عندما ينشأ التشابك بين ألآليات السياسية والفهم المتعصب ذو الطبيعة الإيديولوجية العقائدية،التي تعبر أو تعكس مصالح معينة وتخضع للنظرة الضيقة أو لاعتبارات محددة مسبقا أو مخاوف مصطنعة فأن واقع فقدان الثقة اللازمة سيتجسد في العمل الوطني الذي يفترض ((أولوية المصالح الوطنية العليا)).
بعمومية المشهد العراقي الحالي،وبرغم ظهور الآليات السياسية المستحدثة والتي تعبر نظريا عن واقع ((ديمقراطي)) مؤسسي، فأنها لحد ألان لم تتمكن من إنتاج نظام سياسي فاعل يستوعب ويحل المتناقضات والإشكاليات ويلبي المتطلبات الملحة للمجتمع العراقي.
فقد أحدث الخطاب السياسي الذي دعا إلى تجسيد المصالح الطائفية والقومية والقبلية واقعا في غاية السلبية واستخدمت آليات العمل السياسي المستحدثة في دعم هذا الخطاب على أنها وسائل المشروعية السياسية لأهداف غير مشروعة كالمحاصصة الطائفية أو المشاريع الطائفية والقومية الانعزالية، مما أنتجت قرارا أسس واقعا متفجرا اجتماعيا وسياسيا واتجه بالبلاد إلى حافة هاوية سحيقة.
ونتيجة للانغلاق والتشدد الإيديولوجي العقائدي الذي اتخذ منهجا دينيا ومن ثم مذهبيا ليتحول إلى مشروعا طائفيا ذو أهداف سياسية أو منهجا قوميا متعصبا او نزوعا قبليا متخلفا عن المعطيات الاجتماعية المعاصرة او اتجاها حزبيا ديماغوجيا،أخفقت القوى السياسية العراقية في تبني صيغ فاعلة ومؤثرة لإنتاج قرار وطني سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي فاعل ورشيد مما ادخل البلاد في نفق اشد ظلمة مما كان فيه،ومن أهم أسباب هذه الحالة على الإطلاق،تناقض المصالح والدخول في صراع عنفي من اجل تحقيقها،عبر بشكل واضح عن تخلف القوى السياسية والاجتماعية العراقية،وإن لم تتدارك هذه القوى أمرها وترفض المحتوى المتخلف الذي تستند إليه فكريا وواقعيا وتتبنى مشروعا وطنيا حقيقيا وعصريا بمعنى الكلمة يبتعد عن الخطاب الديني والقومي والقبلي والحزبي الأحادي فأن مستقبل هذه القوى النهاية، والنهاية المؤلمة،وستكون هذه النهاية ليس بفعل قوة عسكرية أو سلطة ما خارجية وإنما بفعل حركة التاريخ وتحالفها مع حركة وطبيعة ومتطلبات المجتمع الأساسية وهي الحاجة والمصلحة الإنسانية الطبيعية المجردة المتجددة.
فالمسألة العراقية تعد الأشد تعقيدا نتيجة لعدة متغيرات فاعلة ومؤثرة، وتأثيراتها الايجابية والسلبية تُفعّل واقعا ما دوليا وإقليميا ومحليا،والمفترض إن القوى العراقية تتبنى وتتابع هذه الانعكاسات لتؤثر فيها فعليا وبالاتجاه الذي يخدم المصالح العراقية وإذا ما تحققت أو أنجزت ستدعم تلقائيا المصالح الوطنية والمذهبية والقومية وما إلى أخره من الاتجاهات،فتحقيق المصلحة العراقية العليا هي نتيجة ايجابية لكل القوى العراقية،وبعكسه ستعمم الانهيارات وآثراها السلبية على كل القوى العراقية الفاعلة.
هذه الآمال والمتطلبات تفترض بروز الكفاءة السياسية وعمق الرؤية للطبقة السياسية النافذة في عراق اليوم وهذا ما لم يبرز في الواقع العراقي لحد الآن lsquo;فالاستقطاب المذهبي والقومي والقبلي انتشر كالنار في الهشيم،وأصبحت المؤسسات السياسية الديمقراطية المستحدثة تعاني من انهيار وظيفي وعجز مستفحل،فغدت هذه المؤسسات بناءا عصريا لمحتوى متخلف يجتر كل مصائب وويلات الماضي،وهذا هو السرطان الديمقراطي للمؤسسة السياسية،فلا حرية ولا ديمقراطية مع الطرح الطائفي و العنصري و القبلي المتشدد الذي لا يقبل المساومة والتلاقي والتحالف الوطني الحقيقي.
