وحده الجزائري يتخاصم مع تاريخه، ويرفض أن يكون له انتماء مباشر بالأرض، وموثّق بلغة وثقافة. ونضال منطقة القبائل على الخصوص من أجل حماية الموروث الأمازيغي ليس أكثر من تأكيد للانتماء للجزائر بشرعية أكثر من شرعية العرب التي تقوم على الانتماء للاسلام.
لقد تضايق دعاة العروبة في مطلع الثمانينات في الجزائر من موجز للأنباء بالأمازيغية يبث على القناة التلفزيونية الجزائرية كل يوم على الساعة الواحدة ظهرا لمدة ربع ساعة، ولم يتضايقوا لأن 70% من برامج التلفزة الجزائرية أميركية فرنسية.
إن حساسية العرب الجزائريين من الأمازيغ قائمة على إحساسهم الفعلي بأنهم دخلاء على الأرض، إذ لا نجد في الجزائر أمازيغيا يمنع عربيا من التحدث بلغته، فيما يحدث العكس تماما إذا ما تواجدت أقلية أمازيغية في منطقة عربية، فإنها حتما ستتعرّض للتهكم.
ماذا يُضرّ العرب إذا ما سمحت الدولة بتعلم اللغة الامازيغية لمن يريد ذلك؟ إن رفضهم الاعتراف بهذه الثقافة تختفي وراءه أكثر من نية سيئة تجاه هذا الشعب.
وأغلب من تبنوا قضية الدفاع عن اللغة العربية، يبررون تهجمهم على الأمازيغ بنقطتين اثنتين:
أولهما أن الأمازيغ أصلهم عرب كما ورد في كتاب د.عثمان سعدي رئيس الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية "البربر الأمازيغ: عرب عاربة (وعروبة الشمال الإفريقي عبر التاريخ) اذ يقول:
"إن علم الجماجم أثبت بالدليل العلمي التشابه بين إنسان شرقي ليبيا وإنسان الجزائر وإنسان نيا ندرتال في فلسطين، مما يدل على أن أصلهم واحد. وحيث إن الهجرات كانت تتم من الشرق الى الغرب، وبما أن علماء السلالات يثبتون علميا أن مصدر هجرات حوض البحر المتوسط هي شبه الجزيرة العربية فإن الاحتمال الأرجح بل المؤكد أن البربر قبائل قدمت من شبه الجزيرة العربية..."وهذا الحديث متعلق بإنسان 43000 ق.م. ولهذا يبدو غريبا أن يعتبر د. سعدي إنسان هذه الحقبة عربيا قحا، خاصة أنه يناقض نفسه حين يعتمد على ما أورده أ. عبد الرحمن ياغي في كتابه حياة القيروان: "فريق من المؤرخين يرون ان أصل الحاميين والساميين واحد وأن مهدهم الأصلي كان شرق أفريقيا".
إن مشكلة المدافعين عن اللغة العربية في الجزائر تكمن في كونهم يريدون إلغاء موروث ثقافي ولغوي لمجرد إثبات ان هذا الانسان المقيم في الشمال الافريقي قادم من الجزيرة العربية بالتالي عليه إنهاء كل ما له علاقة بماضيه وارتداء ثوب وثقافة انسان شبه الجزيرة العربية منذ العصر الجاهلي الى اليوم.
تبدو هذه الفكرة غبية ومضحكة، خاصة حين يرتجف دعاة العربية من لغة الأمازيغ ويتحججون بحجج مضحكة أيضا ليثبتوا أنها مجرد لهجة ميتة.
لقد ولدتُ أمازيغية، مثلي مثل ملايين الأمازيغيين وحتى سن السادسة لم أكن أتقن غير الأمازيغية للتخاطب مع كل من يحيطون بي، وفي المدرسة تعلّمت الألفبائية العربية، لكنني في الثانية عشرة وإثر أحداث مماثلة لهذه التي حدثت في أيار (يونيو)&الماضي تعرفت على احرف اللغة الامازيغية، وعُلّمت الحيطان بعلامة ترمز للثقافة الأمازيغية وهي تعني حرف "ز" أو "Z&" باللاتينية.
