1- تمهيـــد
هل يعني السؤال أعلاه بأن ثمة مفاضلة مابين الديمقراطية ( كنظام وثقافة )، والعراق كوطن؟ كلا،لأن مفاضلة كهذه لامعنى لها، أم ان المفاضلة هي مابين عراق آمن ولكن بدون ديمقراطية، و عراق حرّ ويتمتع بنظام تعددي، ديمقراطي، تداولي ويخضع فيه الحاكم للمسائلة عن قراراته، ولكن غير مستقر وفالت أمنيا؟ بيد ان السؤال يطرح خيارا أوسع ؛ هل يمكن تحقيق الديمقراطية في عراق حرّ وآمن؟ أي هل يمكن أن نحصل على الاثنين معا، الحرية والعراق الآمن تحت ظل نظام ديمقراطي؟ واذ قد لا يرى ذو العقل الراشد المستنير والمستند الى قرون من تجارب التأريخ البشري في الديمقراطية quot;جنة خلاص quot; بحد ذاتها، ولكنه قد يرى فيها اسلوبا جرّبته البشرية لحلّ،حلاّ نسبيا، مشاكل وتناقضات أو صراعات مجتمعاتها وشرائحها وأفرادها في سعيهم الدائم لتحقيق حياة كريمة وعادلة تضمن حقوقا وفرصا متساوية ؛ فرص سياسية واجتماعية واقتصادية (فرص العيش ) لجميع الأعضاء والأفراد في تلك المجتمعات. وينطوي مفهوم الديمقراطية على مفهوم لتكافؤ الفرص، أي ان للديمقراطية بعد اجتماعي ؛ حيث لابد من توفر آليات لتحقيق العدالة الاجتماعية، وذلك بتوفير فرص كافية للتكافل والتضامن الاجتماعي، فبدون هذا البعد قد تختزل الديمقراطية الى نظام سياسي أجوف، يخدم مصالح سياسيين وجماعات وكتل وأفراد وحتى عصابات لتداول السلطة وتسخيرها لمصالحهم الفئوية والفردية. لننظر في هذه المفاهيم في ضوء المشاهد الدامية والمفجعة الجارية على المسرح / الوطن العراقي اليوم، بعد ثلاث سنوات من سقوط الطغيان.
بعد تحرير العراق من قبضة الديكتاتورية الثقيلة التي أطبقت على أنفاس الناس على مدى أكثر من ثلث قرن، وبصرف النظر عن كيفية ونوعية القوى الأجنبية التي أزاحت تلك القبضة العتية عن أعناق الناس عن طريق الغزو والاحتلال المباشر، فذلك موضوع لا نطرقه الآن، و له ما له وما عليه ؛ نقول ؛ الى جانب ذرائع متعددة، فان ما أعلنه الغزاة، كغاية لغزوهم العراق، وتشبّث به المعارضون المنفيون في الخارج والمعارضون الصامتون في الداخل، هو انهم ( أي الغزاة ) جاءوا لإقامة عراق جديد يستند في نظامه الى الديمقراطية بمعناها الواسع. ولكن بعد مرور ثلاث سنوات لاتزال روائح الموت تتصاعد بزخم أكبر ومداخن الدمار تنتشر في أنحاء عديدة من عراقنا المحرر / المحتل. فأين يكمن الخلل أو القصور أو المكر أو المؤامرة أو الجريمة؟ لماذا لا يزال العراق الغالي ينزف دما؟ لماذا تتحول العملية السياسية الديمقراطية الموعودة الى اصطراع طائفي سياسي، من جهة، والى ارهاب متوحش في الداخل، من جهة أخرى؟ هل كذب الغزاة أم عجزوا؟ هل طغت ثقاقة القبيلة والطائفة والعصابة على عقول من نصّبوا أنفسهم أو نصّبهم الغزاة كقادة لاعبين جدد في العراق؟ أم هل ان الحالة الثقافية والاجتماعية /السياسية في العراق لا ترقى ولا تتأهل لبناء نظام الديمقراطية، وذلك بالنظر لانعدام توفر الشروط المسبّقة، حيث لا وجود لأساسيات قيم تقوم على احترام الآخر ولا لثقافات حوار منفتحة، بل ان ما يسود هو سلوك الاملاءات القسرية والتكفيرات الدينية والتمذهبات المتقابلة والمتمرسة ؛ مما يثير ويعمّق التناشزات الاجتماعية والدينية والعرقية والبيئية، وذلك فضلا عن التناشزات الثقافية التي تقود الى تطلّعات ومخيالات متباينة، ان لم تكن متناقضة بحدة، عن نوعية الحياة السعيدة أو السوّية أو الحرة أو التقية أو الشريفة... الى آخر ما هناك من مفهومات متصورة أو مستبطنة للحياة المنشودة.
