عندما نقول المجتمع الدولي، يتبادر الى الذهن مجموع الدول في العالم، ولكن العالم نظم نفسه في اطار هيئات ومنظمات ومنح لهذه الهيئات والمنظمات صلاحيات محددة، تظهر ارادة المجتمع الدولي في اقرار امر ما، و فعالية المجتمع الدولي تتبين في قرارات مجلس الامن، لان هذه القرارات والزاميتها، تستند الى القوة ممنوحة لها في نظام منظمة الامم المتحدة وحسب الباب الذي تستند اليه من هذا النظام، بعكس قرارات الجمعية العامة التي لا تعتبر ملزمة.

ولكن الامر الواقع يفرض نفسه غالبا، فالنظام الدولي ليس هيكل جامد، بل يتغيير بتغيير موازين القوة والقدرة، فرغم ان النظام الدولي قد اقر لخمسة دول الحق في التمتع بفيتو او النقض على اي قرار رغم اكتسابه الاكثرية، الا ان هذا الحق لم يكن ثابتا، فهذا الحق الذي تتمتع به الان كل من حمهورية الصين الشعبية والاتحاد الروسي وفرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الامريكية، كان قبلا في يد جمهورية الصين الوطنية (فرموزا) بدلا من الصين الشعبية.

ومع بداية التسعينيات اضحت الدول السبعة وهي الولايات المتحدة الامريكية واليابان والمانيا وبريطانيا وفرنسا وايطاليا هي القوى الاكثر تأثيرا في القرار الدولي رغم وجود مجلس الامن الذي صار يتمتع بدور اقل قوة مما سبق رغم امتلاكه قوة القرار قانونيا، والدول السبع صارت ثمانية بعد انظمام الاتحاد الروسي اليها.

رغم هذه الهيكيلية المعقدة لانها بالاساس لا تعتمد على نصوص قانونية فقط بل على عوامل اخرى كثيرة تتداخل لتشكيل ما نسمية المجتمع الدولي، الا انه من الواضح انه عندما يقال قرار المجتمع الدولي فانه اي القرار هو قرار مجلس الامن الدولي شكلا و القوى الفاعلة والمشاركة في الجهد الدولي فعلا.

عندما نقول القوى المشاركة في الجهد الدولي فعلا، فنحن نعني بعض الدول التي رغم عدم تمتعها بعضوية مجلس الامن الدائمة وبحق الفيتو، الا ان دورها في دعم تنفيذ القرارات الدولية سواء كان هذا الدور ماديا او معنويا دورا كبيرا واساسيا، مثال المانيا التي فرضت نفسها عضوا اساسا في القرار الدولي ولم يعد ينطبق عليها وعلى اليابان القول السابق عملاق اقتصادي وقزم سياسي، بل ان الدولتين صارتا محج لنجاج اي قرار دولي.

في مقابل هذا تتمتع كل من الصين وروسيا بحق الفيتو، اي بحق تعطيل اي قرار دولي تعتقدان انه مضر بمصالحهما او بمصالح اصدقاءهما السياسية او الاقتصادية، مثال قضية دارفور التي ورغم المأساة الانسانية الكبيرة والمؤلمة ورغم تغني الصين بالمبادئ والقيم الانسانية والمساندة للفقراء، الا انها وبشكل صارخ تقف بجانب مروجي اسواء ايديولوجية عنصرية وفاشية، وتتعامي عن المجازر والقتل المجاني اليوم المقترف هناك، لاجل الحفاظ على مصالحها النفطية في السودان.

رغم القانون الدولي ونظام الامم المتحدة اللذان يدعيان صراحة الى العمل من اجل استتاب السلام والامن الدوليين، الا ان هذا النظام لا يزال يفسح المجال للمناكفة والصراع الخفي والضرب تحت الحزام احيانا، فموقف الصين وروسيا مع المسألة الايرانية يكاد ان يكون موقف المشجع للنظام الايراني لامتلاك الاسلحة النووية، وهنا ندرك ان الدولتين لا يمكنهما ان يذهبا بعيدا في هذا التشجيع، بل ان كل ما يتمكنان من عمله هو توجيه ضربات ضمن المسموح به الى الولايات المتحدة الامريكية او استنزافها اقتصاديا وعسكريا بمثل هذه الدول التي لا يهمها مصلحة شعبها بقدر ما يهما الترويج لشعارات وايديولوجيات معينة وان كانت على المدى القصير.

