من المعنى. فلا هي مفردات تخبر عن الواقع الخارجي بحيث تقبل التحقق من صدقها أو كذبها، ولاهى قضايا رياضية أو منطقية يقاس صدقها باتساقها الداخلي.
&لكن فكره شهد في وقت لاحق، تحولات جذرية جعلت، رغم عدم وضوح معالمها ولا اتساقها أو انتظامها الداخلي، من الممكن لكلمات مثل "الحضارة " و"الثقافة"، أن تحمل بالنسبة إليه، مثلنا جميعا، معني ما، وتصبح قابلة للتداول وللتحليل، وجعلته بالتالي يقول :
&بين الحضارة و الثقافة فكرا وفنا وأدبا-حركة جدلية لا تنقطع. فالرؤية الثقافية تتغير لسبب أو لآخر، لتتغير معها متجهات الإنسان و منجزاته، ومجموعة المنجزات التي تنشأ في مناخ متجانس موحد الهدف، هي الحضارة. وإذا أخذت الحضارة المستحدثة بعض شوطها عادت بدورها فأثرت في الحياة الثقافية. ( 196، حصاد السنين)
&بل أصبح يتحدث، مثلنا أيضا، عن التطور الثقافي والحضاري فيقول أن:مجموعة الأفكار من قبيل :الحرية المساواة- الديموقراطية-الانتماء-الوطنية.. يستحيل تعريفها تعريفا يبين حدودها الا على سبيل التقريب. وذلك لأن كل واحدة منها تنمو مع درجات النمو التى يصعد بها الانسان نحو الأكمل.
&فانسان العصر الحجرى لابد أن يكون قد احتفظ لنفسه بالحرية مثلا- بحد من حدودها وبمعنى من معانيها وجاءت بعده عصور الحياة البشرية تدرجا صاعدا، من مرحلة الصيد، إلى مرحلة الرعى، إلى مرحلة الزراعة، ثم إلى مرحلة الصناعة فى صورها التى تدرجت بدورها حتى بلغت ما يحيط بنا من صناعات تكنولوجية (ح. س- 179). فمثل هذه الفقرة، بما تتضمنه من مفاهيم عامة متتالية، كانت تعتبر من قبل كلاما فارغا من المعنى، لكنها أصبحت، دون تبرير نظري من أي نوع كان، كلاما مليئا بالمعاني.
&بل يصل الأمر لدي زكي محمود إلى أن يتبنى المفاهيم الدينية ذاتها ويسعى إلى التوفيق بينها وبين العلم لصالح الدين، إذ يقول: قد يحدث بين نصوص الدين ونتائج البحوث العلمية أن تخرج علينا بحوث العلم بنتائج نجد تناقضا ظاهرا بينها وبين نص من نصوص الدين. وها هنا يتطلب الأمر مخرجا لا ينتقص من الايمان شيئا ثم يحاول أن يرى الحقيقة العلمية فى ضوء يتسق مع ما يقتضيه ايمان المؤمن اذا كان مثل ذلك المخرج مستطاعا. فقد يكون العلم أخطأ جوهر الحقيقة (حصاد السنين-177).
بل إنه يتحدث عن الدين كما يتحدث الدعاة الدينيون لا الفلاسفة: " الدين " بحكم تعريفه امر إلهى، فإذا آمنت به لم يعد من حقك أن تغير فيه، شريطة أن يظل المؤمن المؤهل أن يرى الرأى فى فهم النصوص، لأن اللغة بطبيعتها كثيرا ما تفسح المجال لتعدد معانيها (حصاد السنين-177).
&معايير الصدق: فى مختلف مجالات الواقع الانسانى:
&وكان من الطبيعي بعد ذلك أن يتبنى معايير معرفية مغايرة لما كان يتبناه من قبل. حيث يقول : الصدق فى مجال العلوم الطبيعية والاجتماعية (أو الانسانية) يقوم على أساس الهيكل الصورى (حيث يلزم) أن يكون فى كل حالة صادقة من حالاتها جانبان متطابقان.
