لم يكد سكان ولاية كوجرات الهندية يتعافون من زلزال عام 2001 ـ الذي طمر نحو مائتي ألف منهم تحت أنقاض البيوت المهدمة ـ حتى وضعتهم فرنسا على شفا كارثة بيئية جديدة، تنذر بخسائر بشرية أفدح وأوسع نطاقاً، وسيمتد تأثيرها لعقود من الزمن، لو لم يتحرك المجتمع الدولي فوراً لمنع وقوعها.

تلك الصفحة السوداء في تاريخ فرنسا كان يمكن أن تنطوي قبل أيام، عندما بدت أجهزة البيئة المصرية متشددة في موقفها ضد عبور حاملة الطائرات الفرنسية الخردة quot;كليمنصوquot; من قناة السويس وهي في طريقها إلى الهند، لتتخلص في ميناء آنلانج الهندي ـ أكبر مقبرة سفن في العالم ـ من حمولتها السامة، وتنهي عهدها الدموي على يد شركة هندية متخصصة في تفكيك السفن.. لكن الضغوط ـ كما هي العادة ـ أنهكت مصر سريعاً، فعصبت عينيها وأذنت لـ quot;كليمنصوquot; بالعبور، تماماً مثلما فعلت في أوائل التسعينات عندما سمحت لها بالمرور للعب دور رئيسي في حربي الخليج الأولى والثانية! وقد كان دائماً قرار السماح لواحدة من أعتى القطع البحرية الفرنسية بالمرور من قناة السويس قراراً سياسياً، يعبر بدقة عن الذعر من الغرب والإذعان له، على حساب القانون والضمير والمصير الإنساني...

إن quot;كليمنصوquot; ـ الملغومة بأطنان من الحرير الصخري السام quot;الاسبستوسquot; ـ تجسد الغرور الفرنسي حتى في شيخوختها، لقد دفع بها إلى البحر للمرة الأولى في عام 1957، ومنذ ذلك التاريخ شاركت بقلب ميت في عدة حروب عربية، منها الحرب الأهلية اللبنانية وحربيّ الخليج الأولى والثانية، وانطلقت من على متنها آلاف الطائرات الحربية التي قضت على آلاف المدنيين الأبرياء، وفي نهاية التسعينات قررت البحرية الفرنسية التخلص منها بعد أن تجعدت بشرتها الحديدية، وكان الحل الأوفر والأكثر أمناً من وجهة نظر فرنسا هو تصديرها إلى إحدى دول العالم الثالث ليعمل سكانها الفقراء على تفكيكها، لكن أحداً من الموانئ التي استهدفتها لم يفتح لها ذراعيه..

في العام 2001 أخفقت فرنسا في تحويل quot;كليمنصوquot; إلى (تحفة مائية) تستقر في أمعاء البحر المتوسط، بعد أن تسرب خبر احتوائها على نفايات سامة لنشطاء البيئة وجمعيات حقوق الإنسان، ثم منعتها تركيا من دخول مياهها الإقليمية في العام 2003 لذات السبب، فألغت وزارة الدفاع الفرنسية اتفاقها مع شركات تركية لتفريغ الحاملة العملاقة وتفكيك محتوياتها، وأبرمت صفقة أخرى مع شركات يونانية وألمانية لتفكيكها في بنجلاديش، ومجدداً رفضت اليونان استقبالها وهي في طريقها إلى آسيا، ثم باءت محاولة يائسة لبيعها بالفشل، فلجأت وزارة الموازنة الفرنسية ـ التي صارت إليها ملكية الحاملة ـ إلى شركة هندية اشترطت تفكيكها في ميناء آنلانج، وكان على quot;كليمنصوquot; حينئذ أن تتوجه إلى قناة السويس، لتعبر منها إلى محطتها الأخيرة في الهند ـ وسط احتجاجات متصاعدة من منظمة السلام الأخضر وحركة مقاومة quot;الاسبستوسquot; القوية في فرنسا ـ وها هي تزحف الآن بهدوء على صفحة البحر الأحمر ـ بعد أن تجاوزت البوابة المصرية الضيقة بسياسة ليّ الذراع ـ حاملة معها عشرين طناً من quot;الاسبستوسquot; القاتل لأفقر فقراء الأرض، ضاربة بعرض الحائط ترسانة الاتفاقات والقوانين الدولية التي تحظر تصدير النفايات السامة، وفي مقدمتها معاهدة بازل التي وقعت عليها 116 حكومة إلى جانب المجموعة الأوروبية ذاتها!