دعنا، في حدود المساحة المتاحة في هذا المقال، نحاول التركيز على مناقشة بعض هذه الأسئلة المثارة.ولكن، قبل ذلك، لنعالج مسألة المقال المحورية ؛ الديمقراطية، فهل هي الحل؟ واذا كانت هي الحل، فهل تتوفر شروط تحقيقه؟ وهل بدون تحقيقه سيعود العراق مهشما الى حضيرة الاستبداد مرة أخرى، أو الى الانقسام والضياع والعدم؟ فما هي هذه الديمقراطية / الحل؟ وكيف سيرتبط مستقبل العراق الآمن والمزدهر بمآلها ومصيرها؟
2- لماذا خيار الديمقراطية؟
خلال الأسابيع الأولى من سقوط صنم النظام أصدر هذا الكاتب كتيبا، طبع بآلاف النسخ في حينه في العراق بعنوان ؛ quot; أي حزب نريد في عراق ديمقراطي جديد؟ quot;، وكان يتضمّن مشروعا للتحالف أو الاتحاد الجبهوي الوطني لوضع استراتيجية وطنية عليا للتحوّل الى النظام الديمقراطي، ولإنهاء ثقافات الاستبداد، ولترحيل الغزاة، ولإعادة بناء العراق. في ذلك الكتيب أسهبنا في شرح مفاهيم الديمقراطية وتطورها تأريخيا وشروط تكييفها أو تبنّيها في العراق، وفقا لاستراتيجية المراحل، وحذّرنا كل التحذير من الانزلاق الى الطائفية وما قد تثيره من حروب بشعة، لا سيما وان فلول النظام المنهار كانوا جاهزين لتوظيفها لاستعادة نفوذهم، وكذلك لأن المحتل لم يكن يملك حسّا معرفيا تأريخيا كافيا للتعامل مع البعد الطائفي في العراق. فالمحتل مشدود، بالأساس، لتحقيق مصالحه بمفاهيمه الغربية، أي لتحقيق اسرع النتائج بأقل الخسائر أو التكاليف.
وثمة من يدّعي، وهذا ادعاء يستند الى موروثات الحس الوطني العام الرافض للإستعمار أو الهيمنة الأجنبية، بأن الغزاة، بقيادة الولايات المتحدة، غير معنيين باقامة نظام ديمقراطي حقيقي في العراق، بل ان همهم quot; الأكيـــد quot; هو الهيمنة على موارد العراق، وخصوصا النفطية منها، وانهم جاءوا من أجل هذا الغرض ولا يهمهم سواه، حتى لو أدى ذلك الى اغراق البلاد بالفساد والدمار والإرهاب أو الى تقسيمها الى مناطق نفوذ طائفية وجهوية وأثنية ؛ المهم هو ضمان تلك الهيمنة والاستيلاء على الموارد والثروات. وحين ينعت هذا الكاتب هذا الرأي بالإدعاء، فذلك لا يعني أنه يرفضه، بل لمناقشته بموضوعية من خلال دراسة مقدار اتساقه مع مصالح الغزاة ذاتها، وفقا لموضوعة quot; المصالح في الصراعات الدولية quot;، واستنادا لمعايير الكلفة والعوائد في هذه الصراعات. لا يتسع المجال هنا طبعا، الى تقديم اطروحة معززة بالأسانيد حول هذه الموضوعة، ولكننا سنستند أو نشير اليها عندما نتطرّق الى مناقشة عوامل أو شروط تأسيس الديمقراطية الجديدة في العراق. والآن لنعود للإجابة على السؤال لماذا خيار الديمقراطية؟
جرّبت المجتمعات البشرية أنماطا عديدة من النظم السياسية، ولعلّ أقدمها وأكثرها رسوخا وحضورا عبر العصور هي نظم الوصاية ثم الاستبداد، بدءا بالوصاية الأبوية الى الحاكم المتأله، الى الديكتاتور المسوّر بالدوغمائيات والإدعاءات الرسالية أو الحزبية أو الأيديولوجية... الخ. ودفعت البشرية، ولا تزال تدفع أثمانا باهظة من دمها وقوتها وثرواتها للخلاص من نظم الإستبداد والطغيان هذه عبر نضالات امتدت قرونا طويلة. ولكن فكرة الديمقراطية راودت الفكر البشري منذ عصور مبكرة جدا، فلعلّ الهند، من الناحية التأريخية، قد شهدت النمط الأبكر في التأريخ للجمهوريات الديمقراطية، حيث تأسست في القرن السابع قبل الميلاد في مدن، مثل فيسهالي وبيهار، وذلك قبل ولادة بوذا، وقبل قيام ديمقراطية أثينــا في القرن الرابع قبل الميــلاد. وكانت تلك الجمهوريـات تسمى quot; ماهاجاناباداس quot;، وكانت نظمها تقوم على الديمقراطية المباشرة، أي أن يجتمع السكان في مكان واحد لانتخاب الرئيس والحكومة والموافقة على القرارات أو رفضها. ولكن كلمة الديمقراطية ذاتها كانت صناعة لغوية أغريقية، فالكلمة دموس تعني المجموعة البشرية التي تتخذ القرارات السياسية بمشاركة كاملة من أعضاء هذا الدموس والمقيمين في حيّز جغرافي معيّن. وينطوي هذا المفهوم على آليات تسمى الديمقراطية المباشرة أو الانتخاب المباشر، والتي قد تفرز حكومة وقوانين وقرارات ملزمة، حتى ولو كانت لا تلبي أو لا تتفق مع رغبات شخصية معينة، بل هي مقبولة طالما قبلها الدموس بغالبيته المطلقة.