ومما عمق التخلف السياسي العراقي أن القوى العراقية تتبعت الإيحاءات الخارجية وتناغمت مع المصالح الضيقة مما أوقعها في رؤى ضبابية انعدمت أية أمكانية لاستشراف المستقبل والتي تعد ضرورة سياسية ملحة للإنجاز السياسي.
إن أحادية النظرة أسهمت في خلق انهيارات شملت كل مناحي الحياة العراقية وعمقت التشرذم السياسي والاجتماعي وانتشرت السلوكيات المنفلتة من كل قيد قانوني أو ديني أو عرفي،وأصبح المجتمع في حالة من الانهيار الذاتي و اختزلت كل قضاياه ومستقبله وتطوره في ناحية وحيده هي أمنه المفقود!!،مما جعل قوى المجتمع الحقيقية من فكرية واجتماعية واقتصادية تنكفئ أو تهرب لانعدام القنوات الوطنية الطبيعية والعقلانية المأمونة التي يمكنها العمل من خلالها للمساهمة في تأدية دورها الوطني. ومما عمق الإشكالية بروز القنوات الدينية الطائفية والقبلية والمناطقية التي تفتقر إلى أدنى الإمكانيات المهنية والعلمية لفقدان الاختصاص والتزامها بالفكرة المسبقة والقناعة الثابتة والتعصب الإيديولوجي وعبثيتها الإجرائية وغوغائية خطابها السياسي والسعي بكل الوسائل اللامشروعة لتحقيق المصالح.
هذه الأسباب وغيرها الكثير جعلت المجتمع ودولته المستحدثة بل كيان الوطن في مواجهة صارخة أمام كل هذه التحديات، ومما عمق المخاوف وبشكل جدي أن نزوعا لشخصنة القيادات بدأت بالعودة أو الظهور من جديد.
فرغم الممارسات الديمقراطية التي شكلت خطوة أبداعية حملت المجتمع إلى مستوى يمكنه من وضع خطواته بالاتجاه الصحيح حيث كان خروج الجماهير وتحديها للإرهاب بكل أشكاله خطوة حقيقية،إلا أن القيادات السياسية وبممارساتها وتنافسها وصراعاتها كشفت عن مدى الانحطاط السياسي الذي تعاني منه،فلم تعر أية أهمية لهذه الجماهير التي أوصلتها إلى ما وصلت إليه بل استخفت وبكل الصلف بمصالح الشعب الحقيقية من خلال البحث والتشبث بمصالحها الذاتية، وبينما كانت القوى السياسية العراقية تتنازع وتتنافس من اجل المناصب والمصالح كان الشعب ولازال ينزف دما ويفقد من خيرة شبابه وأبنائه في عملية موت عبثية مستمرة تتبرقع بادعاءات لا أخلاقية مجرمة،لقد فقد العراقيين مابين 31/12/2005 والى 15/4 /2006 ما يقارب من 20000 ألف شهيد ومثله جريح والإخوة القادة يبنون ((عراقهم الجديد)).
إن من أهم أسباب هذا الانهيار أن الطائفية السياسية التي تبنت العملية السياسية أخفقت في كل شيء،وبشكل جلي واضح أفرغت العملية السياسية من محتوها الديمقراطي، فأنتجت واقعا مشوشا متفجرا وقدمت أسوء سلوك إداري لمجتمع منكوب معذب،وعبر النظرة العقائدية الضيقة والخطاب الأحادي الانعزالي والممارسة القمعية تفجرت الكيانات الاجتماعية وتشققت أنسجتها التي حافظ عليه المجتمع زمنا طويلا وأصبح المشروع الوطني العراقي قي مهب الريح والعواصف. فالقنوات السياسية أحدثت واقعا متفجرا نتيجة للاستخدام السيئ من خلال العبثية وتدني المعرفة والكفاءة، ومما عمق ألازمة لتتحول إلى حالة مستعصية نشوء وسائل مدمرة للتطور الديمقراطي،فنشأ الاستقطاب الطائفي والقومي وظهرت المليشيات ففرضت واقعا مستعصيا واحتقانا شديدا،وبدت كل الفعاليات تظهر كحالات عبثية غوغائية تثير القرف والاشمئزاز،حتى أن المواطن فقد ثقته بالسياسي الذي يكذب عليه دائما،وقد اعترف رئيس الوزراء المنتهية ولايته في خطاب التخلي عن ترشيحه لرئاسة الحكومة الدائمة عندما ذّكر مستمعيه بان هناك سياسيون يعربون له عن رأي موال إمامه وليغيروه في موقع أخر،هذا الانحدار جعل الواقع مأزوما ينذر بأخطار جسام.
