إذا كانت مقررات الحل السياسي الشامل التي اتخذتها هيئة القيادة في عام 2000 قد فرضت على التجمع مفاوضة النظام الحاكم وبالتالي إنزال شعارات إزالة النظام واقتلاعه من الجذور بالانتفاضة المحمية بالسلاح، فإن الاتفاق الأخير بين الحكومة والتجمع يجب ألا يفهم منه انه يقصد مصالحة النظام أو يهدف للانضمام إليه كما يروج البعض، ولكن يجب أن ينظر له على انه مشاركة في حكومة الفترة الانتقالية تنفيذاً لاتفاق السلام الموقع في نيروبي في يناير الماضي ودفعاً له، لتحقيق ارتباط فعال للتجمع مع العملية السلمية التي ستضع حداً ونهاية لنظام الإنقاذ في خاتمة المطاف الانتقالي، كما بشر بذلك قبل سنوات مسئول أفريقيا السابق بالخارجية الأمريكية السيد/ والتر كانشتاينر.

فمشاركة التجمع في حكومة الفترة الانتقالية ضرورة تحكمها اتفاقية نيفاشا وذلك باعتبار التجمع هو الوعاء الضامن لتنفيذ اتفاقية السلام نفسها، كما يحكمها التحالف الاستراتيجي بين التجمع والحركة الشعبية المحكوم بالمواثيق المشتركة التي أجازها التجمع، وضرورة أن تقف القوى المؤيدة للسلام في صف واحد. وقد عبر عن أهمية هذه المشاركة الحضور المكثف للحكومة وكادرها الذي بلغ المئات لحضور مراسيم التوقيع.

نجحت الحركة الشعبية في انتزاع اتفاق شبيه بالمواثيق الدستورية من حيث متانة نصوصه وتفرد طريقة معالجته لازمة الحكم في السودان، وإعادة هيكلة الدولة ونظامها السياسي أثناء الفترة الانتقالية، فإذا قدر له التطبيق السليم فمن شأنه أن يشكل أعمدة ثابتة وأساساً للنظام السياسي السوداني الجديد. إضافة إلى مشاركتها في الحكومة الانتقالية على كافة المستويات، كما تقول بذلك نصوص الاتفاقية والدستور المقترح، نجحت الحركة الشعبية أيضا في الاحتفاظ بجيشها الشعبي كضامن لتنفيذ الاتفاق وتأميناً لهذه المشاركة. وهذا ما ينقص التجمع الوطني الديمقراطي في الوقت الحالي.

وإذا كان قد توفرت للحركة الشعبية هذه الضمانات الدولية والإقليمية والذاتية، فما الذي يجعل من اتفاق التجمع والحكومة مضمون التنفيذ دون حدوث أي تلاعب أو تنصل أو نكص عن العهد أو نقضه من جانب الحكومة ؟ وما الذي يحمي قيادات التجمع وكوادره النشطة من الاعتقالات ؟ ومن يضمن لنا عدم الاعتداء على دور الأحزاب أو كسرها ليلا بواسطة أفراد الأمن ومصادرة وثائقها وممتلكاتها؟ أن توفير مظلة دولية وإقليمية كضمان لاتفاق القاهرة لضمان تنفيذه واحترامه وعدم نقضه من قبل الحكومة، هي ضرورة يفرضها انعدام الثقة وواقع الحال والتجربة في سودان اليوم. وقد أثبتت التجربة الدولية أن الشاهد والرقيب الدولي يضع له وزن ويعمل له ألف حساب حتى نطمئن جميعاً لسلامة التنفيذ وسهولة سريان العملية السلمية ونجاح الحكومة الانتقالية في مهامها الموكولة لها بموجب اتفاق السلام الذي شهد عليه مجلس الأمن الدولي.