بيد أن هذه المفاهيم المباشرة والبسيطة للممارسة الديمقراطية quot; المباشرة quot; قد تطورت بتطور المجتمعات وبتعاظم سكانها وتعدد وظائف وأهداف حكوماتها، وتنامي العلاقات والتداخلات والصراعات داخليا وخارجيا، فنشأ مفهوم الديمقراطية غير المباشرة، أي التي بموجبها ينتخب السكان ممثليهم الذين يقومون هم بدورهم باختيار الحكومة ومحاسبتها. ومع ذلك، لم يكن التطور الحاصل بهذه السهولة، حيث أن الصراع مابين ممثلي الشعب والحكام ( ملوك أو رؤوساء ) كان صراعا مريرا، وفي بعض الأحيان داميا، لإنتزاع حق الشعب في اصدار القوانين وفي فرض الضرائب ومراقبة ميزانية الحكومة وموارد البلاد، وفي محاسبة الحاكم أو تقليص صلاحياته ؛ فقد امتد هذا الصراع التطوري لقرون، كما في بريطانية ( أم الديمقراطية التطورية )، وفرنسا وأوربا. ومن ثم عبرت هذه المفاهيم المحيطات، واستوطنت بشكل أكثر تطورا في الولايات المتحدة بعد حروب الاستقلال عن بريطانية عام1776 م، فصارت فكرة الديمقراطية تعني حكومة quot; من الشعب وبواسطة الشعب ومن أجل الشعب quot;. وقد تأخذ الآليات السياسية لتحقيق هذه الفكرة أشكالامختلفة، منها الانتخاب المباشر أو غير المباشر أو الاستفتاء، أوالانتخاب العام والاستفتاء معا ؛ وهناك معايير وشروط لمن ينتخب وكيف ينتخب. والطريف أن المرأة لم تكن مؤهلة للمشاركة في الانتخاب ناهيك عن الترشيح حتى بداية القرن العشرين في دول تعتبر اليوم مرابع الديمقراطية الأصيلة، مثل بريطانية وفرنسا، ولكن نضال النسوة من أجل حقوقهن الانتخابية، ومـن أجل المشـاركة في العملية السياسية كان مجيدا ومعروفا منذ نهايات القرن التاسع عشر، وخصوصا في بريطانيا.
وللديمقراطية أبعاد كثيرة، ولكنها معروفة أكثر في بعدها السياسي، أي في كونها نظام انتخابي تعددي يسمح بتداول السلطة، وبتوسيع المشاركة في القرارات. ولكن الديمقراطية وجدت بالأساس لتأسيس وترصين وصيانة الحرية ( بمعناها العام والخاص، أي الاجتماعي والفردي ). فالحرية السياسية هي الأصل والديمقراطية هي الأداة، على أن لا يؤدي ذلك الى تعارض أو تقاطع مع حريات الآخرين ؛ والسؤال هو كيفية الموازنة ما بين الحرية العامة والحرية الخاصة والشخصية، هناك معايير وقواعد وقوانين من أجل ذلك، وكلها تنطلق من مفهوم المسؤولية الفردية والاجتماعية ؛ وهنا لابد من توفر شرط أساسي لتجذير المسؤولية في ضمائر الناس، ألا وهو الوعي والثقافة اللازمين للإلتزام بحق وبايمان بحدود هذه المسؤولية. ولعلّ فقدان أو ضعف هذا الوعي الثقافي الجوهري هو السبب في تحويل الديمقراطيات الى مهازل في كثير من دول العالم، وفي العراق أيضا، ولكن لأسباب لا تتعلّق بالشعب الذي تصرّف بمسؤولية عالية كمصدر للسلطة والقرارات ؛ بل تتعلّق بالقادة والجماعات والعصابات والجهات التي تضرّرت وستتضررمن الديمقراطية كما سنرى ؛ فالشعب العراقي أثبت علو كعبه حينما خاض، رغم مخاطر الإرهاب المحيقة به من كل جانب، انتخابات عامة واستفتاء ثلاث مرات خلال أقل من سنتين وبمسؤولية عالية، ولكن للأسف الشديد، هناك من وظّف ويوظّف خيارات الشعب هذه لإهداف سياسية طائفية وفئوية وعرقية وفردية.
