عبدالله الحكيم من جدة: كانت الحرب الفيتنامية في منتصف الستينيات الميلادية تعرف في الوسط الامريكي على أنها حرب مكنامارا، فعلى مدى سنوات سبع عددا بقي السيد مكنامارا وزيرا للدفاع الأمريكي ابان الفترة الرئاسية لكل من كينيدي وجونسون، فيما انحدرت سمعته لاحقا بفعل الازدراء الى حظي به الى الحضيض.
لقد سجل التاريخ لنا عددا من الأحداث التي واكبت بمنتهى السخرية منجزاته السياسية، ففي عام 1965 اشعل أحد معارضي الكويكرز النار في نفسه تحت نافذة مكتب وزير الدفاع في البنتاجون. وبعد ذلك بسنتين حاول ناشطون مناهضون للحرب الفيتنامية احراق منتجع وزير الدفاع في ولاية كولارادو احتجاجا على هذه الحرب. وفي عام 1972 رسم فنان تشكيلي امريكي مكنامارا وهو على ظهر مركب بحري يوشك ان يقذف به وسط أمواج متلاطمة الى أتون الغرق في المحيط.
لكن وزير الدفاع الأسبق لم يقف مكتف الأيدي حيال هذه الذكريات التي كان طرفا أساسيا فيها، فبعد ربع قرن من الزمان خرج مكنامارا عن صمته وكتب أفضل مذكراته جاعلا من تداعيات الحرب الفيتنامية أجندة لتصفية حسابات عامة عن سنوات الحرب.
غير أنه بعد وفاة ثلاثة ملايين فيتنامي واكثر من 58 الف امريكي كوقود لتلك الحرب، رأى كثير من الناس أن مكنامارا لا يعبر كثيرا من خلال تلك المذكرات عن أي وازع أخلاقي، فقد كانت تلك المذكرات التي يستعيد من خلالها مرويات الحرب الفيتنامية في أفضل الأحوال مجرد تصفية حسابات،& وفي أسوأ الأحوال فقد كتب أحدهم ذات مرة تعليقا عليها أنها تتناول بورتريهات لمجازر دموية، ناهيك عن كون مكنامارا لا يتمتع بأي فضيلة أو مصداقية موضوعية، فهو صاحب مصلحة من وراء رواية تلك الاحداث.
غير أنه بعد وفاة ثلاثة ملايين فيتنامي واكثر من 58 الف امريكي كوقود لتلك الحرب، رأى كثير من الناس أن مكنامارا لا يعبر كثيرا من خلال تلك المذكرات عن أي وازع أخلاقي، فقد كانت تلك المذكرات التي يستعيد من خلالها مرويات الحرب الفيتنامية في أفضل الأحوال مجرد تصفية حسابات،& وفي أسوأ الأحوال فقد كتب أحدهم ذات مرة تعليقا عليها أنها تتناول بورتريهات لمجازر دموية، ناهيك عن كون مكنامارا لا يتمتع بأي فضيلة أو مصداقية موضوعية، فهو صاحب مصلحة من وراء رواية تلك الاحداث.
فذات مرة في اصدار صحافي لعام1995 ازدرت صحيفة النييورك تايمز في مقال صحافي لاذع ادبيات الاعتذار واسلوب ذرفه الدموع عن فترته الوظيفية كوزير للدفاع الامريكي، فبعد ثلاثة عقود من استغراقه الوظيفي اثارت الصحيفة مفارقات بين مصير الضحايا ومواقف مكنمارا الذي برغم ادعاءه النزاهة وتوظيفه لحبكة المعاناة الشخصية في مذكراته لا زال الى وقت ما يحظى بامتياز وظيفي في البنك الدولي وامتيازات أخرى مقابل منجزاته القومية.
من هنا يثير الجدل حول فيتنام ومكنمارا تشابكا في الأحداث، فعلى مدى سنوات الحرب أفرز التداخل ثغرات لا يمكن تناولها بسهولة، غير أن أحد مخرجي الافلام الوثائقية يحاول، بجدارة الالمام بحرفة الاخراج السينمائي وبدراسته الفن والميتافيزيقيا والسلوك الانساني، فض هذا الاشتباك في فيلم وثائقي له بعنوان (ضباب الحرب) حيث يتناول في عمقه احدى عشر درسا من حياة مكنمارا، ناهيك عن كونه يضيئ بمنتهى حرفة الاخراج السينمائي جوانب من انزلاق الشخصية المسؤولة بارتكابها اخطاء مشينة تجاه اتخاذ قرارات تودي بحياة آخرين لمخاطر جادة وتدفع بارواحهم الى جحيم آخر من نوعه. ومع ذلك تحاول نماذج بشرية على هذا النحو تبرير أفعالها براحة ضمير وكأنها تؤكد لذاتها عصمة أخلاقية تقيها الانزلاق في مستنقعات آثمة.