إن مفهوم الديمقراطية كعملية قانونية دستورية تختلف كثيرا عن مفهوم الحرية الذي إن لم يتجسد بالممارسة الوطنية للفرد ككائن طبيعي يعبر عن مصالحه الفردية من خلال منظور جماعي لتحقيق المصالح الأساسية فلن تعني كل المؤسسات الدستورية شيئا لأنها لم تعبر عن قيمة حقيقية للحرية الفردية،وإذا كانت الديمقراطية السياسية تعني التداول السلمي للسلطة وتمكين القوى السياسية من ممارسة عملية اتخاذ القرار السياسي العام وحسب القنوات القانونية الدستورية من خلال ممارسة الاستقلالية التامة والحيادية الصارمة،فالحرية عمليا تعني إيصال الفرد إلى واقع فعال ومؤثر يدعم تنمية آفاق مستقبله ويمكنه من ممارسة حقوقه وتأدية واجباته من خلال دولة تلبي حاجاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
الحرية قدرة المؤسسات الدستورية على تدمير الحواجز والبنى المعوقة لانطلاق الإنسان نحو بناء واقع فعال لتنمية قدراته الإنسانية وتلبية حاجاته الطبيعية وتأمين مستقبله.
لقد أحدثت العولمة انقلابا في مفهوم وظيفة الدولة،فبعد أن كان مفهوما يجسد النزوع القومي أو الديني أو الفلسفي أو الاقتصادي،أصبح اليوم مفهوم وظيفة الدولة تلبية الحاجات الإنسانية الحقيقية والأساسية للمجتمع،والدولة التي تتنكر لهذه الحاجات وتروج الشعارات القومية أو الدينية أو الثورية الجوفاء لن تتمكن من حل اشكاليتها مع شعبها أبدا وستفشل رغم كل محاولاتها الاستبدادية.
فالحاجة الإنسانية الطبيعية والضرورية أكثر أهمية على المدى البعيد من النزعة الدينية أو القومية أو القبلية إلى أخره من البنى التي تسعى إلى ترويجها القوى السياسية الباحثة عن مصالحها عبر الاستئثار بالسلطة.
إن تدمير الحواجز المفروضة مهما كان شكلها وعنوانها والتخلي عن تسييس الدين والمذهب والقومية والقبلية والنأي بهم عن الانحدارات السياسية سيدعم التطور الديمقراطي وستكون الطروحات الدينية أو المذهبية أكثر قبولا عندما يتبناها العقل لا العاطفة الجامحة،سيسمو الدين والمذهب والقومية عندما تنعدم السبل لاستغلالها سياسيا وتعجز القوى السياسية عن امتطائها للوصول إلى السلطة،ولنفترض أن القوى التي تتبنى الدين والمذهب أو القومية..الخ منهجا فكريا ومبررا سياسيا لمطالباتها السياسية جردت من هذا التبني؟ فما الذي ستقدمه مبررا لوجودها أو أين أحقيتها بقيادة المجتمع؟ أي برنامج سياسي اقتصادي اجتماعي قدمته مجردا لتحقيق حاجات المجتمع؟ إنها بدون طروحاتها المثالية في الدين والمذهب والقومية لتجيش الناس نحو الانعزال لن يكون لها وجودا ولن تتمكن من تقديم شيء ولن تقنع أحدا بالسير ورائها وعاجلا أم آجلا ستواجه مأزقها عندما تفشل بل تعجز عن إدامة تحالفها مع قواعدها البشرية التي لابد أن تتخلى عنها بعد أن تكتشف أنها لا تمتلك برنامجا أو سبيلا نحو الحياة والمستقبل غير الماضي.
إن الخلط المتعمد بين مفهومي الديمقراطية والحرية من خلال انتفاخ الدعاية المنفلتة غايته إبراز ظواهر وتفاعلات وعلاقات متخلفة أو تقليدية باسم الحرية تارة وأخرى باسم البناء الديمقراطي وفي الحقيقة ما هي إلا خطوات تقهقر وارتداد فعلي متعمد واسر للمجتمع في متاهات التاريخ الذي لن يكون هنا جسرا نحو مستقبل جديد بل حياة وممارسة متخلفة متراجعة لن تلتقي أبدا مع التطور والعصرنة والحداثة.

جمال البزاز