حلبجة الذبيحة والرمز (و. م. ب )
كانت جريمة قصف مدينة حلبجة الكردية في 16 آذار من عام 1988 بالأسلحة الكيمياوية سابقة خطيرة في القرن الماضي.فبعد الحرب العالمية الأولى كان القصف الكيمياوي لمدينة حلبجة هو أول جريمة من هذا النوع في تاريح الحروب بالمنطقة. وعندما أسقطت الطائرات العراقية 500 طن من الغازات الكيمياوية الخانقة والحارقة (السيانيد والخردل وغاز الأعصاب) على السكان المدنيين في حلبجة بالساعة 35/11 قبل الظهر بأمر مباشر من علي حسن المجيد الذي أطلق الرئيس العراقي صدام حسين يده لإبادة الشعب الكردي،لم يكن قائدي تلك الطائرات ولا صدام أو المجيد يعرفون أنهم بفعلتهم الشنيعة هذه إنما يحفرون بأيديهم قبرا عميقا لنظامهم الدكتاتوري الفاشي، فبمجرد وقوع الجريمة وإنكشاف حجمها أمام الرأي العام العالمي إتضحت معالم الصورة الحقيقية لنظام دموي بشع في المنطقة لا يتوانى عن قتل الآلاف من أبناء شعبه المدنيين العزل من أطفال ونساء وشيوخ لمجرد أنهم أقارب لمعارضين لهم للحكم، فقد أماطت تلك الجريمة النكراء اللثام عن البرنامج التدميري الذي وضعه نظام صدام لتطوير أسلحة الإبادة الشاملة، وكانت الجريمة التي تكشفت أبعادها بمثابة ناقوس خطر أيقظ العالم و دول الأقليم من سبات عميق تغافل به العالم عن تهديدات نظام صدام الدموي للمجتمع البشري.
وتحولت حلبجة الذبيحة التي قتل فيها أكثر من خمسة آلاف إنسان وجرح أكثر من 10 آلاف آخرين في ظرف نصف ساعة لتتحول المدينة بعد دقائق معدودة الى مدينة أشباح تخلو حتى من الطيور والزواحف جراء تشرب الأرض والسماء بالأدخنة الكيمياوية الفاتكة للحرث والنسل، فتحولت هذه المدينة الى رمز شاخص لمظلومية الشعب الكردي والأساليب القمعية التي تمارس بحقه في بلده، رغم أن حلبجة لم تكن وحدها التي أصابتها الفجيعة الكيمياوية، بل أعقبتها عمليات قصف مماثلة ضد العديد من القرى الكردية في كردستان العراق مثل ( باليسان وشيخ وسانان) وقرى عديدة في مناطق كرميان المحاذية للمحافظات العربية في العراق وبهدينان المتاخمة للحدود مع تركيا.
في تقرير أعدته بعثة دولية مكونة من عدد من الخبراء والأطباء المتخصصين بمجال الأسلحة الكيمياوية والتي زارت مدينة حلبجة عام 2000، نشرت البعثة خلاصة تحقيقاتها الميدانية في المدينة لافتة النظر الى وجود آثار مدمرة على بيئة المدينة نتيجة ترسب الغازات الكيمياوية تحت أرض المدينة على رغم مرور أكثر من 12 عاما على الضربة،وأشار التقرير الى أن هذه الترسبات تهدد حياة الآلاف من السكان العائدين الى مدينتهم، منوها الى تزايد النشاط السمي لدى الحشرات في المنطقة على وجه الخصوص.فقد أشار التقرير الى quot; أن النشاط السمي للزواحف والحشرات تزايد بنسبة عشرين ضعفا،و وتحولت اللسعات العادية لتلك الزواحف والحشرات الى لسعات قاتلة فورية نتيجة ذلك التزايد في النشاط السمي، في حين أن لسعات العقارب والأفاعي أيضا في بقية أنحاء كردستان كان من الممكن إسعافها ومعالجتها!.
وقبل عام تقريبا أورد طبيب في مستشفى حلبجة التعليميquot; أن حالات التشوه الولادي لدى المواليد الجدد بالمدينة آخذة بالإزدياد وتحديدا لدى الأمهات اللواتي كن في المدينة أو أطرافها عند وقوع القصف الكيمياوي رغم مرور فترة طويلة على إستنشاقهن للغازات السامة. وسجلت مستشفيات حلبحة خلال عام 2004 وحدها أكثر من 120 حالة تشوه ولادي في المدينة من أبرزها التشققات الشفوية،والشلل الخلقي، فيما هناك الكثيرون من الرجال والنساء ما زالوا يعانون من مضاعفات مرضية جراء تعرضهم لتلك الغازات خصوصا تقرحات في العيون وضعف البصر وإضطرابات في الجهاز الهضمي وظهور حالات كثيرة من السرطان بنسبة عالية جدا قياسا الى بقية مناطق كردستان.
