إيلاف- نبيل شرف الدين: كشف ديبلوماسي سوفيتي سابق أن موسكو كانت تعرف منذ البداية برامج العراق النووية والجرثومية والكيماوية، وقال اوليغ غرينيفيسكي الذي شغل في السبعينات من القرن الماضي منصب رئيس قسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية السوفيتية ان موسكو "أغمضت عينيها عن برامج الرئيس العراقي صدام حسين النووية ضمن حسابات المواجهة مع الولايات المتحدة التي بلغت الذروة في تلك الفترة".
وفي دراسة هامة للسفير غرينيفيسكي، قال فيها إن واشنطن عملت على إخراج الاتحاد السوفيتي من عملية التسوية في الشرق الأوسط والحد من النفوذ السوفيتي في المنطقة وبدأت "تعاقب أصدقاء موسكو" عبر الهجوم الإسرائيلي على لبنان لإخراج منظمة التحرير الفلسطينية والتحضير لهجوم على سورية "عندها قررت القيادة السوفيتية تزويد السوريين بأفواج من الدفاعات الجوية مع طواقمها"، وفي الوقت نفسه راقبت سعي العراق إلى امتلاك أسلحة الدمار الشامل من دون ان تحرك ساكناً.
ويقول غرينيفيسكي ان القيادة العراقية انتهجت في تلك السنوات سياسة تنويع مصادر الأسلحة كي لا يعتمد تسليح الجيش العراقي على الدول العظمى وفي مقدمها الاتحاد السوفيتي، وبدأ العراقيون بشراء الأسلحة من فرنسا وايطاليا والبرازيل ويوغوسلافيا وحتى من سويسرا وغيرها، ويضيف: "سعى العراق الى ان يكون دولة عظمى اقليمية وقام بتكديس كميات هائلة من الأسلحة وقرر صدام طرح خطاب قومي جذاب بشن الحرب ضد ايران، لكنه أخطأ الحساب فالحرب ضد الفرس لم توحد العرب خلفه في حين كانت دول الخليج العربية تخشى النظام العراقي قدر خوفها من تصدير الثورة الايرانية وفضلت الحماية الأميركية على التحالف الاستراتيجي مع نظام بغداد".
ويشير الديبلوماسي السابق الى ان القيادة السوفيتية طلبت من الأجهزة المعنية معرفة خطط ونوايا العراق التسليحية، ويقول: "وصلتنا تقارير تؤكد ان العراق يقوم بأعمال محاطة بسرية تامة على حيازة الأسلحة النووية والجرثومية والكيماوية"، ويضيف: "كنا نعلم بهذه البرامج إلا أن الاتحاد السوفيتي لم يساعد صدام على امتلاك السلاح النووي بل فرنسا". ويتابع: "زار صدام حسين موسكو في أبريل من العام 1975 وكان آنذاك نائبا لرئيس الجمهورية، وكان الهدف من زيارته واضحا ومحددا فقد جاء لإبرام صفقة سلاح ضخمة والتعاون معنا في المجال النووي ووافقت القيادة السوفيتية بتزويد العراق بمفاعل نووي أكبر من المختبر النووي الذي أقيم في منطقة التويثة القريبة من بغداد العام 1968 بمعونة سوفيتية أيضا، الا اننا اشترطنا على العراق أن يكون عمل المفاعل بإشراف ورقابة وكالة الطاقة الذرية الدولية وللأغراض السلمية حصرا".
ولم يرق هذا الشرط لصدام الذي زار في سبتمبر من العام نفسه فرنسا"واستقبل بحفاوة منقطعة النظير، فقد اصطحبه رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك جاك شيراك في جولة على الساحل اللازوردي وعرج الاثنان على المركز السري الفرنسي لتصنيع الأسلحة النووية في كارداجيه واستمع شيراك باهتمام إلى طلب صدام التعاون مع فرنسا في المجال النووي ولم يسأل أحد لماذا يسعى بلد يحتوي على ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم إلى الحصول على الطاقة النووية".
ويقول: "اتفق الجانبان في تلك الزيارة على عقد تزود فيه فرنسا العراق بمفاعل نووي - مفاعل أوزيراك - ومختبر ايزيس، ولم يشترط الفرنسيون رقابة الوكالة الدولية للطاقة النووية وحين علم وزير الدفاع السوفيتي آنذاك ديمتري أوستينوف بالصفقة علق وهو المعروف بسلاطة اللسان قائلا: العن أمهاتكم أرى الفرنسيين يبيعون أمهاتهم من أجل المال ونحن هنا نتحدث عن المبادئ، وزمجر قائلا: العن أبو أمهاتكم ضيعتم علينا صفقة كبيرة".
ويشير غرينيفيسكي إلى أن الاستخبارات السوفيتية حصلت على معلومات تفيد بأن قيمة الصفقة العراقية مع فرنسا تبلغ زهاء ثلاثة مليارات دولار وان باريس زودت العراق مع المفاعل والمختبر 72 كيلوغراما من اليورانيوم المخصب "تتيح إنتاج قنبلة بحجم القنبلة التي ألقيت على هيروشيما" ويضيف : "في الوقت نفسه تعاقد العراق مع إيطاليا على شراء أفران نووية وبدأ برنامجا دؤوبا لتصنيع القنابل".
