المسيب: من مدينة تغفو على الفرات الى فرن بشري ساخن*
الى امي..خديجة الخضراء
الى اخي القتيل..قاسم
في خريف العام 1961 كانت يد اخي الدافئة ترفع كفي برقة وهي تقودني الى quot;مدرسة التهذيب الابتدائيةquot; الواقعة في مدخل المسيب الشمالي وعلى الطريق المؤدية الى بغداد. خطواتي المتعثرة في باب المدرسة وحديث اخي مع احد المعلمين مشيرا نحوي هما الملمحان المبكران لايام ستقودني الى الصف الاول القابع في آخر البناية التي كانت تضج باصوات التلاميذ في الصفوف الاخرى وهم يرددون كلاما موقعا هو نصوص القراءة، اصواتهم ما انفك رنينها في ذهني مثلما ظل صوت المعلم وهو يتلو علينا الدرس الاول، ومثلما هي لاحقا اصوات قرقعة الاكواب ونحن نخرجها من حقائبنا لنضعها امامنا على الرحلات بانتظار quot; فراش المدرسةquot; الذي يحمل قناني quot; الحليب المعقمquot; بشكلها الذي سحر خيالي وليسكب السائل الابيض احيانا او المائل للصفرة احيانا اخرى حين يأتي quot; الحليب المطعم بالموزquot;.
سنة اولى في مدرسة ساحتاج سنوات كي اعرف معنى اسمها : التهذيب، ثم خمس سنوات لاحقا في quot;مدرسة المثنى الابتدائيةquot; ببنائها الهندسي الجميل وصفوف الطابق الارضي منها المطلة على حديقة كنت اراها جنة حقيقية لاسيما انني مبكرا كنت اربط بين البيت الجميل واحتوائه على حديقة، بساحة الرياضة وملعب كرة السلة الذي سيشهد اكثر مباريات سخونة بين مدارس القضاء.
حين نقلت مع عدد من التلاميذ الى quot; مدرسة المثنىquot; كنت على درجة من السعادة فذلك يعني انني سأخترق quot; شارع لويس باكوسquot; وهو اكبر شوارع المسيب واحدثها ويخترق عددا من البساتين، كما ان الطريق الى المدرسة الجديدة كان يعني خروجا يوميا من اجواء quot; محلة ام الصخولquot; الخانقة حيث البيوت العتيقة والازقة الضيقة، ومرورا ببناية السينما حين كنت امر بدهشة تتجدد كلما تم تجديد اعلانات الافلام، لكنها دهشة كانت ممزوجة بمخاوف تنطلق من تحذيرات اهلي من السينما واخلاق روادها، لكنني وحين كنت في الصف الخامس امتلكت الجرأة في خرق المحظور، ودخلت القاعة العجيبة التي كانت تعرض فيلمquot; سبارتكوسquot;، وكانت دهشتي بلغت بي حد انني لم اشعر بيد والدي وهي ترفعني من مقعدي بغضب، حين اوصل قاطع التذاكر خبرا لعائلتي فهرع ابي الى السينما ليخرجني منها، ولم تنفع ضربات عقاله القوي في ان تنتشلني من حالة السحر التي كنت غرقت فيها ونمت ليلتها وانا اعيش نوعين من المشاعر: لذة اكتشاف ضوء السينما وحكاياتها ابطالها السحرة، والالم الذي كانت ضربات عقال ابي تركته على ظهري وعنقي، فيما كانت والدتي تحتضنني ودموعها تنسكب الملتهب بصفعات ابي.
