&
جاسر الجاسر
كان الإصلاحيون السعوديون؛ بجميع أطيافهم الوطنية والمذهبية والسياسية، يتفقون على وجود معوقين أساسيين يؤخران المسيرة الإصلاحية، وقد يوقفان انطلاقتها، وربما أدخلاها في دهاليز ومتاهات لا تخرج منها إلا بعد عقود إن لم تزد دهراً.
أول هذين المعوقين: البطء البيرو قراطي الرسمي في اتخاذ إجراءات وخطوات جادة لتفعيل النوايا التحديثية التي عبرت عنها الحكومة مراراً والذي لم يسفر حتى اللحظة سوى عن خطوتين لا زالتا في دائرة النوايا دون الفعل، وهما مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، وانتخابات المجالس البلدية.
المعوق الثاني: حضور تيار إسلاموي قوي ومتماسك، ويتحرك وفق استراتيجية محددة، ويتمتع بتأثير بالغ على المستويين الرسمي والشعبي. و لايتفق مع مطالبات الإصلاح سوى في نقطة واحدة هي الانتخابات ليقينه بأنه فارسها والمحتكر لها، استناداً إلى تغلغله الاجتماعي الراسخ منذ حادثة جهيمان العتيبي. هذا التيار يحارب، علناًً وخفية، كل الاجتهادات الإصلاحية، إما لأنها ستمنح خصومه "العلمانيين" كما يسميهم، فاعلية وحضوراً لم يتمتعوا بها منذ الستينات الميلادية، أو لأنها ستقلص، بالضرورة، مكتسباته الوافرة، وتقتطع منه لقمة هنيئة مرئية.
الإصلاح في السعودية هو مسيرة طفل أعاقه الشلل، وأقعده سوء العناية وفرقة الأهل. بدأ ضعيفاً، متردداً، مرتبك الملامح، وهاهو يوشك أن يتفتت وهو لم يبلغ عامه الأول بعد. وأسباب هذا الخلل متنوعة، بعضها واضح ومكشوف، والباقي مخبوء قد تكشف عنه الأيام، أو صدور حاضنيه.
أهم نقاط الضعف المسيرة الإصلاحية، افتقادها القوة والفاعلية، فهي لم تنشأ ذاتياً، ضمن ظروف سياسية وأمنية معاكسة، بل نمت وترعرت، ما جعل مكتب القيادة، حسب رواية بعض المتهكمين، ممتلئاً بالبيانات والمعاريض، وأنه يتلقى بياناً جديداً قبل أن يفرغ من قراءة سابقه.
والملاحظ أن بيانات 2003، توالدت بسرعة البرق، وتزاحمت مطالبها، وتضاربت مساراتها حتى لكأن بعضها يأكل بعضاً، تماماً مثل الألعاب النارية؛ صاخبة ومتلالئة لحظة اشتعالها، خامدة ومتهاوية عند انطفائها السريع.هذه البيانات ولدت في بيئة رخية مطمئنة، فيها من الأمن أكثر من الخوف، ما يسمح بالقول إنها "مسيرة إصلاح ناعم". فهي عملياً، تفتقد الجرأة والثبات اللذين تمتعت بهما "مذكرة النصيحة" الصادرة عام 1992، التي ظهرت في ظل ظروف ضاغطة، وتحملت كل الآثار السلبية لموقفها الحاد.وللإيضاح فإن هذه المذكرة كانت من إعداد التيار الإسلاموي الصحوي، مدعوماً بتأييد وتعاطف التيار الديني التقليدي.
هذا الظهور المفاجىء للإصوات الإصلاحية، ذات الطابع اللبيرالي، علمانياً وإسلامياً، يشكك في جدية نوايا بعض رموزها، ويثير تساؤلات حادة: هل الغاية هي الإصلاح أم أن النجومية الذاتية هي المنتهى؟ وهل الهدف إسماع الحكومة السعودية أم الإدارة الأمريكية؟ وهل الصدق هو منشأها، أم أنها نبت المجالس والمنتديات؟
هذه أسئلة مشروعة تحتمها معطيات كثر، ويفجرها البيان الأخير المعنون بــ"نداء وطني..."، والذي كان بمثابة طعنة غادرة ومميتة لكل جهد إصلاحي نما وترعرع حتى أوشك أن يزهر الربيع القادم، لكن قتله أصحابه من حيث يظنون أنهم يزيدونه نمواً وصلابة وارتواءا.