فللديمقراطية، كما أشرنا، أبعاد أخرى غير سياسية لحماية وترصين الحريات الأخرى ؛ الاقتصادية والدينية والإجتماعية والفكرية والإدارية والتنظيمية ؛ وقد توصف الديمقراطية بأللبرالية حينما تطلق الحرية الكاملة في جميع هذه الابعاد، دونما ضوابط سوى موازنة الأمن العام. ولكن اللبرالية الفالتة أثبتت تأريخيا فشلها في كثير من الدول عبرمنعطفات التطورات التأريخية، كما في الدول الديمقراطية الغربية ذاتها القائمة اليوم ؛ فكان لابد من وضــع المعايير لضبط الحريــات، طالمــا ان انفلاتها لا يتيــح ولا ينتج تكافؤ الفرص (الإقتصادية والإجتماعية والإدارية... الخ ) ؛ وهذا مبدأ أساسي من مبادئ الديمقراطية، وعلى ذلك خرجت علينا مفاهيم معدّلة للديمقراطية، منها الديمقراطية الموجهّة والديمقراطية الشعبية ؛ ولكنها سرعان ما تحوّلت الى أدوات لتغويل السلطة المركزية أو لتشديد تعسفها. الا أن بعض الديمقراطيات قد يكون أقرب للتوازن، كما قد نجد ذلك في الديمقراطية الاجتماعية، وذلك حينما تنطوي على المعايير والقواعد والقوانين لترصين تكافؤ الفرص الاجتماعية والثقافية وفرص العيش (التعليم و الاستخدام والعمل والاستثمار)، وذلك لأنها تقوم أيضا على تشغيل وتفعيل منظمات المجتمع المدني، بعيدا عن سطوة الدولة. ان تحقيق الموازنات الصحيحة في نظام ديمقراطي اجتماعي بحاجة الى ديمقراطيين اجتماعيين حقيقيين. أين هم في العراق؟
في ضوء ما تقدم، نرى بأن النظام الديمقراطي هو أكثر بكثير من كونه مجرد لعبة سياسية ؛ انه يقوم على احترام الآخر ومساواته مع غيره من حيث القيمة الانسانية والحقوق والواجبات، ايما كان لونه أو جنسه أولغته أودينه أومذهبه أو عرقه ؛ فأي دين وأية ثقافة تقول أو تدعو لغير ذلك؟ وحينما ينتقي السياسيون الباطنيون الجانب السياسي فقط من هذا النظام الأشمل، فانهم يريدون توظيفه لما يستبطنون من مفاهيم أو قيم تسلب من قيم الآخرين أومن حقوقهم، عن طريق الهيمنة على القرار السياسي. وعلى ذلك، حينما يعلن القادة اللاعبون ويردد معهم الشعب بأن خيارهم هو الديمقراطية، فذلك يجب أن يعني الديمقراطية بكل أبعادها دون اجتزاء أو تدجين أو خلط بمفاهيم استبعادية أو عرقية أو فئوية أو سلفية أو تفسيرية دينية، كسلب حقوق المرأة ورفض مساواتها مع الرجل، على سبيل المثال.
ولكن التحوّل نحو النظام الديمقراطي يتطلّب بل ويوجب توفر شروط مسبقة ؛ يأتي الوعي و/ أو الثقافة في مقدمتها. ولا يمكن بناء الديمقراطية في مجتمع ينقسم بالأساس حول هويته ؛ كما لا يمكن بناء الديمقراطية عندما ينخرط بعض القادة، سواء بوعي أو بدونه، في الكيد لمصالح العراق من خلال التوظّف أو التوظيف لخدمة مصالح قوى أو دول أجنبية أو مجاورة تتصارع حول مصالحها، حسبما تتصورها، في العراق. اذ حينما يستبطن ربان السفينة ميناءا للوصول غير ميناء العراق، ستنقسم السفينة على نفسها وتغرق ! !
الديمقراطية هي خيار العراقيين لأنها توحدهم ولا تقسّمهم ؛ والديمقراطية لا تنبذ أحد، فهي للجميع، فلا منبوذين أمام تكافؤ الفرص. أما من يريد أن ينبذ نفسه، سواء كان أغلبيه عددية أو أقلية، ليفعل، ليرى كيف سيزيد ذلك من رخائه المادي والروحي ! الديمقراطية هي علاج التنوّع والتناشزات الثانوية لأنها تحتويها جميعا،فهي خيار العراقيين الأوحد.ولكنه خيار دونه quot; خرط القتادquot; ؛
وليس ذلك فقط لتواضع الوعي والنضج الثقافي، انما لأن العراق محاط بجيران من الشرق والغرب لهم أسرابهم ومأجوريهم المزودين بمعدات الموت والدمار والمال الفاسد والمفسد لتدمير هذا الخيار، لأنهم يعتقدون، كما يعتقد معهم أيتام النظام النافق والسلفيون الجزارون بأن فشل البناء الديمقراطي في العراق يعني نجاحهم أو بقاء أنظمتهم، ولا يعنيهم بكثير ان كان ذلك يعني فشل أو عدم فشل الولايات المتحدة لإعادة بناء الشرق الأوسط كمنظومة ديمقراطية أو غير ذلك! فما هي شروط البناء الديمقراطي في الحالة العراقية الراهنة؟ هذا سؤال سنحاول الاجابة عليه في الفقرات اللاحقة.
