عبد القادر داود في quot;عناوين غير منطقيةquot;

في ليلة باردة من شهر يناير الماضي قدمني الصديق الدكتور السينمائي عوض حامد للأستاذ المخرج عبد القادر داود في منزله الدافئ في ولاية ماريلاند، حيث تبادلنا الحديث حول تجربته في العمل في العراق مع الجيش الأمريكي، ثم أهداني نسخة من مجموعة مذكراته الموسومة quot; عناوين غير منطقيةquot; التي صدرت في مطلع هذا العام، وقدم لها الأديب السفير محمد المكي إبراهيم. وما أن افترقنا تلك الليلة حتى انكببت على قراءة الكتاب.

quot;باسم الحي المميتquot; استهل الأستاذ عبد القادر داود كتابه ورحلته بهذا الفصل ليعكس توكله على الله وحبه للمغامرة بقبول تلك الوظيفة الخطرة والسفر إلى العراق، ارض الموت والتفجيرات. وبعدها قدم لنا صوراً محكية عن تجربته الشخصية في العمل كمترجم مرافق للجيش الأمريكي في الدوحة والعراق. وكانت المشاهد والصور عبارة عن روبرتاج شخصي له ينم عن قدرة الكاتب على الإبداع والتصوير الأدبي الساخر مثل قدرته على فن الإخراج الذي عمل فيه طويلا.

يقول الأستاذ الأديب محمد المكي إبراهيم في مقدمته للكتاب quot; ينتمي الكتاب إلى أدب المذكرات حيث يروي الكاتب أطرافا من قصة حياته على عكس الترجمة الذاتية.... و هو هروب إلى الأمام عن طريق السخرية وجلد الذات، وهي سخرية حلوة مريرة أو quot;حلو مرquot; حسب التعبير السودانيquot;. فالكتاب ملئ بالسخرية على الذات، وعلى الوضع المأساوي بأكمله في بغداد التي تشهد على فشل العالم اجمع.

يأخذك الكتاب عبر جولات مرعبة في مدن العراق المختلفة، وعبر المفارقات الساخرة المبكية في سجن أبو غريب سيء الذكر الذي عاش فيه الكاتب فترة، ليس سجيناً بالطبع، ولكن موظفاً ومترجماً يتخذ من زنزانة مكتباً ومن أخرى مسكناً له، ويحافظ على مواعيده بمنبهات أصوات القنابل والتفجيرات التي لاحظ الكاتب دقة توقيتها فضبط عليها إيقاع حياته هناك.

ولم يحاول داود إضفاء أي قدر من الغموض أو الإثارة على تفاصيل حياته اليومية كمرافق للجنود الأمريكان في المدن العراقية، ولكنه بأسلوب غير مألوف يدفع بالقارئ دفعاً لتوقع هذا الغموض، ثم يدفعه ثانية لإضفاء الإثارة من تلقاء نفسه دون أن يشعر، أو يكلف الكاتب بذلك، فالإثارة ملفوفة بين حروف الكتاب. وان كان لهذا الكتاب ولمؤلفه سر مطوي فهذا سره!.
تجولت عيون عبد القادر داود البصيرة الخبيرة لتسرد لنا صوراً سينمائية عبارة عن مزيج بين الكوميديا السوداء والتراجيديا في جولة داخل المعسكرات المختلفة ليحكي لنا عن مقارنات سريعة بين الكرم الأمريكي والبخل الانجليزي داخل المعسكرات. وفي سرده عن بخل الانجليز الممتد من عدم رد تحية الصباح، ثم البخل في كميات الأكل والشرب المسموح بها حسب التعليمات العسكرية، إلى أن يشمل بخلهم ويؤثر على دواعي التأمين والحماية (حتى الصدرية التي تحمي الجسم من الرصاص، تجد الأمريكية داخلها لوحين معدن لحماية الصدر والظهر، والبريطانية بها قطعة معدن بحجم الكف لحماية القلب فقط) أي سخرية هذه التي تجعل من بخل اليهود المشهور مجرد كذبة إذا ما قورن بالخل الانجليزي.

في نفس الوقت لم أجد فيه بكائية لبغداد، كما لم يقدم لنا الأستاذ داود تفاصيلا عن طبيعة الحياة في معسكرات الجيوش الغازية، وكيف تدار عملية الاحتلال والغزو، وكيف يتفاعلون مع الجو المفعم بالموت، وكيف يتعاملون مع الشعب العراقي والثقافة العربية، وهل يثقون فيه هو كمترجم عربي مرافق لهم كظلهم؟. قد يكون الكاتب توقف عن ذلك عمداً حتى لا يتحمل أي أعباء تتعلق بخرق الثقة أو أي تبعات قانونية قد يكون الوقت لا يسمح بها الآن، أو ربما يكون قد أجلها للنسخة الانجليزية المتوقعة الصدور قريباً.

في الكتاب أيضا شخصية محورية أخرى هي شخصية quot;مولانا زمراويquot; رفيق الكاتب، وجدت متعة خاصة في متابعة انفعالاته داخل المعسكرات الأمريكية، وذلك نابع من معرفتي الشخصية له، فقد سبق أن عملنا سوياً في محكمة واحدة في مدينة ود مدني الجميلة، أنا في القضاء الواقف،وهو في القضاء الجالس. وبحق كان مولانا زمراوي قاضياً حصيفاً ومهنياً مجيداً، وفوق ذلك كان يمتاز بأسلوب أدبي شيق، اشتهر به عمل المحاكم في تلك الأيام، وأنا في انتظار مذكراته أيضا.

الكتاب في مجمله خفيف الظل ولطيف و به سحر وجمال يعكس طبع مؤلفه داود الذي quot;يكره النكد حتى في أحلك الظروفquot; وهو محاولة لصنع الابتسام والعوالم الخاصة به ليتغلب بها على أيام هي من اشد وأحلك الأيام سوداً. والقارئ في هذا مواجه بتحديين اثنين: أما أن ينهال على الكتاب بسرعة ليكتشف الإثارة الملفوفة بين الكلمات، أو ينهال عليه بصورة أسرع من تلك، ليضيف quot;تلك التوقعات والإثارةquot; من تلقاء نفسه دون أن يشعر بذلك!.

تقديم إبراهيم علي إبراهيم المحامي

واشنطن