وفي كل مرة كانت فيها والدتي ابنة المرجع الديني والعالم والشاعر والاديب والخطاط تأخذني الى quot;مرقد اولاد مسلمquot; كانت تحكي لي حكاية الاولاد الذين قضوا عطشا ثم غدرا في quot;واقعة الطفquot; بكربلاء، وكنت حين ادخل باحة مرقدهم المحاط بالبساتين ارسم لهم صورة الاولاد الخائفين بملابس خضر وقد قيدت اياديهم بالحبال، وكم كانت سعادتي بالغة حين اختارني القائمون على quot; موكب عزاء محلة ام الصخولquot; كي اؤدي دور احد اولئك الاولاد، وكنت في الطريق من المحلة حتى انتهاء الموكب بدخوله في quot; حسينية اهالي المسيبquot; ارتعش خوفا ورعبا وبالذات حين يتقدم نحوي فارس بملابس حمر ليضرب بسيفه طاسا من الماء كان يقدمه الي احد الخيرين تماشيا مع اصل الحكاية حول عطش اولاد مسلم.
قبلي بسنوات ليست كثيرة كان شقيقي قاسم يؤدي دور quot; العريس الشاب القاسم quot; في موكب العزاء ذاته، وكانت صورته بثياب خضر وبيض تجعله قريبا الى الملامح الاصلية للقاسم، تلك الملامح التي ارتسمت في ذهني مع كل مرة كانت فيه والدتي تستعيد بصوته العذب المخضب بالبكاء quot;واقعة الطفquot; وبالذات حين تقرأ فصلا عن الامام القاسم وما عاشه في تلك الواقعة.
الطبول والنقارة والصاجات النحاسية وصدور الرجال اللاطمين والاشعار، كانت تصدر اصواتا مهيبة حين يدخل العزاء بهو الحسينية المتشحة جدرانها بالسواد قبل ان يتفرق الموكب واعود الى امي التي عادة ما تنتظرني لتضمني حين اعود واحكي لها بتفاصيل دقيقة كل ما عشته في الموكب وكل ما رايت وسمعت، و شهقت ذات مرة باسم الله عز وجل حين رويت لها كيف انني رايت الامام الحسين عليه السلام وهو يبتسم لي وانا ادخل الباب الكبيرة للحسينية، لتخبرني بان هذه الرؤية فأل حسن وعلامة على محبة الامام الشهيد.
وفي كل عام كانت فيه المسيب تستعيد استشهاد الامام، كان دوري في موكب عزاء محلتنا يأخذ شكلا جديدا، فمن احد اولاد مسلم بن عقيل الى حامل للراية وهو ما كنت احبه واهواه، فهو دور يتيح لي الحركة بين مجاميع الموكب والاقتراب من حامل الهودج العملاق الذي كان يدور محدثا رهبة بين النظارة من الرجال والنساء والاطفال، ومن حامل الراية الى حامل المصابيح حيث كانت يربط عددا من المصابيح على حامل خشبي ومنه ينزل سلك يوصل الكهرباء الى تلك المصابيح من مولد للتيار يسير به عدد من الرجال آخر الموكب.كانت الايام العشرة للموكب الحسيني اشبه بالمهرجان الذي كانت روحي تحلق فيه بين وقائع استشهاد الامام وبما يجعل حياة المدينة اقرب الى الاسطورة الخيالية : دشداشتي السوداء وشماغي والدي الاسود، صور الامام المتخيلة التي كان ترتفع على جدران البيوت والمقاهي والحسينية، ومن بينها الاكثر عمقا في ذاكرتي صورة حصانه العائد وحيدا ونبال كثيرة علقت برقبته وظهره واطرافه، ادعية والدتي وقصائدها ذات الرنين الفجائعي في جنبات بيتنا وغرفه والذي يتسع لعزاءات النساء المتشحات بالسواد وquot; قراياتquot; امي التي كانت تحول المجلس النسوي من اللطم الى سرد لوقائع الظلم والصبر والكفاح التي عاشتها النسوة من بيت الامام. كانت امي تختار من الشعر، قصائد في مديح الامام الحسين وآل البيت وتختارها من ارث والدها السيد محمد حسن في مخطوطاته التي لطالما فتنني خطها الجميل واشكاله العجيبة، فكان quot; سيد شريفquot; كما طاب لاهل المسيب ان يكنوه، كان يكتب ضمن اشكال هندسية على امتداد الصفحات، واغرب تلك الاشكال هو الدائري حيث يبدأ النص من مركز الورقة ( مركز الدائرة) ثم تستدير الكلمات في سطور لابد من تدوير الكتاب لتقرأ كلماتها.