ويقول : "قام الموساد الإسرائيلي بتفجير السفينة الراسية في ميناء لاسبين سور مير قرب تولينو وعلى متنها المفاعل النووي الفرنسي في طريقه الى العراق يوم السابع من أبريل العام 1979 وادعت منظمة وهمية باسم (الدفاع عن البيئة الفرنسية) مسؤوليتها عن الحادث، لكن تقارير الاستخبارات السوفيتية (كي جي بي) أكدت ان عشرة من قوات الموساد الخاصة قامت بها، وقبلها فجر الموساد وفي الشهر نفسه المصنع الفرنسي الذي قام ببناء اجزاء المفاعل، بعد هاتين العمليتين صفى الموساد العالم العراقي الدكتور يحيى المشد الذي عثر عليه ميتا في غرفته في أحد فنادق باريس وكان يشرف على البرنامج النووي لصدام حسين".
ويضيف: "لم تثن هذه العمليات فرنسا عن مواصلة التعاون مع العراق، وتعهد شيراك لصدام توفير المفاعل خلال فترة قصيرة وهذا ما تم بالفعل، وقام العراقيون بشراء اليورانيوم المخصب من ايطاليا والمانيا واليورانيوم الخام من نيجيريا والبرتغال والبرازيل، وعقد وزير الخارجية السوفيتي اندريه غروميكو اجتماعا مع كبار مساعديه، وتلا في الاجتماع تقريرا يفيد بأن العراق يمكن ان ينتج قنبلة نووية بحلول العام 1983 وخمس قنابل مع بداية العام 1985، وان برنامجا واسعا للأسلحة الجرثومية والكيماوية يجري العمل عليه في العراق تحت غطاء تطوير الزراعة والمواشي وان وزارة الزراعة العراقية تعاقدت مع فرنسا مطلع العام 1974 لبناء مختبرات بكترولوجية بمشاركة معهد ميري الفرنسي".
ويقول: "حين تليت علينا هذه التقارير ودار نقاش عبر فيه البعض عن المخاوف من مغبة امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، تحدث اندريه غروميكو وزير الخارجية السوفيتي بهدوئه المعروف قائلا: لماذا هذا القلق؟ ان صدام حسين يقوم بلعبته الخاصة، وهو يتعامل معنا ما دامت له مصلحة، كما يتعامل مع فرنسا من المنطلق نفسه،و كذلك مع الألمان والايطاليين، وأضاف غروميكو: لا داعي للأوهام ويجب ان نعمل حيث توجد لنا مصالح وان نغسل أيدينا حين تنتفي هذه المصالح، وإذا تمكن العراق من تصنيع السلاح النووي فإن تطورات يصعب التكهن بها الآن ستحصل في الشرق الأوسط، والسؤال هل سيضربنا صدام بأسلحته النووية؟ كلا لا أعتقد لكن الأزمة في الشرق الأوسط ستدخل مرحلة نوعية جديدة وعندها سيجثو الأميركيون على ركبتهم أمامنا متوسلين أن نتدخل لتسوية النزاع في المنطقة".
ويروي السفير السوفيتي السابق كيف سمع بخبر قصف "مفاعل تموز"، ويقول: "ليلة السابع من تموز (يونيو) 1981 اتصل بي وعلى غير العادة في هذا الوقت المتأخر رئيس الدائرة الأولى في الخارجية (مكتب الاستخبارات) ياشوك وقال لي بصوت متوتر ان اذاعة بي بي سي اذاعت للتو خبرا يفيد بأن طائرات قصفت المفاعل النووي العراقي، وبعد ذلك وصلتنا من سفيرنا في بغداد باركوفسكي رسالة بالشفرة توجز قائلة: "في الساعة التاسعة من مساء اليوم استدعاني طارق عزيز على وجه السرعة، بعدها ورد تقرير بأن 14 طائرة اف-16 اسرائىلية عبرت الأجواء الأردنية والسعودية وقصفت المفاعل الفرنسي ودمرته تماما، اما المفاعل السوفيتي في منطقة التويثة فلم يتعرض للقصف وبقي سالما".
ويتابع : "أرعد وزير الدفاع اوستينوف وأزبد، وقال: يجب ان نزود العراق بأسلحة هجومية واتفق معه رئيس الأركان اغاركوف، لكن وزير الخارجية غروميكو رفض الاقتراح، والغريب انه غير رأيه بعد بضعة أيام وجاء طه ياسين رمضان إلى موسكو ومكث بضعة أيام إلى أن وافق المكتب السياسي للحزب على صفقة سلاح ضخمة تشتمل على طائرات ميغ - 25 وميغ - 23، وابرم عقدا بقيمة 15 مليار دولار للسنوات الخمس المقبلة".
ويقول: "طرح طه ياسين رمضان مجددا التعاون معنا في المجال النووي وفاتح رئيس الوزراء تيخينوف بالموضوع، ورد عليه انه غير مستعد للرد على الطلب فورا، وقال: نريد أولا معرفة حجم التعاون بينكم وبين الفرنسيين في هذا المجال وهل يقتصر على الطاقة النووية للأغراض السلمية، بعدها سندرس طلبكم؟"
ويضيف: "لم يشعر ياسين بالارتياح ورد قائلا: نريد التعاون معكم ومع فرنسا وقد اشترينا أسلحة من دول أخرى بقيمة 13 مليار دولار، فرد تيخينوف بغضب لسنا تجار أسلحة؟ وانتهى الاجتماع بتوتر، لكن بعد يومين وافق غروميكو على تزويد العراق بأسلحة هجومية شرط ان تحمل علامة إحدى الدول الاشتراكية وليس الاتحاد السوفيتي، ووقع الاختيار على تشيكوسلوفاكيا، أما موضوع التعاون النووي فلم يعد فتحه".