&فإذا كنت فى مجال العلم الرياضى أمام معادلة أو أمام فرض ونتيجة تلزم عنه. ففى كل من الحالتين انت امام طرفين ويتوقف الصدق على ما بين الطرفين من تطابق. حيث النتيجة لا تقدم لنا شيئا أكثر من أنها كررت الحقيقة الماثلة فى الفرض (184). والمهم هنا ألا نقيم على فكرة تستمد صدقها من طريقة بنائها، أى دليل على صحة أمر يتعلق بعالم الأشياء والظواهر (حصاد السنين_186).
أما فى مجال العلوم الطبيعية (التى أصبحت تشمل العلوم الاجتماعية أو الانسانية): فصدق القول هنا مرهون بتطبيقه على الواقع بأن نرجع إلى الظاهرة ذاتها التى جاء القانون قانونا لها أو جاء أى قول يدعى له أنه يصف أمرا من أمور الواقع (حصاد السنين- 187).
&أما الصدق بالنسبة للعبارات الدينية، فله معيار مستقل بذاته ومتعال على سواه، ذلك أن : الايمان هو ادراك بالبصيرة أو الحدس. أى ادراك حقيقة ما ادراكا مباشرا لا يستند فيه إلى تعليل أو تحليل أو اقامة الدليل (حصاد السنين- 191).
&لذلك يكفى (لكى يتحقق الصق فيه) أن يكون منعكسا فى المواقف السلوكية لصاحبه: ففى اقتران الايمان" بالعمل الصالح اقترانا مطردا فى الكتاب الكريم دليل على معنى الايمان أصدق دليل" (حصاد السنين- 192)
أما الصدق فى الفن والأدب فيجئ على ثلاث خطوات: تطابق بين الحالة التى احسها المبدع والشكل الذى استعان به فى اخراجها. ثم تطابق بين ذلك الشكل عند وقعه على المتلقى وبين ما يستثيره فيه من حالة نفسية داخلية يرجح لها أن تجئ شبيهة بما انطوت عليه ذات المبدع حين أبدعت
&ويبدو زكي نجيب محمود هنا شديد التأثر بالنظرية التصويرية للغة لدى فتجنشتاين والتي تعتبر أن اللغة هي بمثابة صورة مرآوية تفصيلية للواقع بحيث يمكن قياسها على الواقع كلمة كلمة.
&فعلى الرغم من أن فتجنشتاين قد تخلى عنها لصالح نظرية مغايرة تركز على الاستخدامات العملية للغة في الحياة اليومية؛ ظل زكي محمود، فيما يبدو، متشبثا بها حتى النهاية.
&فهو لا يزال يتصور أن اللغة، بمختلف المجالات والمستويات التي تنتمي إليها، وبمختلف الموضوعات التي تتحدث عنها، يجب أن يتطابق فيها طرف ما مع طرف آخر حتى تصبح صادقة. لذلك يجهد نفسه بلا طائل في البحث عن الطرفين في كل حالة علي حده. سواء أكان ذلك في العلوم الطبيعية أم الإنسانية أم الرياضيات أم المنطق أم الفن والأدب أم الدين.
