خالد الغنامي
&
&
&
سيدي القاضي
عذراً، فلقد أتيت اليوم لأقف بين يديك، مستعيراً روب المحاماة الذي لا أستحقه.جئت إلى هنا لأترافع فيما أظنه قضية عادلة.أتيت اليوم لأدافع عن( محمد السحيمي) .ذلك المعلم الذي حكم عليه بالردة من عدة أسابيع.لم أكتب هذه المقالة تشكيكاً في علمك ولا في نزاهتك، لكنها رؤية أريد أن أشركك فيها من باب أننـا مرايا بشرية لبعضنا. أنا لا أعرف (محمد) ولم أره أبداً، لكنني إذ أدافع عن معلم مثلي، أشعر أني أدافع عن نفسي و عن كل المعلمين .المعلم هو ذلك المخلوق المستنزف التي يذرف صحته و شبابه ليجالس ابني و ابنك طوال النهار، ليعلمهم و يؤدبهم، دون أن يكون هناك مستشفى واحد يفتح أبوابه له. تلك الشمعة التي تحترق من أجل الآخرين. إنه الإنسان الذي يقوم بعمل الأنبياء، إنه من وصفه شوقي بقوله :
قم للمعلم وفـّه التبجيلا&&&&&& كاد المعلم أن يكون رسولا
ووصفه مدرس شاعـر بقصيدة تجمع الظرف و الألم فقال:
قم للمعلم وفـّه التركـيلا

إنني حين أنظر لقضية (محمد) أجد أنها لا تختلف عن حال كثير منا نحن المدرسون المسلمون الذين يخالفون تيار(الصحوة) في بعض أطروحاته. حين يذهب هذا المدرس لمدرسته يفاجئه زميل له برغبته في أن يهمس في أذنه بكلمة، فيفاجأ أن هذا الزميل لم يقل شيئاً يستحق هذه السرية. كل ما هنالك أن هذا الزميل أراد أن يشمّـك ليتأكد من أنك لم تحتس كأساً من الويسكي مع أطفالك بدلاً من قهوة الصباح. هناك من يعتقد أننا لا بد أن نجمع الفساد العقدي والفساد الأخلاقي . إن الاتهامات التي تحاك لنا ( باكاج) كامل لا بد أن نتسربله كله.
يفاجأ المدرس وهو يشرح مادته التي لا علاقة لها بالدين بطالب يقطع الشرح و يوقف الأستاذ ليسأل : ما حكم سماع الأغاني يا استاد ؟ ما حكم الدشوش ؟
من الواضح تماماً أن هذا الطفل البريء الذي اخفض مستوى براءته بعض الشيء، قد دفع لطرح هذا السؤال الورطة. كلنا يطرح علينا هذا السؤال، فنعود للدرس و نتظاهر بأننا لم نسمعه، لكن ( محمد) أجاب بما يعتقد أنه الحق.
لاموا ( محمد) لإعجابه بنزار و طه حسين، ولا أدري كيف يلام على هذا وأكثر العرب الذوّاقيـن للأدب تذهلهم الموسيقى التي تنبعث من مفردات طه حسين و نزار قباني. هذا لا يعني أبداً أن توافق طه فيما جاء في كتابه ( الشعر الجاهلي) ولا نزاراً في نظرته اللاإنسانية للمرأة. أما الصلاة و السلام على غير الأنبياء فهذه جائزة شرعاً ودليلها ما رواه البخاري( 3-286) و مسلم (1078) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بصدقة قال: اللهم صل عليهم. فأتاه أبو أوفى بصدقة قومه فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى.
ولاموا ( محمد ) لحبه لأبي محمد عبد الله الغذامي الذي ما زلت منذ ست سنوات أسأل الذين يكفرونه أن يروني عبارة كفرية واحدة في كلامه فينطلقون وهم يرسلون الوعود، و إلى الآن لم أظفر بإجابة.
و أما بالنسبة لاتهام ( محمد) بأنه يبيح الزنا واللواط، فهنا أتوقف لأقول: الزنا و اللواط مما علم حرمته في ديننا بالضرورة، ولا شك أن من أباحهما لم يؤمن بالإسلام أو خرج منه بعد دخوله فيه . لكنني أعود فأتساءل : هـل قال ( محمد) هذا الكلام بالفعل ؟ أم أن هذا فهم ، فهمه الشهود الذين ما زالوا صغاراً من تفريقه بين الحب والزواج. لعلك أن تعذر شكوكي لكنـني لم أستطيع أن أصدق أن مدرساً يدرس في السعودية يستطيع أن يقول مثل هذا الكلام .