هذا البيان حالة غريبة في جميع تفاصيله، وربما جاز القول أن فيه من النزق والتهور أكثر ممافيه من إصلاح. والمؤسف أنه يهدم جهداً جباراً بدأ منذ إصدار وثيقة "رؤية لحاضر الوطن ومستقبله" مستهل هذا العام، والتي تميزت يصدق لهجتها، وحماسها الوطني الفائض، ووعيها بالحاجات الإصلاحية الماسة، ويقينها بوجوبية التعاون المشترك بين القيادة والشعب، عبر لغة مهذبة في خطابها، ودقيقة في دلالاتها، ومتراتبة في مطالبها. تلك الوثيقة دومت الساحة السعودية، وتقبلتها الحكومة بترحاب، ثم أعقيتها بعد ستة أشهر مذكرة "دفاعاً عن الوطن" فكانت تذكيراً بالمطالب، ودعوة إلى تسريع وتيرة الإصلاح، وتأكيداً على الوحدة الوطنية، وكونها المنطلق والغاية. وحظيت هي الأخرى باهتمام رسمي ايجابي، وخلال أقل من شهر، ألتقى بعض قياديي الموقعين الأمراء: سلطان بن عبدالعزيز، نايف بن عبدالعزيز، وعبدالعزيز بن فهد، وتنامت مؤشرات كثيرة على أن خطوات ايجابية ستتحقق، وفجأة ظهر بيان "نداء وطني: إلى القيادة والشعب معاً..الإصلاح الدستوري أولاً" ليكون طعنة قاتلة لكل إصلاح، وليبعد الأسماء المستنيرة من إسلامويين وليبراليين، من دائرة الضوء بعد أن أصبحوا من أهل الرأي والحل والعقد، واستمسكوا ببعض خيوط صناعة القرار، كما أحدث شرخاً عميقاً وجذريا في وحدة الصف الاصلاحي، ونسف كل جهوده، وأشغله بنفسه وإعادة ترتيب أوضاعه.
الملاحظات على البيان الأخير كثيرة جداً، ومن أهمها النقاط الآتية:-
·&البيان في مجمله يفقتد الدقة والوضوح وصرامة المفردة؛سياسياً وقانوناً، خصوصاً أنه يطالب بتعديل دستوري جذري. وغلبت عليه لغة حماسية جياشة أفرزها أسلوب استطرادي انفعالي ما أدى إلى تكرار طاغ للمفردات والعبارات بشكل فج جمالياً، ومضلل دلالياً، كما كثرت الأخطاء الإملائية ما يدل على أن كاتبه ومراجعه هما شخص واحد، ألف أخطاءه، واستمتع بعباراته الفضفاضة فلم يكن للتصحيح والتدقيق أهمية تذكر.
·&بدا البيان من عنوانه أنه برنامج حزب معارض، أو حكومة ظل، هو يخاطب الحكومة والشعب من زاوية خارجية لا تتقاطع معهما، فإن لم يكن هذا صوت حكومة ظل مهمشة فهو وصاية على الطرفين، ونصح لهما بما فيه صلاحهما، وكأن الموقعين هم الأعلون، بينما القيادة والشعب من المريدين والتابعين. ويلاحظ أن البيان ربط بين الحكومة والشعب بكلمة "معاً" فجعلهما شركاء في كل خلل، وأنهما مقصران بالدرجة ذاتها. وهكذا لم يعد في الأمة من الصالحين سوى الموقعين على البيان دون غيرهم.
·&اعتبر الموقعون على البيان أنفسهم أعضاء حزب سياسي داخلي يتولى عملية الإصلاح، ويحدد معاييرها، فهم "يقدمون أنفسهم على أنهم دعاة للمجتمع المدني، ودعاة للإصلاح الدستوري معاً". الطريف أن استخدام "معاً" يتكرر حتى ليوشك أن يكون شعاراً للحزب الوليد.
