الضوابط التي نريد أن نتحدث عنها في هذا الزمان، تعتبر في نظر العارفين ببواطن الأمور.. بطـــراً.. و تبطراً..! ويـُعد صاحبها ويسمى بـ ( البطران )!
والضوابط العلمية والإنسانية التي لو أعتمدت في حقل التعامل الوظيفي والإنساني، لغدونا ومنذ عقود طويلة في مصاف الدول التي يحسب لها ألف حساب، ولكانت الدول في شرق المعمورة وغربها مُدينة لنا بالجلال والإحترام و بالمال والحلال، بدلاً من أن نغدو دولة فقيرة، تستجدي الحنطة والشعير، تتقاذفها و تتلاعب بها السياسات المتخلفة لدول الجوار!
وعلى أساس مبدأ الضوابط العلمي، جاء مبدأ الشخص المناسب ( رجلاً أم إمرأة ) في المكان المناسب. وهذا الشعار الأخير طبقته الكثير من الدول المتقدمة.. ولا تزال تتعامل معه، على أساس صحته والحاجة اليه كمبدأ علمي وإنساني صحيح لا بديل آخر عنه في إختيار الكفاءات والطاقات البشرية من أجل التنمية البشرية وتقدم البلدان وشعوبها. أما نحن في هذا الوطن المبتلى بشعار ( الأقربون أولى بالمعروف )، فحكاياتنا مع هذا المبدأ والحديث عنه، تذهب بصاحبه والمنادي به الى غياهب السجون والمعتقلات القسرية والتصفية الجسدية، إن لم تدفع به الى الجنون إن عاش حيــــــا!
الحكاية الأولى.. عمرها 45 عامـــاً ndash; بغداد - العراق
أبطالهـــا.. الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم.. العالم العراقي الراحل عبد الجبار عبد الله.
السنوات التي سبقت ثورة 14 تموز 1958 لم تكن تحمل شيئاً أو صرحاً ما على أرض الواقع المعاش، إسمه جامعة بغداد كمؤسسة علمية و تربوية قائمة بذاتها، بل كانت هناك كليات بمختلف الاختصاصات متناثرة هنا وهناك.. وبعد قيام الثورة بأكثر من عام، قرر الزعيم الوطني الراحل عبد الكريم قاسم تأسيس جامعة بغداد، لتضم مختلف الاختصاصات ومعاهد البحوث والدراسات لكي تتولى مسيرة التقدم العلمي والحضاري في الجمهورية العراقية الفتية.
ولكي تأخذ هذه الجامعة الجديدة مكانتها العلمية في العالم وتعيد الى الاذهان تاريخ بغداد العلمي العتيد والمشهود له عبر التأريخ، فلا بد لها من شخصية علمية عراقية فذة تتولى إدارتها بجدارة ومهنية صادقة، لذا فقد رشح الزعيم عبد الكريم قاسم الدكتور عبد الجبار عبد الله رئيساً لجامعة بغداد نظراً لمكانته العلمية ولنزاهته المشهود لها وطنياً وعالمياً.
والدكتور عبد الجبار عبد الله هو عراقي من طائفة الصابئة المندائيين وهو من أشهر علماء الفيزياء النووية في العالم، كما تشهد له أبحاثه العلمية في جامعات أمريكا بالذات ومناصبه التي التي تبؤأها في ذلك البلد! وأن ترأسه لجامعة بغداد الفتية سوف يكسبها مكانه علمية مرموقة وسمعة عالمية كبيرة، وهو ما بأمس الحاجة اليه ذاتياً و موضوعياً بالنسبة لظروف العراق الناشئة آنذاك. ولم يبال الزعيم كون الدكتور عبد الجبار عبد الله غير مسلم وما الى ذلك من الامور.. فالصابئة المندائيون هم من سكنة العراق الأوائل وتأريخهم القديم والحديث يشهد لهم بإخلاصهم و وطنيتهم وهذا هو المهم في نظره.
عرض الزعيم عبد الكريم إسم الدكتور عبد الجبار عبد الله على مجلس الوزراء للمصادقة عليه كمرشح لرئاسة جامعة بغداد و حسب الاصول الرسمية المتبعة آنذاك، ولكن ما حصل أن عدداً من الوزراء وبمساندة رئيس مجلس السيادة آنذاك الفريق نجيب الربيعي ولاسباب طائفية وعنصرية محضة.. رفعوا إسم الدكتور عبد العزيز الدوري كمرشح بديل لهذا المنصب!