&لكن فكره شهد في وقت لاحق، تحولات جذرية جعلت، رغم عدم وضوح معالمها ولا اتساقها أو انتظامها الداخلي، من الممكن لكلمات مثل "الحضارة " و"الثقافة"، أن تحمل بالنسبة إليه، مثلنا جميعا، معني ما، وتصبح قابلة للتداول وللتحليل، وجعلته بالتالي يقول :
&بين الحضارة و الثقافة فكرا وفنا وأدبا-حركة جدلية لا تنقطع. فالرؤية الثقافية تتغير لسبب أو لآخر، لتتغير معها متجهات الإنسان و منجزاته، ومجموعة المنجزات التي تنشأ في مناخ متجانس موحد الهدف، هي الحضارة. وإذا أخذت الحضارة المستحدثة بعض شوطها عادت بدورها فأثرت في الحياة الثقافية. ( 196، حصاد السنين)
&بل أصبح يتحدث، مثلنا أيضا، عن التطور الثقافي والحضاري فيقول أن:مجموعة الأفكار من قبيل :الحرية المساواة- الديموقراطية-الانتماء-الوطنية.. يستحيل تعريفها تعريفا يبين حدودها الا على سبيل التقريب. وذلك لأن كل واحدة منها تنمو مع درجات النمو التى يصعد بها الانسان نحو الأكمل.
&فانسان العصر الحجرى لابد أن يكون قد احتفظ لنفسه بالحرية مثلا- بحد من حدودها وبمعنى من معانيها وجاءت بعده عصور الحياة البشرية تدرجا صاعدا، من مرحلة الصيد، إلى مرحلة الرعى، إلى مرحلة الزراعة، ثم إلى مرحلة الصناعة فى صورها التى تدرجت بدورها حتى بلغت ما يحيط بنا من صناعات تكنولوجية (ح. س- 179). فمثل هذه الفقرة، بما تتضمنه من مفاهيم عامة متتالية، كانت تعتبر من قبل كلاما فارغا من المعنى، لكنها أصبحت، دون تبرير نظري من أي نوع كان، كلاما مليئا بالمعاني.
&بل يصل الأمر لدي زكي محمود إلى أن يتبنى المفاهيم الدينية ذاتها ويسعى إلى التوفيق بينها وبين العلم لصالح الدين، إذ يقول: قد يحدث بين نصوص الدين ونتائج البحوث العلمية أن تخرج علينا بحوث العلم بنتائج نجد تناقضا ظاهرا بينها وبين نص من نصوص الدين. وها هنا يتطلب الأمر مخرجا لا ينتقص من الايمان شيئا ثم يحاول أن يرى الحقيقة العلمية فى ضوء يتسق مع ما يقتضيه ايمان المؤمن اذا كان مثل ذلك المخرج مستطاعا. فقد يكون العلم أخطأ جوهر الحقيقة (حصاد السنين-177).
بل إنه يتحدث عن الدين كما يتحدث الدعاة الدينيون لا الفلاسفة: " الدين " بحكم تعريفه امر إلهى، فإذا آمنت به لم يعد من حقك أن تغير فيه، شريطة أن يظل المؤمن المؤهل أن يرى الرأى فى فهم النصوص، لأن اللغة بطبيعتها كثيرا ما تفسح المجال لتعدد معانيها (حصاد السنين-177).
&معايير الصدق: فى مختلف مجالات الواقع الانسانى:
&وكان من الطبيعي بعد ذلك أن يتبنى معايير معرفية مغايرة لما كان يتبناه من قبل. حيث يقول : الصدق فى مجال العلوم الطبيعية والاجتماعية (أو الانسانية) يقوم على أساس الهيكل الصورى (حيث يلزم) أن يكون فى كل حالة صادقة من حالاتها جانبان متطابقان.
&فإذا كنت فى مجال العلم الرياضى أمام معادلة أو أمام فرض ونتيجة تلزم عنه. ففى كل من الحالتين انت امام طرفين ويتوقف الصدق على ما بين الطرفين من تطابق. حيث النتيجة لا تقدم لنا شيئا أكثر من أنها كررت الحقيقة الماثلة فى الفرض (184). والمهم هنا ألا نقيم على فكرة تستمد صدقها من طريقة بنائها، أى دليل على صحة أمر يتعلق بعالم الأشياء والظواهر (حصاد السنين_186).