·&الأمر الأكثر غرابة هو الموقف العجيب، والموجب للتساؤل حول الموقف من الإرهاب، إذ حرص البيان على تحاشي كلمة الإرهاب واستبدالها بكلمة "العنف" في نحو 13 موضعاً. وهذا موقف خطير يتنافى مع بديهيات ومبادىء العملية الإصلاحية، وإذا كان البيان يعتبر العمليات الإرهابية الدامية مجرد عنف، فإنه، تالياً، جناح سياسي داخلي لمنظمة القاعدة، وإن كان الظن أن السبب في ذلك هو السذاجة السياسية، وحسن النية في استقطاب قيادات إسلاموية للتوقيع على البيان، يدعم هذا الظن أن فضاء البيان كان إسلاموي الرائحة، في مداهنة واضحة، ومنافية لقيم الإصلاح من أجل إقناع رموز إسلاموية بالتوقيع، انطلاقا من نية طيبة في منح البيان طابعاً وطنياً شمولياً، إلا أنها كانت محاولة فاشلة، بينما كسب الإسلامويون من جانبين: ترفعوا عن التوقيع على البيان، وحظوا بدعاية مجانية تخدم طروحاتهم مستقبلاً. ويبقى السؤال لماذا الإصرار على جنب تسمية الإرهاب بإسمه؟ ومن هو الشخص أو الأشخاص الذي كان صاغة البيان يرغبون في ضمهم، بينما هم يرون أن التفجيرات الحادثة في السعودية ليست إرهاباً؟ وإذا كان الأمر كذلك فأي إصلاح هذا الذي مبتدأ أمره التحالف مع الإرهاب ؟
يضاف إلى ذلك قولهم "وليس انفجار العنف، إلا كتلة الجليد الظاهرة، منجبلها الثلجي العميق الغور". لا درجة تفوق الإرهاب عدا قيام إنقلاب عسكري، أو انتفاضة شعبية عامة.
·&يلمز البيان الحكومة، ويلمح لها باستمرار الإرهاب الذي يسميه تلطفاً وتلطيفاً بــ"العنف"، مالم تنفذ الإصلاحات الواردة في البيان، والحق أنه تلميح يتلبس مظاهر التهديد المبطن والخفي. يقول البيان "ليس نمو العنف إلا أحد إفرازات الإقصاء" أي غياب المشاركة الشعبية. لا شك أن المشاركة الشعبية مطلب وطني ينادي به الجميع بما في ذلك القواعد من النساء، لكن لا أحد يقر بهذا التحليل الخاطىء الذي يفقز فوق كل الوقائع والحقائق المرتيطة بالإرهاب. ويقول البيان أيضاً "لن نستطيع عملياً أن نقول: لا للعنف، إلا إذا قلنا: نعم للمشاركة الشعبية والتعبير الأهلي المدني السلمي. تعبيراً حراً مسؤولاً وتجمعاً واعتصاماً وتظاهراً".كما أن الموقعين لا يعتبرون الإرهاب نتاج خلل في المسار الديني المحلي بل هو بسبب غياب الانتخابات "ويرون أن مكونات العنف ليست ناتجة حصراً عن مناهج التعليم الديني، وإنما هي حتماً إحدى إفرازات غياب المشاركة الشعبية عن القرار الحكومي". إذا كان الإرهاب هو أحد الإفرازات، فما هي الإفرازات الأخرى التي لا يعلمها سوى "دعاة المجتمع المدني" الجديد؟ وهل هي بخطورة الإرهاب أم أنها أشد وأسوأ؟
·&يربط البيان بين منهجه ووسائل الإعلام الصهيونية بسذاجة غريبة، ومن خلال طرح غير مبرر، إذ يظهر على أنه جزء منها، وإن كان يختلف معها مرحلياً إذ يقول أن الموقعين "لن يجاروا وسائل الإعلام الصهيونية والأمريكي، التي تريد أن تبرىء ساحتها من أن تعاملها في فلسطين والعالم العربي والإسلامي؛ هو السبب الخارجي في شيوع العنف، فتحاول تحميل الإسلام وقيمه ومناهج تعليمه، فاتورة الغلو والتطرف، ولن يسوقهم تباطؤ الدولة في اتخاذ خطوات أساسية لتجسيد المشارك الشعبية المطلوبة، إلى الإحباط واليأس، وتبرير مآسي العنف".
هل إذا استمرت الحكومة على بطئها فهل سيصاب الموقعون باليأس، ويقررون، تالياً، تبرير مآسي العنف؟ثم أنه لا يوجد شيء إسمه "مناهج تعليم الإسلام" وإنما هناك مناهج تستند إلى مفاهيم إسلامية معينة في طروحاتها التربوية، وهي وضعية تختلف من بلد إلى آخر. ولعل الموقعين يقصدون الاتهامات الأمريكية القائلة أن مناهج التعليم السعودية ذات الطابع الديني هي المسبب الرئيس للإرهاب!