3- شروط البناء الديمقراطي في الحالة العراقية الراهنة
نقول مباشرة بأن شروط البناء الديمقراطي في الظروف الراهنة مستعصية ولكن ليست غائبة. لماذا؟ لعوامل متشابكة، وها نحن نراها تغلي كالمرجل أمامنا، كما نرى بأسى مشاهد الموت السوداء تلف أهلنا وأطفالنا ورجالنا وعلماءنا، ناهيك عن دمار مواردنا وثرواتنا، ذلك لأن الصراع لم يعد عراقيا بحتا ؛ أنه صراع متعدد الأطراف، وقوده أهلنا وأدواته مرتزقة لا يربطهم شئ بالضميرالإنساني ولا حتى بقواعد أو نواميس الحروب البشرية التي ينبغي ان يتحدد فيها الهدف أو العدو بدقة. هنا لدينا عنف يسّمونه quot; مقاومة quot;، ناموسه وفنه هي أن تقتل كل شئ يمشي على الأرض، من الطفل الصغير الى الشيخ الطاعن بالسن، وقد يصدف أن تنفجر مفخخه على طريق مرّ منه المستعمرون المحتلون، وهنا تتبجح المقاومة وتنتظر لفتة حنان من المستعمر، لعله يتنازل ليفاوضها! ولكنها من هي هذه المقاومة؟ هل هي التي تقتلنا يوميا؟ أم هي التي تسترجي أن يفاوضها المحتلون المستعمرون الإستكباريون؟؟ تلك هي المسألة في بعدها الأخلاقي المأزوم. ولتسهيل البحث، سنختار عددا محدودا جدا مما نعتبره عوامل استراتيجية يضج فيها الصراع الدامي والمعطل لبناء العراق الديمقراطي، ولكنه صراع سينجلي عن فناء المتصارعين ونهوض الفينق العراقي من تحت الرماد!!
(1 ) - ألإحتلال
سنتناول هنا الاحتلال، وسنسّميه الأمريكي، على رغم ما نعرفه عن كونه متحالف مع قوى أخرى، تحت تسمية القوة متعددة الجنسيات المحتلّة والمخوّلة، لاحقا، من قبل مجلس الأمن الدولي. سنتناول بحثه بدون الدخول بتفاصيل استراتيجيته الكبرى لإدارة صراعاته العالمية ؛ اذ لا يتسع المجال لذلك، انما ندرسه كعامل تأسيس أو تقويض لمشروع العراق الديمقراطي الموحّد.
منذ الغزو، وحتى قبله، فاض ويفيض الأدب السياسي، ومنه المكتوب برصانة ومنه الزاعق في الشارع، ومن مصادر وقوى تتراوح مابين اليمين واليسار والرسمي والشعبي والعربي والأوربي... الخ ؛ كله يفيض بما يفيد بأن هدف الإحتلال الأمريكي الحقيقي للعراق هو لنهب ثرواته وليس لبناء الديمقراطية أو لتحقيق التنمية والإعمار. ان انحيازاتنا الحسية الوطنية المباشرة تدعونا فورا لقبول هذا الخطاب، لأننا. بطبيعة الحال، نرفض احتلال وطننا لأي سبب كان ومن قبل كائن من كان. ولكن موضوعية التحليل التأريخي تمنعنا من اعطاء تظهير مجاني لهكذا خطاب.
نعم، ان للولايات المتحدة، باعتبارها تتربع اليوم قمة الهرم الرأسمالي المتطوّر، وهي القطب الأقوى والأوحد في السياسة الدولية، في هذه المرحلة من التأريخ، وصاحبة أقوى ترسانة عسكرية وتكنولوجية ؛ نعم لها مصالح لا تطال موارد هذا الكوكب الأرضي فحسب، بل قد تمتد حتى لكواكب أخرى في هذا الكون. وفي مقدمة هذه الموارد، من حيث الأهمية، تأتي موارد الطاقة النفطية. وهي تسعى، كما سعت وتسعى في التاريخ. أية دولة كبرى لها مصالح تتخطى حدودها، لمدّ نفوذها ولفرض قواعدها ومعاييرها على أنماط وتيارات التجارة الدولية وتبادل الموارد البشرية والسلعية والمالية والتقنية، وغير ذلك. وهي بالضرورة ستواجه في سعيها هذا كل المقاومات والصراعات المحتملة، أما من المنافسين لها. أو من قبل حكومات أو شعوب ترفض الخضوع، بشكل أو بآخر، لمصالحها.
