1988-1990
بعد أن تم تعيين القيادي علي حسن المجيد إبن عم صدام المعروف لدى الأكراد بـ(علي كيمياوي) حاكما مطلق الصلاحيات في كردستان والمنطقة الشمالية برمتها، إنقادت له جميع مؤسسات الدولة الرسمية والحزبية بما فيها الجيش والأجهزة الأمنية والإستخبارية العراقية، رغم أن هذا القيادي لم يحصل على أي شهادة أو مؤهل يتيح له أن يكون حاكما على مناطق واسعة من العراق اللهم إلا قرابته من رئيس الدولة، حيث لم يكن المجيد إلا نائبا للعريف في الجيش أعاره صدام لفترة سائقا لسيارة رئيس الجمهورية الأسبق أحمد حسن البكر كما تقول بعض المصادر بهدف التجسس على تحركاته،وكانت كردستان على موعد مع عدد من المجازر البشرية الرهيبة مع وصول هذا الحاكم المجرم اليها. فلم يخف المجيد في العديد من الإجتماعات التي يعقدها مع القيادات الحزبية أو مع رؤوساء الدوائر الحكومية في كردستان تعطشه لدماء الشعب الكردي، بل كان يتبجح كثيرا بدمويته وخضوعه الكامل لإرادة سيده وولي نعمته صدام حسين الذي إنتشله من الضياع ليبوئه أرفع المناصب الرسمية في الدولة.وبالطبع من يكون بخلفية وضيعة مثل علي حسن المجيد لا بد أن يدوس على كرامته وإنسانيته من أجل إرضاء سيده وولي نعمته وينقاد كالكلب لحراسة بيت مولاه، وكان المجيد ذلك الكلب الأمين لصدام.
وذكرني تعيين علي حسن المجيد حاكما لكردستان بحادثة مماثلة روتها كتب التاريخ العربي، فعندما إزدادت القلاقل والإضطرابات في العراق أيام حكم الخليفة عبدالملك بن مروان وكانت أخبار العراق التي تتوراد عليه تقضي مضجعه وتصدع رأسه، صرخ في مجلسه ذات يوم ثلاثاquot; من للعراق؟ فانبرى الحجاج بن يوسف الثقفي الجلاد الشهير ثلاثا ليرد على مولاهquot; أنا له يا أمير المؤمنين. ويبدو أن التاريخ قد كرر نفسه مرة أخرى،عندما كانت أخبار الإنتصارات التي يسجلها البيشمركة في جبال كردستان وتعاونهم الآثم مع القوات الإيرانية التي أربكت القوات العراقية في القاطع الشمالي بعد أن وجدت لها معينا في البيشمركة قد صدعت رأس الطاغية في بغداد فعين الجلاد الأكثر دموية من الحجاج حاكما على أقليم كردستان وأطلق يده في الإسراف بإراقة دماء الأبرياء مثلما فعل الحجاج عندما جاء حاكما على العراق.
فلم يكد ربيع كردستان يزهر بالنرجس والأقحوان، وتخضر الأرض على مد البصر في أجمل فصول السنة، حتى صب الطاغية المجرم جام غضبه على المدنيين الأبرياء من سكان مدينة حلبجة الكردية ليخنق أكثر من خمسة ألاف منهم بالغازات الكيمياوية( الخردل وغاز الأعصاب والسيانيد) ويقضى على الحرث والنسل فيها.فقتل خمسة آلاف من الأطفال والشيوخ والنساء في ظرف دقائق معدودة فيما جرح أكثر من عشرة آلاف آخرين بعد أن إستنشقوا تلك الغازات السامة وتشرد أكثر من خمسين ألفا آخرين الى داخل الأراضي الإيرانية، فأصبحت حلبجة المدينة التي كانت تنبض بالحياة خاوية على عروشها وأثرا بعد عين، حتى طيور السماء ودودة الأرض قضيت في تلك المذبحة جراء إمطار أكثر من 500 طن من المواد السامة على البلدة.
وللتدليل على هول الجريمة فقد خرج تقرير من فريق طبي دولي محايد زار حلبجة عام 2000 أي بعد 12 عاما من تنفيذ المذبحة فيها بخلاصة علمية تقولquot; أن الفريق لاحظ نشاطا سميا أكثر من المعتاد بايولوجيا لدى الحشرات في المدينةquot;. ولا يزال هناك المئات من الأمهات يعانين من وجود حالات تشوه ولادية في أطفالهن، حيث أشار تقرير حديث صدر قبل أشهر من مستشفى مدينة حلبجة الى وجود نسبة كبيرة من التشوهات الخلقية لدى الأطفال حديثي الولادة من الأمهات اللاتي عشن في المدينة أثناء الضربة أو في جوارها بسبب إستنشاق الغازات السامة.