أما إباحة العادة السرية، فالإمام أحمد بن حنبل كان يبـيحها ويقول: إذا خشي على نفسه الزنا فلا بأس، يقول القرطبي في تفسيره: "وأحمد بن حنبل على ورعه يجوزه و يحتج بأنه فضلة فجاز عند الحاجة." ( الجامع لأحكام القرآن : 12 98 ) و أباحه قبله ترجمان القرآن ابن عباس (جاء هذا في إسنادين عنه كما في سنن البيهقي: 7 119). ولم يزد ابن القيم على تشدده أن قال إنها مكروهة. و أياً كان، فهذا ليس من إنكار أمر معلوم من الدين بالضرورة.
&
سيدي القاضي:
لو فرضنا جدلاً أنه خرجت من ( محمد ) عبارة ما، تدل على الشك في الدين. ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك محض الإيمان، الحمد لله الذي رد كيده ( الشيطان) إلى الوسوسة". لقد روى الصحابي الحافظ الفقيه الجليل أبيّ بن كعب قصة ستبين للجميع كيف كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يتعامل مع حالات الشك. تعال وانظر، لقد روى مسلم في صحيحه (2-202) و أحمد في مسنده (5 127) أن أبي بن كعب قال: كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه . فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرآ فحسّن النبي شأنهما ( فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية) فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني، ضرب في صدري ففضت عرقاً و كأنما أنظر إلى الله فرقاً.
لم يعدم النبي صلى الله عليه وسلم أبياً، ولم يحاكمه حتى برغم تصريحه بأنه مر بلحظات قصيرة من التكذيب للدين، ثم حفظه الله بحفظه أن تطول.
سيدي القاضي:
ماذا لو أن أحداً سمع الحديث الذي يدل على أن الكلب نجس فقال : الكلب طاهر ولا أدري ما هذا الحديث؟ أكنت تكفره؟ إن مالك بن أنس إمام أهل الحديث كلهم قبل أن يولد أحمد بن حنبل هو من قال هذا ؟ أنظر( الاستذكار: 1 206 ) .
أتعلم أن صالح (جزرة) وهو أحد المحدثين الكبار كان يفصل ما تعلمه النبي عليه السلام من الطب عن النبوة. مرض مرة فأعطوه العسل و الشونيز( الحبة السوداء) فزادت حمّاه فدخلوا عليه وهو يرتعد و يقول: بأبي أنت يا رسول الله ما كان أقل بصرك بالطب. ( سير أعلام النبلاء: 14-29 ) فعلق الذهبي بقوله أن هذا من المزاح غير المقبول، لكنه لم يكفره و عده من عظماء العلماء المحدثين.
ماذا لو أن معاصراً هو الذي قال هذا؟ ماذا لو كان القائل هو غازي القصيبي أو عبد الله الغذامي أو تركي الحمد؟ لماذا اختلف الحكم والأصل في الجميع الإسلام؟ ما حمى التكفير هذه التي هجمت علينا؟
&أنا أجيبك: السبب هو أننا نعيش صراعاً لا هوادة فيه بين الحركات الإسلامية (الإسلام السياسي) الذي يختلف كثيراً عن مدرسة الفقهاء المذهبية المعروفة من جهة، وبين التوجه الليبرالي العلماني من جهة، وكل من يشك الإسلامويون السياسيون في كونه علمانياً سيحاولون إلحاق الضرر به بقدر المستطاع، و سيجلبون بخيلهم و رجلهم وسيحاولون توريط الفقهـاء والقضاة في معركتهم السياسية .
أما الإسلام فقد عـلـّمنا أن الأصل في المسلم بقاءه على دينه حتى يخرج منه بيقين لا شك فيه ولا ريب، وعلمنا القانون أن الأصل في المتهم البراءة حتى تثبت إدانته . لهذا كله فإنني كلي أمل أن يعاد النظر في قضية ( محمد ) مرة أخرى.
&كاتب سعودي.
[email protected]