أما بالنسبة لمصر، التي أنشأت بحماس وزارة للبيئة منذ سنوات، والتي ينتسب إليها أهم علماء البيئة على مستوى العالم، فلم يكن بغريب أن تسمح بعبور quot;كليمنصوquot; من قناة السويس، وهي التي تتلكأ منذ سنوات في حظر استخدام مادة quot;الاسبستوسquot; في العديد من المشروعات الصناعية والتجارية في مدينتي حلوان والعاشر من رمضان، حيث يتعرض السكان هناك للموت البطيء، وقد لقي ثمانية عمال حتفهم بالفعل في العام الماضي بسبب السرطان الرئوي الناجم عن استنشاقهم هذه المادة اللعينة.. فإذا كانت فرنسا تطلق الرصاص الآن باتجاه الهند، فإن مصر ـ بموقفها السلبي من القضية ـ تفسح لها الطريق!!

إن الأمور تجري في كارثة quot;كليمنصوquot; الوشيكة بنفس السيناريو الذي حيكت ونفذت به مؤامرة قذرة لدفن النفايات السامة في الصومال في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات، فقد نجحت إيطاليا وسويسرا في ذلك الوقت ـ بالتواطؤ مع زعماء الفرق الصومالية المتناحرة ـ في شحن نحو ثمانين ألف لتر من المبيدات الحشرية منتهية الصلاحية إلى شمال الصومال، وعلمت الأمم المتحدة ومنظمة السلام الأخضر بالأمر عن طريق الصدفة، وانتفضت الصحافة العالمية، وأفردت صفحات كاملة تفضح أطراف الصفقة المشبوهة.. لكن المؤامرة تمت رغم أنوف الجميع، والنفايات دفنت بالقرب من سواحل مقديشو، وعشرات الصيادين الصوماليين ما زالوا يقضون حتفهم بسبب تعرضهم لإشعاعها، ولم يجرؤ أحد على محاسبة الجناة، وقد اعترف لي شخصياً الدكتور مصطفى كمال طلبة رئيس برنامج الأمم المتحدة للبيئة الأسبق بأنه تلقى تهديدات وقتئذٍ بالقتل ما لم يصمت.. وقد صمت!!

والسبب الرئيسي ـ في رأيي ـ وراء ذلك المسلسل التآمري أنه لا توجد لدى معظم البلدان النامية تشريعات تمنع إدخال هذه السموم، مما يجعل أراضيها quot;مزبلةquot; رخيصة وسهلة للبلدان الصناعية كي تتخلص من منتجاتها الممنوعة، برغم وجود عشرات الشركات الأوروبية المتخصصة في معالجة النفايات، وقد آثرت فرنسا أن يستنشق الهنود غبار quot;الاسبستوسquot; فيصابوا بسرطان الرئة في الحال، برغم وجود نحو خمسة عشر شركة في فرنسا تمتلك أحدث تقنيات التعامل مع تلك المادة السامة..

إحدى عشر دولة في آسيا وحدها احتفظت في تربتها بستة ملايين طن من نفايات الدول الصناعية الكبرى خلال أربعة سنوات حسب تقرير دولي، والهند سوف تكون بعد أيام الدولة رقم 12.. وأذنا العالم ستبقى متدلية في بلاهة، وسنظل جميعاً ملتصقين بمقاعد المتفرجين!!

محمد سعيد محفوظ
إعلامي مصري
[email protected]