ورغم فظاعة الجريمة التي إرتكبتها السلطة الحاكمة في مدينة حلبجة والتي تعد من أكبر المجازر الكيمياوية منذ إنتهاء الحرب العالمية الأولى، لكن الصمت المطبق للرأي العام العالمي وخصوصا الرأي العام العربي كان لافتا أثناء المؤتمر الدولي الذي عقد في باريس لبحث تلك الجريمة وإدانتها، فقد هان الأمر عليهم مادام صدام يخوض حربا بالنيابة عنهم ضد إيران.
بعد إنتهاء تلك الضربة خطط صدام للقضاء على الثورة الكردية في جبال كردستان بقوة السلاح، فسير لها الجزء الأكبر من قواته بعد أن هدأت جبهات الحرب في القواطع الأخرى نسبيا،وإستعد لشن سلسلة من الهجمات العسكرية التي عرفت بحملات(الأنفال) ضد الشعب الكردي.
وبدأت تلك الحملات التي كان الهدف منها إفراغ تام للقرى الكردية من سكانها وسوقهم الى صحارى الجنوب، من مناطق كرميان الواقعة على الحدود مع كركوك والسليمانية، حيث هاجمت قوات النظام مئات القرى الكردية وساقت سكانها بالشاحنات العسكرية الى جنوب العراق، فيما دمرت آليات الجيش تلك القرى عن بكرة أبيها فلم تسلم من تلك الهجمة البربرية حتى المساجد ومزارات الأولياء، وتحدث الكثيرون من سكان تلك القرى في شهاداتهم عن تلك الفترة حتى عن دوس القرآن الكريم بأرجل ضباط الجيش عندما كان السكان يرفعونه بوجههم للتشفع.
تقدمت القوات العراقية رويدا رويدا نحو عمق المنطقة الكردية وسجلت نجاحات في عملياتها العسكرية لعدم وجود مقاومة من السكان كونهم مدنيين لا يحملون السلاح، ووصلت تلك القوات الى مدن وقرى في العمق بما فيها القرى التي كانت قيادة الثورة الكردية تتخذها مقرات لها، وكان السلاح الأمضى للقوات العراقية هو الكيمياوي الذي لم يتردد الجيش العراقي من إستخدامه ضد كل قوة أو قرية تقاوم، مما أثار رعبا هائلا لدى السكان وقوات البيشمركة التي لم تكن تملك وسائل الوقاية أو المقاومة لمواجهة تلك الأسلحة الفتاكة فإضطرت معظمها الى الإنسحاب نحو المدن والقرى الإيرانية القريبة على الحدود الكردستانية.
دمر النظام العراقي أكثر من 4500 قرية ومدينة كردية بما فيها مدن كبيرة كانت مراكز لأقضية ونواحي، وإمتدت العمليات العسكرية الوحشية من حدود مدينة خانقين أقصى الجنوب الشرقي حتى زاخو أقصى الشمال الغربي لكردستان، وسيق من هذه القرى أكثر من 182 ألف مواطن كردي من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ الى صحارى الجنوب وأودعوا سجونها الرهيبة، نجا من نجا من سكان تلك القرى بالهروب الى دول الجوار،سواء تركيا أو إيران.
وتحفل الكتب والمذكرات الكردية بالكثير من شهادات الشهود الناجين من تلك الحملات الرهيبة وثقها باحثون أو مؤسسات حكومية في السنوات الأخيرة، حيث يروي الشهود وقائع مؤلمة وقاسية عاشها الضحايا المؤنفلون قبل أن يدفنوا أحياء في مقابر جماعية تمتليء بهم الصحراء الجنوبية وبعض المناطق غير المأهولة في الجنوب، حيث تم إكتشاف عدد يسير جدا من تلك المقابر.وأبكتني شهادة إمرأة عجوز نجت من سجن (نقرة السلمان) الرهيب التي يطلق عليها الأكراد اسم ( سجن الباستيل) حيث قالتquot; كان طفلي مصابا بالحمى وحاولت كثيرا أن أطلب له الطبيب لإسعافه بعد أن أشرف على الموت، ولكن لم يسعفني أحد فمات الطفل، وكانت المأساة بعد موته هي أنني رأيت ذراعه الممتليء بين أنياب ( الكلب الأسود)zwj;zwj;zwj;zwj;zwj;zwj;وهو يأكله. وتكرر ذكر هذا الكلب الأسود في شهادات الكثير من الناجين في تلك المأساة الرهيبة وكيف كان ينهش أجساد الضحايا الذين يلقيهم الجنود من فوق أسوار السجن طعاما للكلاب المتجمعة تحتها.
