لايحتاج المشاهد الكثير من الوقت،كي يدرك الخطاب الذي يتبناه الإعلام العراقي المقّرب من الحكومة، والممثل بقناتي "العراقية" و"الفيحاء"، فبمجرد أن يدير الجهاز خلال وقته الفائض،حتى تفجعه تلك الثرثرة الروزخونية التي تكاد تشكّل العصب الفاعل في برامج هاتين القناتين: مذيع وجمهوره،وبينهما كتّاب قدامى وجدد، بعضهم إسترد شيعيته من شيوعيته أو بعثيته، وبعضهم عبر دروبه الى الليبرالية من خلال الانحياز الى الطائفة. كل هؤلاء يتبادلون العزاء على الموتى،يشقون صدورهم على مافعله العالم بالشيعة المظلوميين، وبأهل الجنوب على وجه التحديد. طبعا لن يخطر ببالهم أهل كربلاء والنجف،فهؤلاء لاتشملهم هذه المراثي الآن، بعد أن حلوا بدلا عن أهل تكريت في السلطة.
ربما من سوء حظ الشيعة في العراق، ان ينتهوا من فجاجة الإعلام الصدامي الى فجاجة لاتقل عنها عبر هاتين القناتين اللتين تتبنيان الدفاع عنهم.
وبدلا من أن يُنتشلوا من واقع ثقافي متخلف ساهمت الحكومات السابقة في خلقه، إنتهوا الى إعلام يزيدهم تخلفا أضعاف مضاعفة. فقد كانوا في الإطار الشكلي على الاقل،على مبعدة من الإعلام المعادي لهم، ولكنهم الآن يقعون في كماشة تجهيلهم عن عمد كي يكونوا أداة طيعة بيد رجال الدين الطامحين الى السلطة والجاه.
الشيعي اليوم يحتاج الى إستعادة مواطنته التي سُلبت منه،مثلما سُلبت من كل عراقي عارض النظام، وكي يستعيد هذه المواطنة، ينبغي أن يتضاعف وعيه بمفهوم العراق الموحد لا من أجل ان يفيد الأخرين ويستفيد فقط، بل من أجل ان يتعلم كيف يعيش وكيف يطالب بحقه. الخطاب الطائفي الشكّاء يضّخم عقدة الإضطهاد عند الناس البسطاء،ويغذي مشاعر النقص والدونية فيهم، وهذه المشاعر مهما تلبست من منطق القوة والسطوة،تبقى فارغة من الإيمان بالتكافؤ والثقة بالقدرات الذاتية،وهما مربط الفرس في فكرة التقدم لأية مجموعة بشرية على وجه هذه البسيطة.
مات الحسين على هذه البقعة العاثرة الحظ التي لم تنصره،بل خدعته، وقتلته. ولكن هذا الإمام الجليل، أكبر من يعاقب أهلها على هذا النحو المفجع،ليمسخهم الى توابين أبد دهرهم، لاشغل لهم سوى البكاء عليه وعلى أنفسهم.
والحق ان مغزى موت الحسين على أرض العراق،تلقفته السياسة لتحوله الى مصالح تديرها شبكات الصراع على هذا الموقع بين دول الجوار. فالعراق عندما كان قويا،كما هي حاله زمن الدولة العباسية، أو حتى في أزمنة حضارات وادي الرافدين،كان قادرا على استيعاب بلدان الجوار وصهرها في مكونه الثقافي، ولكنه عندما ضعف، أصبح منخفضا للأتراك والفرس، وامارات الجزيرة العربية، فصارت الإعتقادات الطائفية وسيلة لتنفيس معارك الجوار على أرضه.
ها نحن نشهد شيعة الامارات العربية، وهم المتمعون ببحبوحة النفط وإنسجامهم مع حكامهم، قد تمكنوا من تمويل قناة، لمسخ شيعة العراق وتحويلهم الى روزخونيين على النمط الجديد، يخلطون المصطلح الحداثي بأكثر المصطلحات تخلفا، ولا شغل لهم سوى البكاء على الجنوب،ودفعه الى أقصى درجات الشحن ضد أبناء وطنه وضد العرب.
ومن غريب الصدف او حتمية الحال أن يبقى العراق أسير هذه المعادلة، فعروبته إبتزازية وهويته الإسلامية طائفية،وعقائده العلمانية مافيوية، وهو من كل هذا ينزف ثرواته من زرع ومن ضرع،مهما تغيرت أحوال الجوار.
تلك السِباخ الممتدة،على إمتداد العراق،هي نتاج تصّحر الإنسان العراقي الذي لم ينصرف في بلد السواد الى التعمير،قدر ما إنصرف الى كسر عظم من يخالفه بالمذهب او الرأي السياسي او المعتقد الإجتماعي.
يرحل الإحتلال مثلما رحل صدام حسين، ولكن هل يرحل العنف عن أرض العراق، وهل يرحل الشعور عند الأكراد بانهم مجرد مستثمرين في بلد لايخصهم؟، وهل ترحل الثقة عند السنّة بأن الدنيا تؤخذ بالتغالب؟. أما الشيعة فستهيل فضائياتهم الطائفية على رؤوسهم تراب الجهل،كي يبقوا لطّامين الى الأبد.

فاطمة المحسن