حاول الزعيم اقناع المجلس بمزايا الدكتور عبد الجبار والفوائد التي ستترتب على اشغاله هذا المنصب، وبنفس الوقت أوضح لهم بعض الملاحظات التي تلازم شخصية المرشح الثاني ومزاياه وغير ذلك من الأمور الأخرى المهنية والسياسية الخاصة بمرشحهم.
وظل الزعيم الراحل متمسكاً بموقفه هذا لأشهر معدودات، ليحصل بعدها على موافقة مجلس الوزراء على تولي الدكتور عبد الجبار عبد الله منصبه هذا كأول رئيس لجامعة بغداد الفتية بعد ثورة 14 تموز 1958 آنذاك!
ورغم هذا المنصب الذي تبوأه الدكتور الراحل آنذاك في نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم، فإن حال المندائيين كمجموعة بشرية وإجتماعية ودينية لم يطرأ عليه أي تغيير بشأن تعامل القوانين الوضعية للدولة العراقية ومؤسساتها مع خصوصيتهم الدينية والإجتماعية، وليستمر هذا الحال معهم هنا وهناك و وسط أزمات الوطن المتعاقبة على أساس من الدونية والعنصرية المشوبة بالحقد والكراهية والتكفير وبالعنف الجسدي في أحيان كثيرة، حتى أضحى الكثير منهم ولمواقفهم الوطنية النبيلة ولمورد رزقهم وحرفتهم النادرة و رغم الكفاءات التي يتمتعون بها في مجالات العلم والأدب والفنون والرياضة وغيرها، ضحايا لهذا العنف والقمع السياسي والإجتماعي معاً!
و رغم التحولات السياسية الجديدة التي مرّ ويمرّ بها الوطن منذ نيسان عام 2003، ورغم بعض ( الحقوق ) الدستورية التي تم إقرارها في الدستور الجديد بخصوص المجموعات الأثنية الدينية، فإن التعامل الإجتماعي والقانوني مع المندائيين لا يزال كما هو، بل وإزداد عنفـــاً و قسوة أكثر من ذي قبل، إرتباطاً بموجة الإرهاب الدموي والوحشي التي تعم الوطن وأبناءه عموماً، مما إضطر الكثيرين منهم الى اللجوء الى بعض دول الجوار والعيش هناك في ظل أوضاع إجتماعية ومعيشية قاسية ومؤلمة للغالبية الكبيرة منهم، ناهيك عن المجموعات الكبيرة من العائلات المندائية والتي تقدر بالآلاف والتي تتوزع على بلدان العالم المختلفة في شرقها وغربها منذ بداية التسعينيات وحتى يومنا هذا!!
الحكاية الثانية.. عمرها، إمتدادٌ لحكاياتٍ مضتْ!
أبطالها.. كل العراقيين المخلصينرغم أن العراقيين يخوضون تجربة الإنتخابات الوطنية العامة لأول مرة في تأريخ دولتهم الحديث، فإن الحماس الملحوظ على سلوكهم الإنساني والوطني العام و وسط التغييرات السياسية العاصفة والسريعة، قد أضفى شيئاً جديداً على الروحية الجديدة التي يعيشوها رغم قساوة الظرف الأمني والإجتماعي والخدمي، وأصبح الكثير منهم سواء داخل الوطن أو أولئك الذين إغتربوا عنه لظروف معروفة.. في صلب الأحداث المتسارعة التي جذبتهم اليها، ومنها إنتخابات الوطن تلك التي جرت في كانون الثاني المنصرم وكانون الأول الجاري من عام 2005!
حماسٌ.. وهمة و تفان ٍ لايهدأ لحظة واحدة منذ أول أيام التهيئة للإنتخابات وحتى لحظات الإنتهاء من إملاء آخر حرف أو توقيع في الإستمارات المعدة لهذا الغرض، ناخبين.. وموظفين.. وكل من أشرف على تلك الأعمال الوطنية!
ولم يكن في أذهان الكثيرين من هؤلاء ومنهم الوطنيين المخلصين، أن واقع المشهد السياسي العراقي وما جلبه من محاصصات قومية وطائفية ومذهبية مقيتة سيترك آثاره و يمتد الى حيث مواقع العمل الوظيفي للكادر الذي أشرف على الإنتخابات خارج الوطن و ربما الى داخله أيضاً!