ولو تأمل المرء، جليا، في تأريخ الصراعات الدولية منذ نشوء الأمم حتى يومنا هذا، لوجد ان ظاهرة الصراعات هذه لم تنقطع ولن تنقطع يوما، بل هي قد تتغيّر وقد تأخذ اشكالا مختلفة ؛ من مواجهات عسكرية أو حربية، الى صراعات دبلوماسية، الى تهديدات، الى مؤامرات، الى تخريبات داخلية، الى حصارات دولية، اقتصادية وتجارية وبحرية. الى غير ذلك مما عج ويعج به التأريخ البشري. ولكن الولايات المتجدة بعد أحداث 11/ 9 / 2001، أي بعد تدمير برجيها التجاريين بما فيهما من آلاف البشر، وهما رمزا قوتها الاقتصادية، في عقر دارها، من قبل قوى الإرهاب السلفي التكفيري بقيادة بن لادن، عدّلت استراتيجية صراعها الدولي، وذلك بتبني مبدأ محاولة ازالة أو / واضعاف الأنظمة الديكتاتورية، لاسيما منها المتحكمة بموارد الطاقة ؛ البترول على وجه الخصوص، والتي تملك الموارد المالية لتسخيرها لمحاربة نفوذها ومصالحها في العالم. وذلك فضلا عن وصولها الى قناعة بان الأنظمة الاستبدادية تقف حائلا أمام قدرتها لسبر أغوار الثقافات المعادية لما يمكن أن تسمّيه هي حضارة العقل الغربي الذي تمثله. وعلى ذلك، فهي تجد بان لها مصلحة في اقامة أنظمة ديمقراطية فعلا، فالأنظمة الديمقراطية، بسبب شفافيتها، ستكون أكثر قبولا وقدرة على اقامة حوار مع العقل الغربي التقني. ولكن، ونقول لكن، هناك حدود لهذه العقلنة الأمريكية، اذ هناك سقوف الكلفة والعوائد. فهل على أمريكا تقديم تضحيات بآلاف مؤلفة من جنودها وشبابها، وانفاق ترليونات الدولارات لاقامة ديمقراطية يتربع على عرشها حليف كأحمد الجلبي أو حتى أياد علاوي، على سبيل المثال؟ وحين يفشل الجلبي حتى في الحصول على مقعد واحد في البرلمان رغم ما أنفقته أمريكا من مليارات الدولارات وتكبدته من آلاف القتلى وعشرات الألوف من الجرحى من شبابها، بينما يفوز، بأسلوب الديمقراطية الشرعية الذي أسستها، من تعتقدهم هي رجال ايران بالسلطة وباكثرية المقاعد البرلمانية، هل عليها أن تستمر بتقديم التضحيات الباهظة بانتظار فوز ذلك الشريك الديمقراطي العراقي الذي سيساعدها على تحقيق أهدافها الاستراتيجية ؛ وفي مقدمتها تحقيق الاستقرار في تدفق البترول العراقي دعما لمصالحها الاقتصادية الكبرى، بدون ابتزاز أو توظيف أو مناكدة أو مناورة مع قوى منافسة لها؟ وحين يقول البعض بأن أمريكا تريد أن تسرق البترول العراقي، فهذا كلام مجازي وساذج وليس فعلي ؛ كيف تسرق أمريكا البترول؟ كلا هي لا تسرقه، بل تريد ارساء قواعد مستقرة لضمان استقرار تدفقه لتشتريه بالأسعار العالمية المعلنة بالأسواق التنافسية، وهذا هو أساس عمل الرأسمالية الدولية التي تتفوق فيها أمريكا وتجني منها الأرباح الهائلة ؛ فلماذا تسرق؟؟ أن سقوف الكلفة والعوائد قد، ونقول قد، تدفع أمريكا للتخلي عن التدخل العسكري المباشر، بل هي تسعى بكل قوة لسحب جنودها اليوم قبل غد. أي حينما ترتفع التكاليف عن الحدود المجدية، ستحاول أن تستبدل أدواتها لادارة الصراع لتقليل خسائرها وتكاليفها، ولكنها لا تتخلى عنه. وكل هذا يعني، ضمنا، بأنه ليس من مصلحة أمريكا اشعال حرب أهلية في العراق أوتقسيمه أو التسهيل لبعض طوائفه المذهبية والعرقية للاستئثار بكيانات جغرافية جاثمة على آبار من النفط الحيوي، فذلك سيصبح طبخة حقيقية لعدم الاستقرار وللفوضى في أخطر منطقة من مناطق الطاقة في العالم، بل وسيؤدي الى قصم ظهر سوق الطاقة العالمي، ناهيك عن تعاظم التكاليف التي سترغم أمريكا على دفعها.
لا، ليس من مصلحة الولايات المتحدة أن تدّمر العراق أو تقسّم ثرواته النفطية، ولا أن تمّكن طاغية جديد من الوثوب على عرش العراق النفطي. وحقيقة الأمر، هي أن الولايات المتحدة قد فشلت، حتى الآن، في ادارة صراعها في العراق وقد فتحت على نفسها أكثر من جبهة، ليس داخل العراق، ولكن بالأساس من خارجه ؛ من الشرق ايران ومن الغرب سورية. وسيجبرها ذلك على تكييف وسائلها، أو نقل بعض هذه الوسائل الى داخل الدولتين الجارتين من الشرق والغرب. ولا يزال هذا الصراع في بدايته، فهناك مراحل قادمة. وسيأخذ أشكالا وأنماطا متغيرة وقد يستغرق زمنا أطول. وهذا الصراع لا يرتبط بادارة الرئيس بوش نفسه، بل هو يتعلّق بمصالح استراتيجية تتمسك بها أية ادارة منتخبة في أمريكا.
