جاسم المطير
&
حين مررتُ، سجيناً، ذات يوم ، منتصف الستينات، بالسجن العسكري رقم واحد تمهيدا لتسفيري الى سجن البصرة لحضور محاكمة قيادي بعثي والادلاء بشهادتي ضده باعتباره مرجعا لتعذيب معتقلين شيوعيين وصاحب امر بقتل بعض المعتقلين من رفاقي الشيوعيين انذاك بعد أن أستدعتني محكمة عسكرية خاصة في البصرة ــ وكمت انذاك في نقرة السلمان ــ بناء على طلب مباشر من عبد السلام عارف، التقيت في سجن معسكر الرشيد بحسن علي العامري الذي اصبح في ما بعد وزيرا للتجارة وقد زودته، أول يوم، ببعض المجلات والصحف والفواكه والمعلبات التي كنت قد جلبتها معي من الموقف المركزي في بغداد. كان معه في الموقف صدام وكريم الشيخلي . كنت اشاهد العامري والشيخلي يتمشيان معا في فترة التشميس ، نتحدث معاً في أمر بينما كان ثالثهم المدعو صدام حسين يظل قابعا في مكانه ولا يخرج للتشميس إلا وحيداً لمدة لا تزيد على عشرة دقائق يتمشى جيئة وذهاباً مطأطأ الرأس ، وقد توطدت بيني وبين العامري علاقة صداقة استمرت طويلا .
حين سألت العامري في اليوم الثالث عن سبب عدم خروج صاحبهم للتشميس همس بأذني (أن صدام يحب العزلة ولا يستطيع الخروج للشمس لأنه خان الحزب بأعترافاته في التحقيق الامني) واضاف ان هذا الشاب (يعني صدام) جبان وشخصيته مكونة من مجموعة من التعقيدات، من الحياة والاشخاص ومن الاشياء ايضاً.
قلت له ألم يكن هذا الاسم ضمن مجموعة اغتيال عبد الكريم قاسم فكيف تكلفون جبانا بالاغتيال، أجابني بهمس أشد (شعلينة.. لا عليك بما قيل ويقال فلكل حادث حديث) ..
مرت ايام وسنين التقيتُ بعدها بالعامري و قبل ان يصبح وزيراً للتجارة عينه صدام رئيساً للمؤسسة العامة للغزل والنسيج وتم اللقاء بيننا مصادفة في دار مصطفى الفكيكي بالاعظمية.
أول شيء فعله مسرعاً حسن العامري بعد مراسم السلام والتحية بيننا هو الأستئذان بالخروج قليلاً إلى خارج البيت وهو في غاية الأرتباك. قال لي بالحرف الواحد : (انني فتشت عنك في كل مكان بعد " الثورة " بهدف توصيتك بضرورة نسيان حديثنا في السجن العسكري نسياناً تاماً )..
سألته عن أي حديث تعني فاحاديثنا كانت كثيرة حول الوضع السياسي وحول جرائم الحرس القومي بحقنا وحول عبد الناصر وعبد السلام عارف فعن اي حديث تعني..؟
اجاب مرتبكا: لا أعني أياً من هذه الاحاديث. أعني حديثنا عن صدام الذي اصبح الآن نائب رئيس مجلس قيادة الثورة.
تعمدتً النسيان فقلت له أي حديث تقصد فأنا لا اتذكر شيئاً مما تقول. راح يذكرني بأقواله التي فاه بها أمامي في السجن عن جبُن وتعقيدات صدام وموقفه المتخاذل في التحقيق مؤكداً أن التفوه بأي كلمة من تلك الاحاديث ستأخذنا معاً إلى المشنقة لأن صدام حسين هو الآن الكل في الكل بالدولة.
وعدته بالنسيان وهو لا يدري أنني كنت أعيد حديثه في جلساتي مع الآخرين كلما ورد اسم صدام حسين أو حزب البعث. لكنني فعلاً ألتزمت بـ"وعد النسيان" بعد ذلك.