ويأتي يوم التاسع من محرم ليطبع اجواء بيتنا بنوع من حال الطوارىء، ففيما يستعد والدي واخي للذهاب الى كربلاء مشيا على الاقدام العارية، اكون انا بعهدة والدتي متشبثا بعباءتها المعطرة بماء الورد وهي في طريقها الى كراج المسيب، ليأخذنا باص الى كربلاء، ونتجه الى quot; بيت الوقفquot; وهو بيت كبير متعدد الغرف تتخذ منها عوائل آل عجام مستقرا خلال الزيارة الى كربلاء وتحديدا في ليلة عاشوراء والاربعين فضلا عن مناسبات دينية وزيارات آخر.
ومع انني كنت حريصا على متابعة كل شاردة وواردة في يومي التاسع والعاشر، واتطلع بروح الدهشة والاكتشاف الى مشاهد العزاءات، الا انني كنت اخاف حد الرعب من متابعة quot; التطبيرquot; ورؤية الرجال برؤوس حليقة مدماة فيما تلتمع السيوف في اياديهم، ومشاعر الخوف تلك تكونت عندي مبكرا حين خرجت في فجر عاشوراء بعيد من quot; بيت الوقفquot; الى الشارع،لاصدم بعشرات الرجال في ثياب بيض فاض عليها دم رؤوسهم وهم في حال اقرب الى الهياج.
هذا الرعب يتحول بعد عودتنا الى المسيب الى ساعات نوم طويلة تمتد الى اليوم التالي الذي يشهد ليله واحدا من الطقوس التي علمتني اشياء كثيرة يختلط فيها الخيالي بالمقدس بالواقعي، طقس روحي حزين، فيه تغمر المدينة بالظلام، وفيها تتحول العزاءات الى رجال بثياب سود يحملون الشموع ويطوفون في الارجاء مستذكرين وحشة الليل في كربلاء بعد مقتل الامام الحسين.
عزاءات المدينة التي تستذكر واقعة الطف عمقت جانبا روحيا هاما في نفسي وتكويني، مثلما طبيعة المدينة وانفتاحها على البساتين ونهر الفرات حيث كنت اقف على سطح بيت جدي الذي كانت تسكنه جدتي الصعبة المراس وهو ما جعلها تعيش وحيدة بعد وفاة جدي قبل ولادتي، واتطلع من عل الى تيار الفرات وكيف ينعطف النهر في اول المدينة مشكلا في الضفة المقابلة quot; الجزرةquot; التي صارت واحدة من اخصب مناطق خيالي الشخصي، بل ان اشجارها الكثيفة في النهار وظلامها في الليل كانا بالنسبة لي مكمن اسرار الارض وغرابتها، وكنت اعتبر من يعبر اليها سباحة ويعود الى ضفة النهر من جهة محلتنا، اعتبره بطلا اسطوريا وكنت انظر اليه بدهشة واعجاب شديدين.
وكان يطل على النهر بيت ضخم quot; بيت دوبانquot;، كان قصرا بمواصفات تلك الايام، وبوابته المواجهة للنهر كانت مبلطة بالمرمر وهو مايجعلها مفضلة لجمع الاطفال من سني، فهي بفضل جدرانها العالية توفر ظلا كثيفا، ومع انسام النهر المنعشة كانت بلاطات البوابة المرمرية تتحول ملجئا باردا منعشا في ظهيرات القيظ.
قبالة بيتنا كانت زهرة التي كانت تبيعنا الحليب والقيمر واللبن، وتحمله الى والدتي في طبق مضفور من البردي وتحرص على ان تفرشه بورد الجوري بعطره النفاذ، فتأخذ والدتي الحليب والقيمر احيانا والورد لتضعه بين طيات ملابسنا المرصوفة في دولاب خشبي وضعت على بابه مرآة ضخمة.