وُزّعت الأحراف الأمازيغية على الطلبة في المدارس وتحمّس شباب للمطالبة بحقهم في إذاعة أغانٍ أمازيغية على التلفزيون، والسماح لهم بإقامة نشاطات ثقافية مثلهم مثل غيرهم.
غير هذا الامازيغ يعتبرون العربية والدين الاسلامي مكسبا، فيما دعاة العربية لا يعجبهم هذا الوصف. إن وضع الأمازيغ كوضع الهنود الحمر في أميركا، إذ من غير الممكن ان يدعي هندي أحمر أنه بريطاني لمجرد أن اللغة الانجليزية هي السائدة في أميركا.
لجأت إلى الكاتب علاّوة وهبي جروة الذي له اهتمامات في الموضوع فقدّم قراءة لما حدث في مناطق الأمازيغ من أحداث والكشف عن خلفيات أخرى للموضوع:
"أعتقد أنه لا يمكن أن تكون لهذه الاحداث قراءة واحدة انما قراءات متعددة. بتعدد أوجه الحركة (الاضطرابات) وبعيدا عن كل تشنج وانفعال، خاصة بعد ان بدأ الهدوء يعود "ظاهريا" الى المنطقة، يمكن للمرء ان يقف عندها وعلى الأقل هناك قراءتان لها:
القراءة الاولى اجتماعية
القراءة الثانية سياسية
وهناك طبعا قراءات اخرى ثقافية واقتصادية و.. و..
فالقراءة الاجتماعية تقول إن سبب الاضطرابات هو ما وصل إليه الوضع الاجتماعي من تدهور وانتشار البطالة و"الحقرة" الادارية وتعسف السلطات الادارية في تعاملها مع المواطن البسيط. وانعدام العدالة في توزيع السكن الاجتماعي، وغلاء المعيشة.
والحقيقة أن هذه المسببات او الاسباب لا تخص هذه المنطقة وحدها. فالبطالة منتشرة بشكل رهيب في كافة جهات الوطن وهناك ارتال كبيرة من خريجي الجامعات وفي تخصصات مختلفة تعاني من هذه الظاهرة فنسبة البطالة تفوق الثلاثين في المئة وهي نسبة عالية جدا.
كما أن التعسف الاداري وانعدام العدالة في توزيع السكن ليست وقفا على منطقة تيزي وزو وحدها "فالحقرة" والتهميش وغلاء المعيشة لا تخص منطقة دون اخرى. تبقى القراءة السياسية لهذه الاضطرابات، وهي ليست الاولى. ولا اعتقد انها ستكون الاخيرة وهذه القراءة لا بد من العودة فيها الى الوراء الى الاربعينيات، وحتى قبل اندلاع الثورة التحريرية.
فالذين قرأوا تاريخ الحركة الوطنية لا شك يعرفون ان بعض الشخصيات في تلك الحقبة سعت الى المطالبة بالانفصال عن الجزائر فقد قاد "ايت احمد" تلك الحركة، وهي ما عرف بالحزب البربري ولولا تدخل شخصيات مثلا كريم بلقاسم، وعميروش واوعمران للجم هذه الحركة الانفصالية يومها.. كانت المنطقة تعرف انفصالها، والتحاقها بفرنسا كمقاطعة لها استقلال ذاتي.
ويبدو ان هذا الشخص ما زال مصرا على مطالبه تلك.. فهو وحزبه "جبهة القوى الاشتراكية" ما زال يطالب مثلا بمجلس وطني تأسيسي. والذي يعنيه مثل هذا المجلس، هو ان تقسم البلاد الى اربع مناطق كبرى يكون لكل منطقة منها نظام حكم خاص ومنتخبون، يلتقون مع منتخبي المناطق الاخرى لتشكيل المجلس التأسيسي في شبه حكم فيدرالي. يتم انتخاب رئيس الدولة من خلاله في حين يكون لكل منطقة حاكم، وحكومة ومجلس (برلمان).