أما فى مجال العلوم الطبيعية (التى أصبحت تشمل العلوم الاجتماعية أو الانسانية): فصدق القول هنا مرهون بتطبيقه على الواقع بأن نرجع إلى الظاهرة ذاتها التى جاء القانون قانونا لها أو جاء أى قول يدعى له أنه يصف أمرا من أمور الواقع (حصاد السنين- 187).
&أما الصدق بالنسبة للعبارات الدينية، فله معيار مستقل بذاته ومتعال على سواه، ذلك أن : الايمان هو ادراك بالبصيرة أو الحدس. أى ادراك حقيقة ما ادراكا مباشرا لا يستند فيه إلى تعليل أو تحليل أو اقامة الدليل (حصاد السنين- 191).
&لذلك يكفى (لكى يتحقق الصق فيه) أن يكون منعكسا فى المواقف السلوكية لصاحبه: ففى اقتران الايمان" بالعمل الصالح اقترانا مطردا فى الكتاب الكريم دليل على معنى الايمان أصدق دليل" (حصاد السنين- 192)
أما الصدق فى الفن والأدب فيجئ على ثلاث خطوات: تطابق بين الحالة التى احسها المبدع والشكل الذى استعان به فى اخراجها. ثم تطابق بين ذلك الشكل عند وقعه على المتلقى وبين ما يستثيره فيه من حالة نفسية داخلية يرجح لها أن تجئ شبيهة بما انطوت عليه ذات المبدع حين أبدعت
&ويبدو زكي نجيب محمود هنا شديد التأثر بالنظرية التصويرية للغة لدى فتجنشتاين والتي تعتبر أن اللغة هي بمثابة صورة مرآوية تفصيلية للواقع بحيث يمكن قياسها على الواقع كلمة كلمة.
&فعلى الرغم من أن فتجنشتاين قد تخلى عنها لصالح نظرية مغايرة تركز على الاستخدامات العملية للغة في الحياة اليومية؛ ظل زكي محمود، فيما يبدو، متشبثا بها حتى النهاية.
&فهو لا يزال يتصور أن اللغة، بمختلف المجالات والمستويات التي تنتمي إليها، وبمختلف الموضوعات التي تتحدث عنها، يجب أن يتطابق فيها طرف ما مع طرف آخر حتى تصبح صادقة. لذلك يجهد نفسه بلا طائل في البحث عن الطرفين في كل حالة علي حده. سواء أكان ذلك في العلوم الطبيعية أم الإنسانية أم الرياضيات أم المنطق أم الفن والأدب أم الدين.
&ولعله من المناسب هنا ملاحظة:
1- أنه، على الرغم من أن معيار التحقق التجريبي بالنسبة للأفكار العلمية معيار سليم عموما، فإنه لا يقتصر على، بل ولا يقوم على التطابق المرآوي، إذ يمكن في كثير من الأحيان أن تكون المطابقة بين نتائج النظرية، وليس بين النظرية نفسها، وبين حقائق الواقع.
2- أن المطابقة في حد ذاتها ليست دائما هي معيار الصدق. إذ كثيرا ما نجد معايير منافسة مثل القدرة على تفسير الخصائص والمشكلات التي ترتبط بالظاهرة المعنية، ومثل فعالية النظرية فى الواقع العملي.
3- أن مفهوم الصدق نفسه لا يصبح ذا معنى إلا بالنسبة للخطاب العلمي، وأما أنواع الخطاب الأخرى، فلا توصف بالصدق أو الكذب أصلا. فالفن والأدب إنما يقيمان بالمعايير الجمالية ؛والرياضيات والمنطق يقيمان بعدم التناقض ؛ وأما الدين ومسائل الاعتقاد فهي مسائل تسليمية ذاتية لا تقيم أصلا من خارجها. وإنما تقيم من خلال ما تعنيه بالنسبة لمعتنقيها و من خلال الوظيفة الاجتماعية التي تؤديها في سياق تاريخي ثقافي معين.
&
&
التعليقات