في المسيب ايضا عرفت اشكالا من المسرات، كان اغلبها يتم في الساحة المقابلة لبيت شقيقتي المتزوجة من ابن خالتي المرحوم حسن الخياط الذي كنت اقضي فيه اوقاتا اكثرمما كنت اقضيها في بيتنا، فكنت ما ان انتهي من المدرسة واتناول طعام الغداء من يد امي التي تضع في الطعام نكهات من يديها المخضبتين بالخير والهناء، اسرع الى حقيبتي لاخرج كتبي ودفاتري وانهي واجباتي ثم امضي سريعا بدشداشتي ونعالي quot; ابو الاصبعquot; الى quot;محلة الجديدةquot; مخترقا quot;محلة الدهدوانةquot;، لأصل الى بيت quot;ام محمدquot; حيث الحياة تحتشد بينما بيتنا يخيم عليه الصمت، حيث انا ووالدتي التي كانت تقضي القسم الاكبر من وقتها بين الصلاة وقراءة كتب والدها، حد انني كنت اراها على فراش الصلاة ساعات كثيرة بازارها الابيض وكم بدت لي اشبه بالملاك الابيض وهي ترد على اسئلتي بابتسامة فاترة ثم يرتفع صوتها قليلا بتكبيرة في اشارة الى انها على وشك ان تنهي صلاتها. كانت تصلي الى وقت طويل من الليل ثم تجلس على فراش الصلاة لتقرأ صفحات كثيرة من القرآن بصوت مخضب بالدمع وتنهي جلستها بدعاء يشهق خلاله روحها متوجهة الى الخالق بان يرد لها اخي سالما لا سيما انه كان خرج قبل فترة من السجن في اعقاب انقلاب 8 شباط 1963، وان يرزق ابي وان يحقق لي نجاحات دائمة ويؤنس علي وحدتي.وفي حين كنت اجد الناس تكتفي بصلاة بالكاد تستغرق دقائق قليلة، كنت اعجب لامي وهي تقضي كل ذلك الوقت في الصلاة وقراءة القرآن والدعاء، فقادتني المقارنة الى ان اعتبرها من quot;الاولياءquot; اومن quot;اقرباء آل البيتquot; حتى سالتها مرة :quot; ماذا يقرب اليك الامام الحسين quot;؟ فردت عليّ بهدوء بانها تؤدي واجبا للخالق وهي واحدة من ملايين محبي quot;آل بيت الرسول الكريمquot;.
وكان ما ان يحل الغروب حتى اسرع ركضا الى بيتنا وقبل ان يكون والدي اغلق محله على وقع صوته الجهوري بquot;الصلاة على محمد وآل محمدquot; وتلك كان عادة درج عليها ما ان يضيء محله بالمصباح الوهاج quot; البرقيquot; وقبل ان يطفأه ايضا، حتى كنّاه الناس quot; ابو الصلواتquot;، ومع انني كنت اتضايق من ذلك حين كان هناك من يناديني quot; ابن ابو الصلواتquot; الا انني لاحقا ومع توضيحات والدتي للمعنى وجدتها كنية لطيفة وطيبة.