ورغم هذه الضرورة الملحة دخل التجمع المفاوضات الأخيرة ووقع على اتفاق القاهرة المشروط وحيدا دون أي غطاء سوى الحضور المصري كراعي للمفاوضات. فكادر أحزاب التجمع وأعضائه هم الذين دفعوا ثمن التشريد للصالح العام وهم الذين تم اعتقالهم وتعذيبهم في بيوت الأشباح ومعتقلات أجهزة الأمن المختلفة. و حتى لا يصبح التجمع مقطورة أخرى تجرها عربة الحكومة، يجب النظر إلى تجربة أحزاب التوالي ففيها مثال جيد يجب الاتعاظ به والتعوذ منه والاحتياط له.

وإذا كانت مشاركة التجمع ضرورة لتحقيق الأهداف المرجوة فلابد من الالتزام بمواثيق اسمرا للقضايا المصيرية والعمل على إنجاز قضايا الانتقال ومعالجة جذور الأزمة السودانية. ولا تهمنا نسبة مشاركة التجمع في الحكومة الانتقالية بقدر ما يهمنا كيفية ونوع هذه المشاركة. فلابد أن تكون المشاركة شاملة في كافة أنواع السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، وعلى كافة المستويات، مستوى الحكومة القومية ومستوى حكومات الولايات، كما تجب المشاركة المتساوية في جميع هذه المستويات وبنفس النسب في كافة الأجهزة واللجان والمفوضيات القومية والولائية والمحلية. وقد لاحظنا أن اتفاق القاهرة قد اسقط المشاركة في السلطة القضائية وهي إحدى السلطات الثلاث، التي أصبحت بفعل سياسات الإنقاذ هيئة أخرى من هيئات المؤتمر الوطني.

ويلزم التجمع أن يطبق ما كان يدعو له طيلة السنوات الماضية practice what you preach وان يحرص على تشكيل واختيار ممثليه في السلطات الثلاث على المستويين القومي والولائي، وكذلك اختيار ممثليه في كافة المفوضيات واللجان والأجهزة، من كافة أقاليم السودان وان تكون القسمة والتمثيل عادلا ومتساوياً فيها حتى يكون هذا الاختيار تجسيداً حقيقياً للتعدد الإقليمي والتنوع العرقي والثقافي، سياسة يمارسها التجمع قولاً وفعلاً. أما دون ذلك حيث يتم تشكيل الوفود على طريقة السودان القديم، وتنحصر المشاركة في نخب العاصمة وأقطابها "مع مراعاة تمثيل الأقاليم"، فلن يكون هناك أمل في تغيير حقيقي أو في نظام سياسي سوداني جديد.

ويقع على التجمع عبء الترويج لهذه الحكومة الانتقالية كحكومة انتقالية، وان يتم الإعلان على أنها كذلك وأنها حكومة متعددة الأطراف لإنجاز اتفاق السلام والمبادئ التي نص عليها. كذلك على التجمع أن يعمل على تسمية مشروع الدستور الانتقالي بـ" الميثاق الدستوري للفترة الانتقالية" أو أي شيء من هذا القبيل حتى نبعد أنفسنا عن صياغة دستور مؤقت آخر لا تشارك فيه كافة القوى السياسية السودانية الأخرى.

إذا تعذر كل ذلك واستحالت المشاركة العادلة على النحو السابق، ففي هذه الحالة لن يكون أمام التجمع إلا الدخول للسودان ورفض المشاركة في السلطة ورفع شعارات المعارضة الايجابية التي تؤيد اتفاقية السلام وتعمل على دعمها وتنفيذها وصولا إلى نهاية الفترة الانتقالية وصناديق الاقتراع والاستفتاء. إن حمل لواء المعارضة الايجابية بالداخل، ستفرضه الظروف وتعنت الحكومة في تسهيل مشاركة التجمع، وعندها يستطيع التجمع الاستمساك بمواثيق اسمرا كبرنامج للمعارضة أثناء الفترة الانتقالية استعدادا للانتخابات القادمة، ورفع سلاح المعركة الدستورية وبدفعها نحو أفق أبعد. ولكن يتحتم على التجمع في هذه الحالة المشاركة في مفوضيات الدستور وقانون الانتخابات ولجانها لما لها من أهمية قصوى في التأثير على مستقبل السودان القريب.