·&يطالب الموقعون في أكثر من موقع بنشوء مؤسسات المجتمع المدني، وللإيصاح فإن مؤسسات وأشكال المجتمع المدني هي نتاج الديمقراطية وليست أصلاً لها، و مؤدباً طبيعياً وحتمياً إليها، كما قرر ذلك أ كثر الباحثين من أجانب وعرب. وحتى لو تحققت، مبدئياً، فإنها قد تستحيل إلى مؤسسات بيروقراطية ذات مظهر ديمقراطي شاحب، مثل ما هو قائم في دول عربية كثيرة. الإصلاح يجب أن ينشأ من أسس جوهرية محصنة ضد الاختراق، ومستعصية على الاحتواء. أما المظاهر فهي لبوس تتبدل حسب الحالات والأجواء. ويبدو أن الموقعين من شدة حرصهم على المجتمع المدني باشروا في تطبيق مفاهيمه عن طريق تنعيم الإرهاب وتمدينه ليصبح مجرد "عنف" مستأنس!
·&طالب البيان الحكومة الالتزام بعدم "المساس بحق الناس في التجمع والاعتصام" وبالنيابة عن الحكومة السعودية جزم أنها لم تمنع الناس من ذلك، ولن تستطيع لو أرادت، لكنها تمنع مواطنيها فقط!
يا ترى كيف ينجح بيان في تحقيق ي نوع من الإصلاح وهو لا يجيد اختيار عباراته، ولا يميز بين دلالاتها، وكيف يؤتمن هؤلاء على مصالح الأمة وهم يتقطعون فوضى وتبايناً على كل المستويات؟
·&في واحدة من مظاهر التخبط والقلق، ومحاولة إرضاء كل الأطراف، نافق البيان الأمراء، وزعم أنهم أحرص على الإصلاح، وأشد تمسكاً به. إذا كان هذا القول حقاً فما هي الحاجة إلى البيانات؟ أم أن المسألة هي القيام باستباق إصلاح مرتقب من أجل الادعاء بأنهم أصحابه، والقائمون عليه؟ أما إذا كان هذا الزعم لم يقله الأمراء، أو أنهم لا يسعون إليه، فهذا تملق ونفاق، ومطامح شخصية، وليس إصلاحاً وطنياً بأي حال من الأحوال.
·&يوجه البيان نداءا إلى "الشعب بكل أطيافه وشرائحه ولاسيما علماء الشريعة والفقهاء وطلاب العم الشرعي بتأييد الدعوة إلى الإصلاح الدستوري". بعيداً عن كون هذا المقطع يدعو إلى تظاهرة شعبية يقودها المتدينون، فإن اللافت فيه أن يستحضر مبدأ "التكثيف" الكيميائي، فهو يختصر كل الشعب في الفقهاء وطلاب العلم الشرعي باعتبار أن بقية الشعب لا قيمة حقيقة لهم، ولا قدرة عندهم على التأثير، حتى طلاب العلم "العلماني" أي طلاب الجامعات غير الدينية. وفي هذا خلل خطير يجعله مجرد مطية لطروحات إسلاموية مستترة.
·&الخلاصة أن البيان لا علاقة له بالإصلاح حتى وأن تسلح بعبارات براقة مثل "الملكية الدستورية" وكذلك "نواب الشعب" التي أبهرت الكثيرين وطاروا بها فرحاً، دون أن يهتموا بتفاصيل البيان، وهي التفاصيل ذاتها التي جعلت مجموعة من أهم المثقفين الذين وقعوا على وثيقة الرؤية، يتبرأون من البيان الأخير لأن قبولهم يصنفهم خونة لقيمهم ومبادئهم الوطنية الراسخة التي عبروا عنها بوضوح سواء عبر البيانات السابقة، أو مقالاتهم الصحفية، ومشاركاتهم في الندوات الثقافية والتلفزيونية.
لعل هذه الجناية تسهم في تنقية وتطوير وتنسيق المسار الإصلاحي الوطني، ولا تؤدي، فعلاً، إلى وأده أو حتى تشرذمه، وتتسبب في انقسامات داخلية تجعل منه فرجة بعد أن كان صوتاً رائداً ومبهجاً.
[email protected]