وقد تأكد ذلك وخلال الاضطرابات الاخيرة من خلال شعارات اللافتات التي رفعت في المسيرات، ومن خلال وجود "علم" غير العلم الجزائري المعروف. وهو علم يقال انه خاص بالمنطقة. وكذلك من خلال تصريحات بعض شخصيات الحزب، وحركة الثقافة الامازيغية.
وهكذا كما يتضح فإن الاضطرابات حتى وان كانت في منطلقها او في بدايتها مطالب اجتماعية، فإن إطارات حزب القوى الاشتراكية سرعان ما عملت على احتوائها وتحويلها الى حركة سياسية لتجدّد من خلالها ما كانت تطالب به منذ 1947. وقد حاول حزب التجمّع من اجل الثقافة والديموقراطية من جهته احتواءها باستقالته من الحكومة بحجة انه لا يمكنه المشاركة في حكومة تطلق الرصاص على ابناء الشعب، في حين لم يستقل من المجلس الشعبي الوطني "البرلمان".
من كل الذي قلته يتضح أن المطالبة بترسيم الامازيغية والاعتراف بها لغة وطنية ليس هو الدافع الحقيقي لأن هذا المطلب جاء في غمرة الاحداث. وتقويمها او تغطية عن المطالب الاخرى.
وعند هذه النقطة بالذات لا بد من القول بأن الامازيغية لا يمكن ان تكون حكرا على منطقة معينة دون غيرها، ثم لنا الحق في ان نسأل أية امازيغية على الدولة ترسيمها والاعتراف بها لغة وطنية؟ فنحن لدينا امازيغيات وليست امازيغية واحدة. هذا اولا وثانيا الامازيغية لهجات محلية ولم ترق بعد الى مستوى اللغة، وإذن علينا ان نبدأ العمل من الاساس، قبل اي شيء، واذكر كل هذا، انا مهتم جدا بالقضية، فأنا كذلك أمازيغي وأنا احمل لقب واحدة من اكبر القبائل الامازيغية، قبيلة جروة من منطقة الاوراس وبالضبط من مسكانة وهي قبيلة الكاهنة والامور موثقة تاريخيا ورغم ذلك لا اعرف كلمة واحدة من اللهجة الامازيغية لا الشاوية ولا القبائلية ولا المزابية، ولا الترقية، ولا الشناوية "نسبة الى شنوة".
ولقد قمت مرة بجمع كلمات معينة من هذه اللهجات من شبه قاموس بسيط. بأن وضعت جدولا ببعض الكلمات العربية ثم طلبت مقابلها بهذه اللهجات. فوجدت في النهاية أن المعنى ليس واحدا، والنطق ليس واحدا، إذن أية امازيغية على الدولة الاعتراف بها؟
فإذا كان الشاوي لا يفهم القبائلية، وكذا المزابي والترقي والشنوي، فلماذا تفرض عليه لهجة منطقة معينة. أليس الاجدر أن نبدأ بالعمل على البحث عن المشترك بين هذه اللهجات ووضع اسس قواعد لها وترقيتها الى مرتبة لغة وعندها نطالب بها لغة وطنية. لأنها تصبح لغة مشتركة بين الجميع ومكونة من الامازيغيات المختلفة.
إذن الامازيغية لم تكن هي المطلب الاساس في هذه الاضطرابات.