وأنا أستغرب كثيرا من بعض الأشخاص الذين يصفون الأكراد بالمبالغة أوما يسمونه بترديد إسطوانة مشروخة عند حديثهم عن مأساة مدينة حلبجة التي ما زال الكثيرون يعانون من آثارها لحد يومنا هذا، بينهم بعض القومجيين والعنصريين من أبناء القوميات العراقية الذين يستكثرون علينا الحديث المتكرر عن هذه الفاجعة، رغم أن ذبح حلبجة بالغازات السامة في إعتقادي يساوي المحرقة اليهودية أيام النازية والتي حوكم بسبب نفي وقوعها قبل أيام أحد المؤرخين البريطانيين عندما شكك بوقوع تلك المذبحة ضد اليهود، فمثل هذا المؤرخ وهؤلاء المستكثرين والهازئين ومنهم بعض الشامتين من المجردين من ضمائرهم الإنسانية كثر في كل زمان ومكان وهم يتعامون عن الحقائق الدامغة، بل أن بينهم البعض ممن شكوا فعلا وما زالوا يشكون في حقيقة إقدام النظام العراقي على هذه الجريمة بينهم محامون مرموقون في الأردن وقطر وغيرها من الدول العربية المدافعون عن الرئيس المعزول في المحكمة الجنائية الحالية، فمنهم من إتهم إيران بضرب المدينة وهي التي بادرت بكشف هول تلك الجريمة البشعة للعالم، فلولا وسائل الإعلام الإيرانية التي صورت مشاهد التراجيديا الكردية في حلبجة ساعة وقوعها، ووزعت صورها الحية على وسائل الإعلام العالمية لكانت آثار هذه الجريمة قد طمست مثل العديد من الجرائم الأخرى للنظام المقبور ضد الشعب الكردي.
ومن بين مئات الوثائق التي حصلت عليها من احدى مقرات المخابرات العراقية في أربيل أثناء الإنتفاضة الجماهيرية التي تفجرت في المدينة في 11 آذار من عام 1991 لفت نظري وثيقة صادرة من هيئة التصنيع العسكري يعود تاريخها الى فترة قريبة من قصف حلبجة، وهي على شكل كتاب رسمي موجه الى مديريات الأمن والإستخبارات العراقية في مدن كردستان و تتحدث الوثيقة عن حاجة أحدى مديريات التصنيع العسكري بأسم ( و.م.ب) الى معتقلين أكراد من الشباب لإستكمال التجارب التي تقوم بها المديرية.
وكما يقول المثل ( بدأ الفار يلعب في عبي)فأستقصيت حقيقة الوثيقة من بعض المتخصصين وبدأنا بمقارنتها بوثائق أخرى صدرت في نفس الفترة حصلت عليها بعض التنظيمات الكردية الأخرى، وإذا بنا نكتشف هول جريمة أخرى إقترفها النظام الفاشي ضد الأكراد، حيث تبين أن رمز( و.م.ب) المستخدم في إشارة الى اسم مديرية تابعة للتصنيع العسكري هو مختصر لأسم وحدة عسكرية مرتبطة بالهيئة تدعى( وحدة المجازر البشرية) وهذه الوحدة متخصصة بإجراء التجارب على الأسلحة الكيمياوية، وطلبها بإرسال المزيد من المعتقلين الشباب الأكراد الى المديرية كان يهدف الى سحب دماء هؤلاء الشباب لإجراء تجارب حول تأثير تلك الأسلحة على البشر! وهذه جريمة تفوق في بشاعتها كل جرائم النازية والفاشية أثناء الحربين العالميتين، بل هي جريمة لم يتفتق ذهن أي إنسان سوي حتى بمجرد التفكير بها، ولكن النظام الصدامي فعلها وعن سابق تصميم وترصد.
اليوم يعاني سكان مدينة حلبجة من آثار مدمرة على بلدتهم وبيئتهم، ووصلت الحالات النفسية المرضية لدى سكانها الى مستويات غير طبيعية جراء فقدان كل شخص بالمدينة لعزيز له أو حبيب،وتتعاظم تلك الحالات مع ورود أخبار من بغداد بإحتمالات عدم محاكمة صدام ورموز نظامه عن جريمتي الأنفال وحلبحة بحجة أن قرار المحكمة الجنائية العليا الحالية بإعدام الطاغية وأعوانه بقضية الدجيل يكفي لإدانة صدام عن جميع الجرائم التي إرتكبها ضد الأكراد، ولكن الأكراد لايرضون بذلك، فهم يريدون الإنتقام من هذا المجرم السفاح ومن إبن عمه المهووس بدماء الأكراد الذي ذبح مدينتهم، ويطالبون الحكومة العراقية بتقديم التعويضات المناسبة لعوائلهم كحق طبيعي وقانوني،ولذلك فهم في ثورة دائمة عبر المظاهرات التي تنطلق بين فترة وأخرى تدعو الى إجراء محاكمة صدام وإبن عمه المجرم علي حسن المجيد المعروف لديهم ب(علي كمياوي) في مدينة حلبجة ذاتها بإعتبارها مسرح الجريمة أولا، ولسهولة إدلاء سكانها بشهاداتهم في المحاكمة التي ستجري هناك ثانيا. ولعل هذه المحاكمة التي إن قدر لها أن تجري في مدينة حلبجة ذاتها ستكون الرد الصريح لكل المدافعين عن جرائم صدام، وما سيروى فيها على لسان شهود وضحايا الجريمة ستكفي لإسكات الشامتين والمستكثيرن عندما يرون حجم ما فعله صدام لهذه المدينة الكردية الذبيحة..
شيرزاد شيخاني
التعليقات