مع كل ما تقدم، فان الاحتلال الأمريكي، بمنظورنا، يشكّل حاليا عائقا كبيرا أمام تشكيل العراق الديمقراطي الموحّد، لأنه يخوض معاركه مع أعدائه على أرضنا وعلى حسابنا وبدماء أهلنا وشبابنا وأطفالنا، فيعطلنا عن بناء وطننا وعن تأسيس ديمقراطيتنا الوطنية الموحّدة، ويشيع البؤس والموت والكراهية بين ظهرانينا و ونحن نطالبه بالرحيل عن أرضنا. ولكن ثمة سؤال مهم، هل نملك استراتيجية وطنية موحدة للتحرير واعادة البناء؟ هل اذا ما أنسحبت القوات المحتلة نملك ما يمنع قوى الظلام والارهاب وفلول الديكتاتورية، من أصحاب المفخخات والسكاكين والذبح اليومي من العودة السوداء الى السلطة؟؟ أم نحن سادرون في تقاسم مغانم السلطة؟؟
(2 ) - تدّخلات بعض دول الجوار وقوى المقاومة الرديفة في الداخل
كتبنا أكثر من مقال حاولنا فيه أن نتلمّس الدوافع العقلانية، ناهيك عن الوطنية.( فهذه مبذولة بسخاء للمزايدات)، لما يسمى بالمقاومة ؛ وحتى هذه أصبح هناك من يصنفها مابينquot; شريفة وغير شريفة quot;. بل أن التصنيفات، في ضوء أحداث القتل والتدمير المريعة وتعدد quot; فنونها quot; وأهدافها وهويات أو انتماءات القائمين بها من انتحاريين وارهابيين و مسّلحين... الخ، كلها أشارت وبصورة تزداد وضوحا، بأن المقصود بالمقاومة غير الشريفة هي التي تقوم بعمليات الذبح والتفخيخ، أما الشريفة فهي التي لا تذبح ولا تفخخ، بل تقتل الناس بالرصاص وتدمّر موارد العراق النفطية والخدمات الأساسية كالكهرباء والغاز وغير ذلك. اذن، يرتبط معيار الشرف باسلوب القتل والتدمير وليس بحصيلته. هذا من جهة، ومن جهة أخرى ؛ تقول المقاومة quot;الشريفةquot; انها تستهدف الأمريكان وعملائهم ؛ والسؤال هو من هم العملاء؟ هل هو الخباز الفقير أم عامل البناء أم السائق. أم الأم التي ترافق أطفالها الى المدرسة ؛ أم العالم والأستاذ؟؟ واذا كان الأمريكان هم هدف المقاومة الشريفة، فان معدل عدد من يسقط منهم لا يتجاوز ( 2 - 3 ) أشخاص باليوم من مجموع ( 150 ) ألف جندي، وهذا معدل يساوي نسبة من يموتون في حوادث سير في الولايات المتحدة. أما من يسقطون من الشهداء والأبرياء من النساء والأطفال والرجال والشيوخ من أهلنا فأن معدّلهم يقرب من ألف شخص شهريا، أي مقابل كل جندي أمريكي يقتل، تقتل المقاومة quot; الشريفة quot; ما يزيد على (300 ) مواطن عراقي. ولو سبرنا غور هذه المقاومة لوجدنا بأن لها ارتباطات واضحة بأربع جهات أساسية ؛ هي أولا ؛ التنظيمات السرية للنظام البائد وهي تملك ملايين الأطنان من السلاح المخبأ ومليارات الدولارات، وثانيا ؛ تنظيمات الارهاب السلفي من أتباع القاعدة والزرقاوي، وثالثا ؛ تنظيمات ترتبط بحزب البعث البائد بتنسيق مع المخابرات السورية. وهناك رابعا تنظيمات سرية و مليشيات تموّلها ايران، وقسم منها علني ومعروف.
ويمكن القول بأن quot; لكل في قلبه غرزة quot; أو هدف خاص به. ولو حاولنا تحليل هذه الأهداف المستبطنة لوجدنا انها تحمل للعراق ثلاث خيارات مستقبلية ؛ ( أ ) اعادة النظام الديكتاتوري المقبور الى السلطة، ويا حبذا أن يكون بقيادة القائد الفذ العظيم بطل الصمود بالحفرة. ( ب ) اقامة جمهورية الله الطالبانية التي أثبتت في أفغانستان انها جنة الله وعدله في أرضه !! و( ج ) نظام لعراق مقتسّم وطائفي، قد تتقاسمه ايران مع سورية. ولتستكمل سعادة الشعب العراقي فان المجاهدين يعتزمون ابادة جميع عملاء أمريكا وسيواصلون النضال لتركيعها تماما ! !
ومن دون استطراد، يبدو أن حقيقة الأمر هي أن الجارتين، ايران وسوريا تلعبان لعبة التوظيف والتدخّل والتسهيل لهذا quot; اللملوم quot; الغريب من المجاهدين quot; والمقاومين والذي نسميه بالقوى الرديفة، والدفع لهم بسخاء، بأموال مسروقة من قوت الشعب وغير مسروقة، بهدف منع أو اشغال الولايات المتحدة عن تغيير نظاميهما، أو لكسر الطوق العسكري الأمريكي حول حدودهما الغربية والشرقية ! ! وآية كل ذلك أن تتعطل وتتخرّب، ليس فقط الحياة السياسية أو العملية السياسية في العراق بل أن يتخرّب ويتدمر الاقتصاد والمجتمع العراقيين أو ما يتبقى منهما، لا سمح الله. وطالما نحن لا نملك استراتيجية وطنية موحدة، وطالما تتوظّف المقاومة و / أو المليشيات لخدمة مصالح أجنبية أو مصالح الدولتين الجارتين في الشرق والغرب على وجه التحديد، فان الموت سيستمر ومشروع بناء العراق الديمقراطي الموّحد سيبقى في مهب الرياح المسمومة.