في الإنتخابات الوطنية الأولى في كانون الثاني 2005 تدرّب كادر جديد ( خام ) وأكتسب الخبرة من خلال أيام الأنتخابات نفسها، وتشكلت لدى المشرفين على تلك العملية من عراقيين وأجانب من ( منظمة الهجرة الدولية I. O. M. ) و مراقبي الأمم المتحدة و المنظمات الدولية الأخرى أفكار وملاحظات عن سير تلك الإنتخابات و حتى عن كادرها الوظيفي ( وأحياناً كثيرة بالأسماء )، نظراً للجهد المبذول من بعض أفراد ذلك الكادر والسمعة الطيبة والجدارة الفائقة والنزاهة والكفاءة المهنية والوطنية التي تحلى بها خلال أيام الإنتخابات بعيداً عن التأثيرات المذهبية والطائفية والقومية وحتى العائلية منها التي حاول البعض أن تكون حاضرة في التعامل مع الكادر الوظيفي العامل آنذاك، لكن ما حصل في الإنتخابات الأخيرة وما تفرزه المعطيات والأحداث المتسارعة وأصداء الإنتخابات حتى هذه اللحظات، يوضح لنا عن صورة مشوهة ومغلوطة ستدفع لاحقاً الى نتائج غير مرضية ربما ستضر كثيراً بــ ( الحيادية ) و ( المهنيـــــة ) التي صبغت تشكيل المفوضية في أيامها الأولى قبل أكثر من عام والتي أعلن عنها الكادر المشرف والمسؤول عن إدارة أعمالها منذ أول أيام أعمالهم!
ولو عدنا الى بعض من تفاصيل الأحداث التي جرت في بعض من دول أوروبا والعالم الأخرى من ممارسات لم يعلن عنها لحد الآن لأسباب عديدة.. مفهومة وغير مفهومة، لإتضح لنا جميعاً.. ناخبين أو موظفين عاملين في الإنتخابات.. عن تلك الحال المشوهة والغير نظيفة والغير صادقة، والتي أريد لها أن تكون حاضرة في أحداث الأيام التي جرت بها الإنتخابات خارج الوطن تحديداً!!
وما حدث من إستثناء وإبعاد لبعض من أبناء الأقليات الدينية الذين أنصفهم أساساً الموظفون الأجانب في منظمة الهجرة الدولية في الإنتخابات الأولى في كانون الثاني 2005 مع غيرهم من الكادر العراقي المباشر عن تلك الإنتخابات آنذاك.. في أن يتبوأوا مراكزاً متقدمة جديدة في إدارة عملية الإنتخابات الأخيرة خارج الوطن تقديراً لجهودهم المهنية والوطنية المخلصة والنزيهة في الإنتخابات الأولى والمشهود والمعترف بها، لخير دليل عن ذلك!
طامة كبيرة و مخيفة ستلحق بالوطن وأبناءه الذين يتطلعون الى الإنقاذ والتغيير الذي يمنون به النفس والروح والعقل في أن ينتشلهم من الواقع المتخلف الذي يعيشوه هم وعائلاتهم.. وينتقل بهم الى حياة كريمة و نظيفة ومتطورة، خالية من مظاهر المحسوبية والمنسوبية التي قرأناها في كتب التربية الوطنية يوم كنا صغاراً.. ومن ثم الطائفية الكريهة، فأصبحت وبالاً علينا نحن العراقيون، وتحديداً أبناء الأقليات الدينية الذين يعانون من إضطهاد مركـّب و مزدوج، أوله وطنيتهم الصادقة وإخلاصهم لأعمالهم وكفاءتهم كغيرهم من المخلصين في إدارة المهام التي يضطلعون بها! وثانياً لكونهم لا يزالون ولحد هذه اللحظات، ودون أن يجدوا من ( أهل الدار والقرار )، ما ينصف وجودهم كأبناء وسكان أوائل لهذا الوطن من خلال الممارسات الفعلية على أرض الواقع، وليست الكلامية أو الكتابية المدونة في الدستور وحسب، أو من خلال الخطب أواللقاءات العابرة، بل ويتعدى الأمر الى إعتبارهم من مواطني الدرجة الثانية، كما تظهر ذلك عملية التعامل الطائفي نفسها معهم، أو من خلال تكفيرهم في التعامل اليومي المباشر، دون أن ينصفهم عاقل أو خطيب مستنير في حوزة أو جامع، صغيراً كان أم كبير!
شواهد ذلك الزمان الذي عاشه عالِم العراق الراحل عبد الجبار عبد الله و الشهيد الراحل عبد الكريم قاسم
لا تزال حاضرة وتعيش بيننا في كل الأوقات، وهي تسترجع فينا مع الزمان المفقود والآلام المستمدة.. بعضٌ من روح الوطنية الصادقة التي يعتز بها كل العراقيين.. فكم من الوطنيين النجباء كالزعيم الراحل نحتاج، لكي ينهض العراق المبتلى ويُنصف فيه المخلصون من جديد؟!
عبد الجبار السعودي
بصرة - أهــوار في كانون الأول 2005
[email protected]
التعليقات