ورغم ان الامازيغية تراث مشترك بين كل ابناء الجزائر فإن منطقة القبائل تريد ان تجعل منها قميص عثمان ورغم ان الحديث عنها لم يكن حتى مسموحا به قبل احداث اكتوبر 1988 ودخول البلاد في مرحلة الديموقراطية والتعددية الحزبية حتى وإن كانت صورية، فإن الامازيغية قد دخلت مواد الدستور وهذا معناه اعتراف رسمي بها، كما كوّنت لها محافظة سامية وبدأ فعليا تدريسها في بعض المدارس كتجربة، قبل ان تعمّم وتصبح لغة اختيارية بالنسبة للتلاميذ كما انها دخلت نشرة الاخبار بالتلفزة الوطنية وهذه كلها علامات على ارادة السلطة السياسية على اعطاء هذه اللغة مكانتها اللائقة متى اصبحت لغة متوفرة على كل مقومات اللغة. ومتى ارتقت من لهجة الى لغة، وهذا لن يتأتى إلا بالبحث والعمل جديا ولا اظنه يحدث قبل سنوات وعقود، فاللغة لا تولد من فراغ ولا يمكن كذلك ان تكون خليطا غريبا لمفردات من الفرنسية والانجليزية، ولغات اخرى، ولا تملك الجدية خاصة بها تعتمد على الرموز والنقوش القديمة المعروفة بها كل القبائل الامازيغية، عوض الاعتماد على الابجدية اللاتينية.
لقد بدأت الامازيغية من الدخول الى حياة المواطن إذن وبالتدريج، لكن بالنسبة لرجال السياسة من منطقة القبائل، الامر لا بد ان يتم بسرعة، والملاحظ ان الخفي في هذا المطلب هو اللغة الفرنسية، لأن الامازيغية عاجزة لهجة ولغة عن مواكبة التطورات العلمية الجارية في العالم، فهي ما تزال بدائية، ولهجة قاصرة على استيعاب الكثير من المفاهيم العلمية الحديث. يبقى في نهاية المطاف ان ابعاد الذي حدث في هذه المنطقة ابعاد سياسية، وخلفياته سياسية كذلك وإن كانت تتستر وراء المطلب اللغوي. وبالعودة كما اسلفت الى سنة 1947 وحركة الحزب البربري ومطالبه وكذلك بالعودة الى احداث الثمانينيات والمطالب التي رفعت، وصولا الى الاحداث الاخيرة، وهي لن تكون الاخيرة، فإن الطموح بالنسبة لرجال السياسة من ابناء المنطقة هو الوصول الى الحكم الذاتي للمنطقة رغم كل ما يلوحون به من تكذيب في كل مرة تفشل فيها الاضطرابات ويتم احتواؤها وامتصاص غضبها وقد يضاف الى ذلك تلاعبات بعض اصحاب المصالح الكبرى من أرباب الحاويات الذين يحتكرون الاستيراد لمواد مختلفة وهو ما قد يفسر لنا كون أول ما يتم إحراقه في مثل هذه الاضطرابات هي بنايات الضرائب وإتلاف ما بها من وثائق أضف الى ذلك أن المطالبة من طرف هؤلاء بذهاب الدرك والأمن من المنطقة يعني ضمنيا ذهاب السلطة، اي رحيل كل ما يمثل السلطة السياسية وتعويضه بأمن محلي ومعناه حكم محلي".
من هنا يتضح ان قراءة الوضع على حقيقته تُزيّفُه دائما مطامع السياسيين ورجال المال، وكان احرى بالمدافعين عن اللغة العربية في الجزائر ان يقفوا ضد غزو الأمية وأشكال التخلف، فالعربية محمية من طرف الامازيغيين انفسهم، فكما ناضلوا باللغة الفرنسية ايام الثورة، ها هم يناضلون باللغة العربية بعد الاستقلال وأهمهم الطاهر وطار ورشيد بو جدرة وابراهيم سعدي وكلهم يتقنون اللغة الامازيغية، ويكتبون باللغة العربية دون ان يأخذوا أي دعم مادي من الدولة أو من جهات اخرى مثلما هو الوضع بالنسبة لعثمان سعدي الذي يُقال إن أبناءه لا يتقنون سوى اللغة الفرنسية. (الفاروق فضيلة - عن "السفير" اللبيروتية)