(3)- القوى السياسية الفاعلة الآن في الساحة العراقية وقادتها
يفترض البناء الديمقراطي السليم وجود ديمقراطيين حقيقيين، كما يستلزم وجود أحزاب ديمقراطية تسعى للتنافس السياسي على أساس برامج انمائية وثقافية محددة وواضحة. كما يفترض أن هذه الأحزاب تعمل الى جانب منظومة من هيئات المجتمع المدني وتتكامل معها. ويفترض الفكر الديمقراطي أو فلسفته ايمانا حقيقيا بتساوي القيم الانسانية، اذ لا مجال البتة لتصنيف الناس أو الأعضاء أو القادة أو الأحزاب على أساس الانتماءات الطائفية أو العرقية، بل أن الانتماء الأوحد المسموح به في الفكر والممارسة الديمقراطيين هو للعراق دونما غيره. فالصفة quot; عراقي quot; هي صفة الانتماء والمواطنة والحقوق والواجبات ؛ ولا يجوز غيرها أبدا. والمجال لا يسمح هنا بالدخول في تحليل وتفصيل طبيعة وتركيبات وممارسات القوى السياسية وقادتها من الذين برزوا وتناسخوا وما ترسب منهم في النتيجة في الساحة العراقية بعد الغزو الأجنبي. والصورة الماثلة اليوم هي لتركيبات حزبية طائفية وعرقية، لقد اندثرت أو انشلّت القوى السياسية الديمقراطية والوطنية الصغيرة لسببين ؛ الارهاب quot; التحريري quot; والتمويل ؛ فالقوى الطائفية والأثنية لها من يموّلها ويحميها، أما القوى الصغيرة فلا تملك quot; شروي نقير quot; !
وعلى ذلك لا نرى في ضوء ما يفرزه المشهد السياسي العراقي اليوم، مع الاقرار باستثنائية الظروف، أية ملامح لنشوء نظام سياسي حزبي ديمقراطي حقيقي ؛ لأن الناس تصوّت اليوم للمذهب وليس للبرنامج والقدرة الحقيقية على تنفيذه. أما لماذا تصوّت الناس للمذهب؟ فذلك لأن الارهاب والقوى المرتبطة بدول الجوار تموّل الصراع المذهبي وتخيف كل من يختار العراق دون غيره، فضلا عن فجوة الجهل العظمى ما بين الناس والقادة الذي يفرضون أنفسهم بقوائم ائتلافية ؛ فمن هم؟ المنتخب لا يعرف أي واحد منهم بحق، وربما لم يسمع به أبدا. وهو لا يصوّت له، بل لمذهبه مشمولا مع رهطه، وليس من حق القادة المنتخبين اليوم التبجح بأن الشعب قد انتخبهم شخصيا، كلا، أنه انتخب مذهبه ؛ وربما باستثناء القائمة العراقية، بقيادة علاوي ؛ فقد انتخبها كل من أراد الانتساب للعراق وليس لمذهبه، ولكنها لتدني الوعي ولتواضع الأداء والطرح لم تحصل الا على مرتبة صغيرة في البرلمان.
4- الآفاق المشرعة
تفرز المشاهد السياسية والاجتماعية المتواترة من العراق بخطوط بيانية يصعب، أحيانا، تفسيرها، عددا كبيرا من الاحتمالات بالنسبة لمستقبل العراق الديمقراطي، ( أي مستقبل الديمقراطية والعراق، كلاهما معا )، لكن، كما نرى، ليس بينها احتمال موت العراق الديمقراطي ؛ وهذا ليس لأن انحيازنا يريد ذلك، أو لأن الشعب العراقي يستحق ذلك، بل لأن الشروط الموضوعية لتدمير العراق ولإنتصار قوى الظلام السلفية أو / و لعودة قوة الاستبداد والفساد سوف لن تتكامل أو لن تتحقق أبدا.
صحيح أن الشروط المسبقة، من وعي وثقافة وأحزاب وقادة ديمقراطيين لم تتوفر بعد لبناء ديمقراطية حقيقية في العراق ؛ ولكن الصدمات الجارية ستخلق ليس فقط وعيا عاما، انما أيضا طبقة جديدة من المثقفين من الطبقة الوسطى، مما سيؤدي الى قيام أحزاب ديمقراطية عراقية، لا تعرف الا بهويتها العراقية الديمقراطية. وستتلاشى رويدا الأحزاب الطائفية والمتسربلة برداء الدين والمعتمرة للعمائم السوداء والبيضاء. كما ستزول النزعة العرقية ؛ بل ان مسألة التناقض الاثني هي تلك التي تتعلق بالكرد ؛ ولعلّ انفصالهم في نهاية المطاف ربما سيكون الحل لقيام عراق ديمقراطي أكثر تجانسا وتكاملا. أما القوى المسماة بالمقاومة، سواء كانت شريفة أو غير شريفة، فسيرتبط وجودها بمصير دول الجوار الممولة والحاضنة لها. ولكن العزلة الدولية ستطبق على مثل هذه الدول. ومن يدعي الانتساب للمقاومة الشريفة لديه فرصة للارتقاء لهذا المسمى، وذلك بأن ينفض يده من حلم عودة الديكتاتورية من جهة، ويفك تحالفه مع أصحاب الكهوف المظلمة من القتلة الزرقاويين وغيرهم، وينهي رهانه على أي من دول الجوارالتي تحتضنه، من جهة أخرى، وليدخل العملية السياسية على أساس المساهمة في بناء العراق الديمقراطي الواحد. وليس هناك، كما نرى، سبيل آخر.
د. كامـــــل العضـــاض
التعليقات