في المسيب كانت معرفتي الاولى والمبكرة بالكتاب، لا من خلال مكتبة اخي الواقعة في غرفة واسعة بالطابق الثاني والتي كنا نتخذها في الشتاء مناما، بل من خلال تقليد دربني عليه شقيقي، ففي اواسط الستينيات كانت المطبوعات المصرية الكثيرة تصل الى كل مدن العراق بانتظام، وكم كانت تسحرني عبارة quot; وصلت بالطائرةquot; المطبوعة على اغلفة الكتب والمجلات، ومنها كان اخي اختار المسلسل الشهري لكتاب quot; مروج الذهب quot; ثم quot; رحلات ابن بطوطةquot;، فاشترك فيهما عند quot; ابو المكتبةquot; واوصاني بان اجلبها اول كل شهر، ومع كل مرة احمل عددا من الكتاب المسلسل كانت اسئلة تتصاعد في راسي عن قيمة هذه التي يحرص على اقتنائها اخي رغم غيابه للدراسة في بغداد وحتى في سجنه حين سالني وانا ازوره رفقة والدتي اذا ما كنت مواظبا على جلب الكتاب المسلسل، كنت اتطلع ايضا في عناوين واسماء المؤلفين :quot; عالم شتاينبك الرحيبquot;، quot; الجنس الآخرquot;،quot; الايامquot; او quot; بطل من هذا الزمانquot; وغيرها. وكم كانت دهشتي كبيرة حين اخذني اخي في صيف 1965 حين كنت انهيت دراستي متفوقا للخامس الابتدائي الى المكتبة العامة في المسيب، وعلمني استعارة الكتب واختار لي احد كتب جورجي زيدان التاريخية وقال لي انه كتاب يناسب عمري. ومع quot;اكتشافquot; الكتاب سقط وهم كبر في طفولتي من خلال التربية الاخلاقية الصارمة التي نهلت منها في بيت عائلتي، فالى جوار المكتبة كان هناك quot; نادي الموظفينquot; الذي كان يختلط في ذاكرتي بحكايات عن سكارى هم في هيئة وحوش انذال، فسالت اخي عن المكان ورواده فاخبرني انهم اناس عاديون مثلنا ولكنهم يشربون سائلا يجعلهم في حالات سلوكية غير طبيعية حزنا او فرحا، وقد يتسببون في شجارات بينهم او في داخل بيوتهم حين يعودون اليها وهم في اوضاع غير طبيعية.
كبرت في المسيب وكبرت مشاعري فيها، عرفت ترفا مع بدلاتي واحذيتي الجديدة كل عيد وهو كان نادرا ان يتوفر لاولاد من سني، وحقيبة جديدة مع بداية كل عام دراسي، عرفت متعة الترحال الاسبوعي تقريبا مع والدتي.
مراقد الائمة في الكاظمية والنجف وكربلاء ابهرتني لا لجمالها العمراني وحسب بل في فضاء معطر كان ينبثق منها، رفرفة الحمام في صحن الامام الحسين، دقات الساعة في صحن مرقد الامام موسى الكاظم، الراية الخضراء على قبة الامام العباس، والشباك الذهبي المهيب الجمال المحيط بمرقد الامام علي.مثلما عرفت جمال اللغة ورقة التعبير في الادعية التي كانت تقراها والدتي بصوتها الرقيق المخضب بالحزن، والذي كان يرتفع شيئا فشيئا كلما تجمع حولها نسوة كن يطلبن منها ان تسمح لهن مشاركتها ادعية الزيارة.
ومن خلال الاشكال التي اتخذتها طرق جلوسي مع والدتي في السيارات التي تقلنا انا وهي من المسيب الى الحلة او بغداد او كربلاء والنجف الاشرف، كنت بدأت اتحسس ظروفنا الاقتصادية، فمن كوننا وحيدين نجلس في ابهة بصدرسيارة صغيرة من نوع quot; شوفرquot; او quot; دوجquot; الى باص صغير وسريع جدا تلك الايام من نوع quot; فورد quot; الملقب بquot;الصاروخquot; ثم في باص كبير، وتلك الانتقالات كانت منسجمة مع انتقالات والدي من محل تجاري واسع في السوق الكبيرالى محل صغير في محلتنا ثم الى عاطل عن العامل ومعه كنا نعيش من قيمة رهن بيتنا مقابل مبلغ دفعه له احد اصدقائه من التجار، لحين تخرج اخي قاسم مهندسا زراعيا وتعيينه لاحقا في quot;معهد بحوث الموارد الطبيعيةquot; في العام 1967وانتقالنا الى بغداد للعيش فيها.