ولكن فيما يحاول مكنمارا استخدام هذا الفيلم كمصدر دعائي لدروس تعلمها في ستة عقود من الزمان كحصيلة لحياته العامة، فانه من الواضح ان المخرج ايرول موريس لديه ورقة عمل أخرى تتمثل في البحث عن اجابة لاسئلة يتورط فيها رجال يدعون استقامة وحشمة وهم يحاولون التعليق بتبريرات غير طبيعية على أفعال بغيضة.
واذا ما سلمنا لحقيقة أنهم يفعلون ذلك حتما، فكيف يمكن لهم من نواح أخرى التفاعل على نحو متبادل مع ضحاياهم عبر كتابة مذكرات ثم اذ هم يتقمصون جلودا غير جلودهم، ولا تنكفئ وجوههم حين يتحدثون عن تجارب غير لائقة، فكيف لهم في الوقت نفسه تجاوز البصيرة الانسانية لكي يتعايشوا مع ضمائر يفترض ان تسكنها الفجيعة والندم.
واذا ما سلمنا لحقيقة أنهم يفعلون ذلك حتما، فكيف يمكن لهم من نواح أخرى التفاعل على نحو متبادل مع ضحاياهم عبر كتابة مذكرات ثم اذ هم يتقمصون جلودا غير جلودهم، ولا تنكفئ وجوههم حين يتحدثون عن تجارب غير لائقة، فكيف لهم في الوقت نفسه تجاوز البصيرة الانسانية لكي يتعايشوا مع ضمائر يفترض ان تسكنها الفجيعة والندم.
لقد أراد لويس موريس وهو يضع السؤال التأنيبي في أثر آخر اضاءة فضاء من ذاكرة القرار الأمريكي وذلك بفضح عقليات تقود هذه الذاكرة العملاقة دون أن يتوافر بحوزتها& خطاب صحيح لتقويم الاخطاء التاريخية، وهو الامر الذي يساعد كثيرا في عدم الافادة من مواعظ التاريخ.
والسيد موريس باحث من الدرجة الأولى وقد استخلص من مكنمارا عددا من الاعترافات المروعة، وقد اخرج الفيلم في وقت كان فيه الامريكيون يتأهبون لخوض مستنقع الحرب وهو يركز جدا على تصوير كيف يقع الجنود ضحايا للطيش الايديولوجي والادعياء الاستخباراتيين والليبرالية الرعناء.
أنه يطرح السؤال دون مواربة لعموم من يريدون التفكير على نحو آخر في أمريكا متخذا من التمادي بجهل أخطر عدو يمكنه تضليل امريكا في الوصول الى اهداف صحيحة بطرق صحيحة.
أنه يطرح السؤال دون مواربة لعموم من يريدون التفكير على نحو آخر في أمريكا متخذا من التمادي بجهل أخطر عدو يمكنه تضليل امريكا في الوصول الى اهداف صحيحة بطرق صحيحة.
على أن توجهات موريس السياسية ليست بأكثر من اهتماماته الميتافزيقية، فهو مثلا اثناء نقاشه لشخصية مكنمارا تناول الدرس الاول الذي يؤكد من خلال ممارسات مكنمارا على التقمص العاطفي للاعداء. ولذلك يروي موريس لاحقا في مقابلة اجريت معه على هامش تدشينه الفيلم في نيويورك أن اهتمامه بشخصية مكنمارا تنبع اساسا من كونها شخصية تتوافر فيها عنصر افتتان ذاتي لا يتوقف عند حد معين بل على العكس فتتطورات هذا الافتتان تتجاوز حدود اللياقة العادية الى درجة يعتقد فيها اشخاص يعانون من فرط الافتتان بذواتهم أن اعمال الشر التي يمارسونها ليست سوى اعمال تتوافر فيها القيم والفضيلة.
هنا يقترب موريس من استشكاف المنطقة الرمادية في الفضيلة الانسانية بما يتفق مع رؤيته الميتافزيقية لواقع الفضيلة الانسانية بوصفها قيما ثابته وغير قابلة للتلاعب أو التجزئة ولا يتفق من نواح أخرى مع اعادة تقييم روبرت مكنمارا لوقائع سردياته عن ايام فيتنام بغض النظر عن كون مكنامارا يقدم من خلال مذكراته الغارقة في افتتان الذات مذكرات تنتمي الى أدب الاعتراف.
&
التعليقات