فروسيا والصين يسرهما ان تقوم الولايات المتحدة والتي تعتبر اليوم اقوى قوة على الارض، بحيث ان قواتها تكاد توازي قوة العالم مجتمعة ضدها، باستنزاف مستمر لهذه القوة من خلال الصرف العسكري او الاستخباراتي الغير المنتجان او حتى ان انشغالها بأمر ما قد يجعلها تنسى او لا تبالي بتحركات اخرى في مناطق ابعد عن مصالحها المباشرة، ولكن هذا الاستنزاف له مخاطره عندما
يخرج من نطاق السيطرة، فالولايات المتحدة الامريكية، لاتمتلك قوتها الاقتصادية والعسكرية فقط، بل ان هذه القوة مرتبطة بمصالح اساسية مع اغلب الدول في العالم، لا بل حتى مع الصين وروسيا نفسيهما، التان تدركان وتعيان ان مصالحهما مع الولايات المتحدة الامريكية اكثر نفعا لها من مصالح غير ثابتة مع ايران.

الولايات المتحدة الامريكية تدرك حدود تحركها، رغم
كونها اقوى قوة على الارض فانها تدرك ان تحركاتها يجب ان تكون محسوبة لكي لا تخسر مصالحها الاساسية وموقعها الفريد، ولذا نرى ان موقفها من النظام الكوري الشمالي يكاد ان يكون اكثر مرونة، لان هذا النظام يقع على تخوم الجغرافي والسياي للدولتين الكبيرتين الصين وروسيا ويرتبط بهما اقتصاديا بشكل كلي.

من هنا نرى ان اللعبة السياسيو الداريو حاليا حول ايران، ورغم جموح ايران الظاهر، وتحديها للولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الاوربي ممثلا بترويكته (المانيا وبرطانيا وفرنسا)، الا ان الامور لن تسير كما يروج الاعلام التحريضي والذي يظهر ايران كقوة قاهرة ومتحدية لاعداء الاسلام، وهذا الابراز يكاد ان يكون سمة عامة في اغلب الاعلام الخاص والحكومي وان بنبرة مبطنة، بل ان الامور ستتجه الى حل يحفظ ماء وجه ايران بالسماح بتشغيل المفاعل الننوي وانتاج الوقود تحت اشراف دولي وبدرجة التخصيب ما بين 3 الى 7 % اي ما يسمح بانتاج الطاقة الكهربائية، علمان ان هذا الحل اساسا موجود ولم تعترض عليه الدول الكبرى، ولكن ايران وللحصول على مكاسب سياسية واعلامية، تدير هذه الحرب المعروفة الحدود، كما ان
ما يساعد على التفاؤل بحل ما هو توجه الحكومات الايرانية والنخب السياسية الايرانية البراغماتي، التي ورغم كل الشعارات التي ترفعها الا انها تبقي براغماتية وتعمل بالممكن وتتمكن من تقديسم التنازلات العديدة واعادة تصوير الامر للداخل انه انتصار مبهر، ويكفي ان يقال ان الحكومة تمكنت وانتصرت في الحفاظ على الثورة الاسلامية ضد الاعداء، والعامل الاكثر اهمية ان موقف الصين وروسيا هو لمدى وحد معين، بمعنى انهما لن يسيرا الشوط كله مع ايران وايران تدرك ذلك، فتحدي اميركا الى المدى البعيد ولحد اشعار اميركا ان صين وروسيا صاراتا في خانة الاعداء المباشرين يعني تقديم خسائر جمة لا تتحملاها ولن يتحملها العالم المبني على تداخل المصالح.

ان روسيا والصين اللتان لا زالتا محسوبتين في قمة المجتمع الدولي، بمعنى اميركا في القمة ويحيط بها الدول الست وروسيا والصين وقد ينضم اليهم قريبا كل من الهند والبرازيل، سيكون موقفهما محرجا وخصوصا ان هذا الموقف يكاد ان يكون موقف مشعل النيران او المتفرج في اغلب الاحيان دون تقديم مستلزمات الموقع الذي يحتلانه، اليوم ورغم ايماننا ان هاتين الدولتين وايران معهما ستعملان بكل امكانياتهما للخروج من المأزق الحالي، الا ان السؤال الذي سيفرض نفسه الى اي متى ستسير كل من روسيا والصين السير في دور المعرقل او المتشبث بمخلفات النظام العالمي المخلوزق بعد الحرب الكونية الثانية؟

تيري بطرس

[email protected]