2
ومنذ العام 2004 كانت المسيب هدفا لسيل من الانتحاريين والتكفيريين، وليس بعيدا عنها اغتالوا quot; العراق الجميل quot; حين اطلقو النار على اخي قاسم المفكر والناقد والمدير العام للشؤون الثقافية العامة واغتالوا معه احد العقول العراقية quot; النادرةquot; المهندس باسل نادر ( توقعوه انا) فيما اصيب ابن اخي حيدر بجروح خطرة.
لكنني هنا ساتوقف عند عمليتين ارهابيتين ضربتا قلب المسيب وذاكرتها الروحية في صيف العام الجاري وخريفه. فquot; الحسينيةquot; والشارع العام المكتظ بالمحلات والاسواق وعيادات الاطباء، هما المكانان quot;المفضلانquot; في المسيب لاساطين القتل الجماعي الخارجين من مخابىء الحلف الصدامي ndash; التكفيري المتشكل بعد سقوط النظام السابق، واختيارهم المسيب لم يكن اعتباطيا، فهي quot; الخط الاول quot; لاولئك الخارجين من كهوف quot; جرف الصخرquot; التي كان اختارها صدام كي يبني عليها مفاعله النووي الثاني لثقته باهلها من موالين بلغت بهم الطاعية العمياء حد انهم ظلوا مخلصين لولي نعمتهم وان كان قاتلا لاحد شيوخ عشيرتهم المتنفذة، الوزيرورئيس ديوان الرئاسة، وقبل ذلك امين اسرار صدام quot;الاجتماعية quot; خالد عبد المنعم رشيد الجنابي،فهم اليوم يدينون بالطاعة لخط quot;ابن عمهمquot; التكفيري المهاجر من الفلوجة حيث كان يخطط لبناء quot; امارته الاسلامية quot; فيها، الشيخ عبد الله الجنابي، وعبر quot;جرف الصخرquot; مر الانتحاريون الى المسيب والحلة وكربلاء بعد ان يتم تدريب كل واحد منهم على قتل العشرات من المسافرين القادمين من بغداد باتجاه بيوتهم في مدن الفرات الاوسط ضمن منطقة quot; مثلث الموتquot; ومركزها اللطيفية حيث يبسط اتباع التكفيري عبد الله الجنابي من الذي لا ترتوي اجسادهم الا بالدم، يبسط نفوذهم في المنطقة مستفيدين لا من مكانتهم في النظام السابق وحسب ( حين كانوا على راس الاجهزة الامنية والحزبية )بل بما امتلكوه من ملايين الدولارات جراء سرقتهم لمنشآت التصنيع العسكري المنتشرة في مناطق اليوسفية، اللطيفية، الاسكندرية وجرف الصخر.
واستهداف المسيب، ياتي كونها مدينة التعايش الطائفي، وهو ما يجعلها quot; خاصرة ضعيفةquot; يمكن من خلالها تحقيق المواجهة الطائفية، والتكفيريون لايكرهوا شيئا قدر كراهيتهم للتعايش الانساني، وفكرتهم قائمة على كراهية الاختلاف حتى وان كان quot; المختلفونquot; هم من اتباع الدين الواحد. كما ان المسيب بما حفلت به من صداقة عميقة مع quot; الفراتquot; وما وهبها للمدينة من بساتين ومزارع مثمرة، انفتحت على الطيبة ولطالما كان اهلها مجبولين على معشر سمح، وهذا نقيض الكراهية التي يبني التكفيريون وفقها اماراتهم اينما حلوا.