الحديث عن جريمتي القصف الكيمياوي والإنفال يحتمل مئات المجلدات الضخمة لتوثيق شهادات شهودها أو ذكر وقائعها وتوثيقها، يكفي أن نشير الى أن وزارة حقوق الإنسان في أقليم كردستان تملك الآن أكثر من 25 طنا من الوثائق حول الجريمتين وهيأت آلاف الشهود للإدلاء بشهاداتهم عند إجراء محاكمة رموز النظام عن تلك الجرائم والتي ستكون التالية لمذبحة الدجيل، عليه فلا نستطيع أن نخوض بهذه العجالة في تفاصيل كل جوانبها السياسية والإنسانية وما خلفتها من آثار حتى على الصعيد الإجتماعي بل وعلى الجانب النفسي لما تختزنها الذاكرة الجمعية الكردية عن تلك الأيام السود في تاريخ الشعب الكردي، فنترك ذلك للباحثين الآخرين من المهتمين بهذا الشأن.
في الثامن من آب عام 1988 توقفت الحرب العراقية الإيرانية أحد أطول الحروب الأقليمية في القرن المنصرم بعد أن حصدت مليوني إنسان بين قتيل وجريح وشردت أربعة ملايين آخرين الى منافي الأرض ومهاجرها، فاحتفل صدام لثلاثة أيام متتالية بنصر زائف إدعى أنه حققه في تلك الحرب اللعينة،ولكن الوقائع على الأرض كانت تشير الى هزيمة منكرة، فقد أثقلت الحرب ميزانية الدولة بديون تتجاوز 300 مليار دولار،وكانت مصانع الدولة متوقفة عن العمل أو شبه مشلولة بسبب إنتقال العمال الى جبهات الحرب،وهناك جيش يبلغ تعداده المليون ينتظر المسرحون منه العودة الى وظائفهم السابقة والدولة غير قادرة على إستيعابهم، وهناك ملايين الأطفال الأيتام و النساء الأرامل ينتظرون من الدولة رعايتهم بعد أن سلبت منهم أعزائهم(الأب أو الزوج أو الإبن)، في تلك اللحظة تفتق ذهن صدام عن لعبة جديدة يمارسها ضد العراقيين البسطاء كعادته في وقت إشتداد الأزمات عليه، فروج وسط الجماهير رغبته في سن دستور دائم للبلاد وإطلاق الحريات السياسية عبر تشريع قانون لحرية الأحزاب. وقد إنطلت تلك اللعبة على البعض حيث كانت هناك أحاديث مكررة عن هذه المنجزات العظيمة المنتظرة من صدام مكافأة للشعب على تحمله أعباء الحرب ودخول العراق الى حالة الإستقرار بعد إنتهائه من الحرب الطويلة.ولم يكن الكثير من العراقيون يدركون في تلك الفترة حقيقة واضحة وضوح الشمس ومؤداها، أن الحزب القائد الأوحد للعراق الذي حكم البلد بالحديد والنار وصرف مليارات الدولارات من خيرات العراق لبناء دولة تحكمها المؤسسات الأمنية والمخابراتية وعلى رأس هرمها شخص مثل صدام حسين، ليس مستعدا للسماح لأي صوت معارض لذلك الحزب بالظهور في العراق اللهم إلا تلك الأحزاب الصورية التي تكتفي بفتح بعض الدكاكين السياسية كواجهات إعلامية لمجرد الحصول على بعض الإمتيازات أو المنح الحكومية، وقد كانت تجربة الجبهة القومية الديمقراطية التقدمية ما زالت شاخصة بل وباقية مع كل تلك النماذج المضحكة من الأحزاب السياسية التي كانت ملكيتها تعود الى حزب البعث العربي الإشتراكي في دوائر وزارتي الداخلية والمالية،ونسي بعض العراقيين في غفلة من الزمن أن صداما هو نفسه أطل عليهم في مناسبة بأواسط الثمانينات ليطلق مقولته الشهيرة( من أراد أن يحكم العراق بعدنا، عليه أن يستلم أرضا بلا شعب)zwj;zwj;..
المهم أشغل صدام شعبه بهذه الضجة الإعلامية التي إنطلت على البعض لفترة قريبة من موعد إدخال العراق في معترك مظلم آخر هو إحتلال الكويت،وهو موضوع حلقتنا القادمة إن شاء الله.
شيرزاد شيخاني
[email protected]
التعليقات