يتضمن كل حديث عن مفهوم الحقيقة توثرا بين مضمون ثابت و مطلق ـ الحقيقة بألف لام التعريف ـ و الحقيقة في تعدد أنواعها، أبعادها العلمية، الفلسفية، الذاتية و الموضوعية. هذا التنوع في مقاربة المفهوم يجعل الحقيقة إشكالية فلسفية تطرح بالضرورة السؤال الآتي: هل باستطاعة الفكر الإنساني أن يحصل على معرفة حقيقية ؟
في البداية، لابد من الإشارة إلى يطلق لفظ حقيقة بمعان متعددة، فيقصد بها معنى الصواب و الصدق الواقعي في إطار علاقة الفكر بالواقع، كما نجد للحقيقة معاني لسانية و منطقية و غيرها. هذا التعدد الدلالي هو الذي أدى بالفلسفة إلى تفكيك المفهوم، وتنقيته من كل المعاني الشائعة و الغامضة بغية بناءه و اكتشاف بعده النسبي، بل مساءلة المعرفة الدوغمائية التي تقر بإطلاقية الحقيقة.
إن الانطلاق من التطور التاريخي للمعرفة يفترض طرح عدد من التساؤلات بخصوص طبيعة الحقيقة، فغالبا يتم جمع المطلق و النسبي، الذاتي و الموضوعي في المعرفة،لكن الأمر يتطلب مراجعة للمفاهيم و التفكير في مجالات اشتغالها، وهذا يفترض التفكير في الأساس الذي نفكر من خلاله في الحقيقة.
إدا كانت تاريخ الفلسفة سجل عن الفلاسفة ثقتهم في العقل ومدى قدرته على المعرفة، فان الاختلاف بينهم تركز حول حدود المعرفة، هل هي نسبية أم مطلقة ؟ وهكذا نجد مثلا التوجه العقلاني الذي يرى أن الحقيقة توجد في العقل وليس خارجا عنه، إذ يضم مبادىء قبلية توصل إلى الحقيقة الكلية المطلقة ونجد ذلك عند أرسطو من خلال منطقه الصوري بمبادئه الأربعة المعروفة.أما إذا انتقلنا إلى من يقول بحدود الحقيقة وببعدها النسبي فنجدها عند الفيلسوف الألماني كنط الذي ينطلق من التساؤل الفلسفي: ما الذي أستطيع معرفته و كيف ؟
لقد كشف كنط حدود المذاهب العقلية و الميتافيزيقية القديمة والقائلة بإطلاقية المعرفة و التي حاولت تأليه العقل، وبالتالي فالمعرفة عند هذا الفيلسوف هي إنتاج للعقل والحس أي التجربة بمعنى أن مقولات العقل هي الوعاء الذي يؤطر انطلاقا من الفهم انطباعات الحدوس الحسية التي نتوفر عليها بخصوص المواضيع الخارجية. في هذا السياق، يتم التمييز بين مستويين:الأول يخص الظاهرة التي يستطيع العقل معرفتها أما الثاني فيتمثل في النومين أي الشيء في ذاته وهو ما لا نعرفه و لا سبيل لنا لمعرفته أبدا، لذلك فالحقيقة تظل محدودة و لا تخضع لمنطق الإطلاقية.
بناءا على إشكالية الحقيقة بين بعديها المطلق و النسبي و كذا التعارض الموجود بين التصور الكانطي والعقلاني، نستخلص أن الحقيقة تشكل الهدف الأساسي للإنسان بما هو ذات عارضة لا تتوقف عن البحث عن إنتاج الحقيقة، إعادة إنتاجها و تداولها. إن الحقيقة تظل مطبوعة بالتعدد و المغايرة حسب اختلاف أشكال الخطاب وتمايزات الذوات المنتجة لها، وكذا بفعل التغيير السوسيوثقافي وتطور المعرفة التي تنتج ضمنها تلك الحقيقة.
واعتبارا لذلك التفاعل الجلي المستمر بين الحقيقي و اللاحقيقي يكون البرهان والحرية والاستقلالية وإبداعية الذات العارفة، كلها شروط أساسية لإنتاج ما هو حقيقي، وهذا لا يمنع من القول بأن ماهو حقيقي لا يخضع لحكم الدقيق والنهائي ـ مثلا ماهية الحقيقية ـ لكن مع ذلك استمر في البحث عن حقيقتك، ستكتشفها كأوراق متناثرة، تفرض عليك وعلى الكل جمعها بإبداعية مادامت الحقيقة متحولة دوما وهي باستمرار في طور الإنشاء و الإعداد.
باختصار، نستطيع القول أن الحقيقة تبنى من طرف الذوات و ليست ككل موجود في الواقع، لكن كيفية بناءها تخضع للتعدد و الاختلاف وليس وفقا لتصورات تدعم التفكير الأحادي.
محمد نبيل
صحافي مقيم بألمانيا
[email protected]




التعليقات