سيناريو تحويل المسيب الى فرن بشري في تموز الماضي، كان قائما على النقيضين : طيبة اهل المدينة و قوة الكراهية في انتقام التكفيريين، فالمخطط الذي نفذ لقتل اكبر عدد من الناس هدف ايضا الى تدمير مركز روحي لطالما شع في قلوب عشرات الالاف من ابناء المدينة : حسينية اهالي المسيب. المخطط اعتمد وسيلة quot; مبتكرة quot; الا وهي تفجير شاحنة ضخمة محملة بعشرات الالاف من غالونات وقود غاز الطبخ سريع الاشتعال. الشاحنة توقفت امام الحسينية التي كان دمرها quot; النشامىquot; من الحرس الجمهوري في العام 1991 بعد تحولها مركزا لتجمع الشباب الغاضب على السلطة في الانتفاضة الشعبية، وعلى جاري عادة الناس من اهل المدينة فقد صدقوا كلام السائق عن عطل مفاجىء للشاحنة التي اغلقت الطريق امام السيارات والمارة، فاكتظت الشوارع والمقتربات التي تؤدي الى الحسينية، ثم تمر دقائق قليلة ليأتي انتحاري ويفجر نفسه قرب الشاحنة التي تطلق كرة هائلة من اللهب اكلت في ثوان قلب المدينة وروحها.اجساد طارت في الهواء لتتحول الى جثث متفحمة، نار من سعير دخلت المحلات والاسواق واندفعت الى البيوت، وفي نحو رمشة عين كانت الكراهية حولت المكان الذي لطالما ابترد من نسيم الفرات الى فرن بشري.
احترقت كتب الله واياته في الحسينية و قتل الحسين الذي كان ابتسم لي في مواكب تخلد مأثرته، واحترق المكان الذي لطالما حملت منه الكتب والصحف والمعرفة الى اخي فيما كانت ضحكات اتباع عبد الله الجنابي تاتي بفرح هستيري من الضفة الاخرى للفرات والمؤدية الى جرف الصخر،قتل ابن مسلم الذي فيّ، مثلما تفحم جسد القاسم في اخي، وجفت بتاثير نار الفرن البشري اصوات ابي ( ابو الصلوات) ولم يعد ممكنا نداؤه الجهوري :quot; اللهم صلي على محمد وآل محمدquot; مثلما احترق جسد طفل كان التصق مرعوبا بجسد امه في باص ذاهب الى كربلاء، واحترقت راية حسينية كانت خضراء ولطالما هزتها يدي بجذل.
فصول الرعب الجماعي في المسيب مفتوحة على آخرها مع استمرار الكراهية في انتاج مسوخها البشرية في مثلث الموت الذي يحاذي المسيب، ومع استمرار ارسال جرف الصخر رسل كراهيتها، ففي الخريف الذي كان يملأ قلب المسيب بايقاع مرهف وندي كان هناك انتحاري خرج من احد كهوف التكفيريين ليندس بسيارته في السوق الرئيس، ويفجرها لتختلط دماء الناس بالخضار والفواكه المشظاة، ولتحترق قلوب المتسوقين والعابرين مثلما احترقت ملابس الاطفال في متجر قريب، ولتعلن الكراهية المقنعة بالاسلام عن مشروعها : منع الناس من ممارسة حياة طبيعية وان كانت مقتصدة وبسيطة في اعلان رغباتها: شراء فواكه او عيادة طبيب او اقتناء ثياب جديدة، وحرمانهم من حق التمتع باجواء اولى من حرية العيش والتفكير والاختيار.
احترق جوري بائعة الحليب، وتهشمت لوحة quot;اية الكرسيquot; في محل خياطة عمي الحاج عبد المنعم، وسال دم في محل ابن خالتي حسين الخياط، واختلطت سوائل الادوية و حبوب المضادات الحيوية بنثارالبارود في صيدلية مكي ابن عمي، غير ان صوت امي مخضبا يأتي ثانية وهو ينوح على اخي في غيابه باحد السجون او ينادي عليّ وانا اندس بين عشرات ينزلون الى شاطىء الفرات كي نضع الشموع على الواح خشبية، لتتراقص الانوار على امواج النهر في الليل علها تضيء ارواحنا حين تصل الامام الساكن في الماء، الامام الخضر.
*جزء من نص سردي طويل
علي عبد الامير عجام
**شاعر وصحافي عراقي
التعليقات