تذكرتُ هذه الواقعة يوم امس وأنا اشاهد في تلفزيونات العالم صورة صدام حسين خارجاً من جحرالجرذ وهو فاقد الصورة الآدمية تماماً شبيهاً تماماً بــ" جرذ كبير " ترتسم على ملامح وجهه بوضوح تام كل ملامح الجبن والخوف والاستسلام التي كان هو حتى قبل شهر واحد من الزمان يدعو اعضاء حزبه ومرتزقته، بالتسجيلات الصوتية، الى المقاومة والصمود والتحلي بالشجاعة والبطولة التي بدا لي فيها انها صفات مفقودة لديه مع أنه نصب على صدور الآخرين آلافاً من أنواع الشجاعة كما نوّطه شركاء جرائمه بأنواع غريبة عجيبة من شهادات وانواع الشجاعة.
لو كان واحدا غيره من مجرمين فاشيين من عصابته أظهره الامريكان بهذا الشكل المهين لأنسانية الانسان لبادرتُ مسرعاً لأستنكار هذا الفعل القبيح غير المنسجم مع مباديء حقوق الانسان السجين. غير أنني مقتنع في هذه اللحظة أن أهانة هذا الجبان فيه رد اعتبار لأنسانية المواطن العراقي والايراني والكويتي المعذبين بويلات صدام حسين وسلوكه الفاشي المتعجرف الذي ستر به جبنه لمدة 40 عاماً بقتل الناس والحروب وحرق القرى والمدن بالنابالم والسلاح الكيمياوي وبإبادة المئات من الاسرى الايرانيين والكويتين وبترويع عشرات الاطفال والنساء من الذين احتجزهم في منشآت التصنيع العسكري بعد غزوه الكويت..
حمداً لله أن هذا الجبان لم يقاوم. كان يملك مسدساً لم يقاوم به الجندي الذي اعتقله ولم ينتحر. فلو قاوم لمات حتماً.
لو كان صدام قد مات أثناء اعتقاله لأصبح في الحال جيفارا العرب ــ بلا تشبيه ــ يمجده ويحييه ويترحم عليه بعثيون عرب وقوميون عرب وفلسطينيون من منظمات المقاومة وافغانستانيون من جماعة الملا عمر، ولما كان المدعو عبد الباري عطوان يصفه اليوم بمقالته بصفة الدكتاتور وليس بصفته الشيخية الحليفة للشيخية اللادنية ولقامت اصوات اصدقائه ومراجعيه من امثال معن بشور ومصطفى بكري ومحمد المسفر وليث شبيلات وعبد العزيز الرنتيسي والسيدة رغدة ومحمد صبحي وغيرهم ولقامت المظاهرات في شرق بلدان العرب وغربها.
الآن، وأحمد الله ثانية، يجد صدام حسين نفسه منعزلا وحيدا جبانا لا يتشمس كما هي حقيقته ويصبح عارا وشناراً لكل من يدافع عن جبان سفاك لدماء الملايين لم يتشجع لسفك دم شرايينه السوداء.
&الحمد لله ان صدام حسين حي يرزق ليحضر بنفسه أروع وأوسع محاكمة عادلة علنية في التاريخ كله مع بداية الدخول الى الالفية الثالثة التي ستقدم دروسا عظمى للاجيال القادمة في نضالها من اجل الكرامة والحرية.
لم تعد حياة صدام حسين ملكا لمجلس الحكم العراقي ولا لشعب العراق ولا للقوات الامريكية بل للبشرية جمعاء تتطلع اليها بانتظاران تقاضيها بالعدل والعلانية امام العالم كله، شعوباً وحكومات،& لتنزل به قصاصها في مدينة بغداد التي ستشهد محاكمة العصر وكل العصور..
من المطلوب ان تكون محكمة العصر عراقية وان تكون لائحة الاتهام عراقية وان يكون القضاة عراقيون يضامنهم قضاة عالميون لتكون نموذجا لمذهب العدل والقانون يشع من بلد حمورابي ويؤكد للانسانية جمعاء ان الظلم لا يدوم وان الحق لا يتوارى وان الفاشية الى جحيم..
شع أول قانون من بلاد الرافدين.. والعدل القانوني المقدس سيشع من أمة تقاضي جلاد الشعوب..
&
التعليقات