لا شك في فرحة القسم الاعظم من سكان العراق في تدحرج رأس صدام حسين الى مزبلة التاريخ. تجلت هذه الفرحة، مثلا، في العديد من الاستطلاعات المتكررة التي اجريت منذ سقوط نظام الشمولية الطائفية. فقدعبّر اكثر الناس عن شكرهم الصادق للقوات المتعددة الجنسيات التي اسقطت الصنم ونظامه الدموي. ووجه عدد كبير من العراقيين تحية خاصة للولايات المتحدة على هذا الانجاز. وانفتحت امام البلاد اخيرا فرصة اقامة دولة قانون عادلة تحترم حقوق الانسان.
ولكن، فيما عدا امثلة ايجابية صغيرة متناثرة فليس ثمة الكثير مما يمكن للامريكيين الاعتداد به. على العكس تماما، يزداد اكثر فاكثر حنق الناس على تخبطات السياسات الامريكية. وتتسع حدود الاستياء باستمرار. بدءا من طريقة وتوقيت حل الجيش العراقي وشرطة الحدود. مرورا بكيفية اقامة مجلس الحكم ومحدوديته. وانعدام السعي الجاد بل رفض اشراك الامم المتحدة والاتحاد الاوروبي في انجاح العملية السياسية لعصر ما بعد صدام حسين. والشلل في ترتيب امن البيت العراقي. والاخفاق في اعادة الخدمات الاساسية بصورة كاملة. وعدم تحقيق تنمية قوية في المناطق الآمنة. وانتهاء بالدمار البشري والمادي الناتج عن الحرب واستمرارها.
هناك ما يدعو للقول ان سياسات البيت البيض بادارة بوش قد انهت بنجاح مهمة اسقاط حكم الاستبداد الطائفي في العراق. لكنها لم تستطع لا هي ولا القوى العراقية صاحبة المصلحة في التغيير في انهاء النظام واجهزته انهاءً كليا. وان النظام السابق لم يمت بعد. بل ان اجهزته التي لم تتضرر كثيرا بفعل الاسقاط اخذت تتسقوى بشبكات الارهاب الاسلامية المدعومة معنويا او ماديا من بعض الدول المجاورة للعراق. باختصار، ان هناك ما يدعو، ايضا، للقول ان استمرار نفس السياسات الامريكية وذات الطاقم سيلقي مزيدا من السلبيات على امكانيات الاستقرار السياسي وبناء الديمقراطية في العراق اكثر مما سيقتح امامهما فرصا ايجابية.

هناك بعدان اساسيان في التعامل مع سياسات الادارة الامريكية في العراق.
البعد الاول شعبي حيث يقف جل العراقيين على اعتاب مرحلة جديدة من الحنق. فهم يقارنون ما بين ايجابية اسقاط نظام الطغيان، من جهة، وتكاليفه المتزايدة، بشريا وماديا، وكذلك آفاقه الفعلية، من جهة اخرى. اقول ان اغلبية الناس يقفون علىاعتاب الحنق الشامل ولم يصلوا بعد (والحمد لله) الى هذه المرحلة. اذ لا يزال جل العراقيين كرماء في شكرهم لانجاز الاسقاط. صبورون على انعدام الامن والاستقرار. متفهمون (ولكن بيقظة وأمل) لغياب دولة القانون التي لا محالة من ان تقوم بسرعة لتواجه بحزم كما فادحا من المظالم الواسعة والفساد المستشري. مثلٌ العراقيين كمثل سكان زقاق في مدينة الثورة يصبرون على خراب الدار وعلى ركام الطابوق والاوحال وعنجهيات عصابات قادمة من اماكن أخرى لانهم يرون ولو بضبابية شديدة بعض ملامح المحلة الجديدة التي ستأويهم.
البعد الثاني بعد سياسي استراتيجي. فالادارة الامريكية الحالية تخطط، كما تدعي، لبناء الديمقراطية وتغيير وجه المنطقة كليا لصالح حكم القانون والتعددية وحقوق الانسان. وهي مخططات جذرية يقابلها احلام كبرى لقوى سياسية واجتماعية في العراق، احلام عريضة او اقعية الى هذا القدر او ذاك.
ولكن الادارة الامريكية كأنها تسير عمليا في مخططها هذا عبر نظرية هجومية واسعة النطاق. كأنها نظرية تفجير متعدد الابعاد في مختلف المناطق. حرب في افغانستان. واخرى في العراق. وحروب يجري الحديث عنها في سوريا وايران فضلا على كوريا الشمالية. دولة بعد دولة او سوية في آن واحد. هناك، اذن، تغيير درامتيكي من سياسة التأثير المتدرج الى سياسة التثوير الحربي.
هل يمكن ان ينجح تنفيذ الحلم الامريكي في اقامة انظمة ديمقراطية بهذه الطريقة الحربية؟ لنكن ايجابيين (او بلهاء، ماشئت) ونقترض وجود هذه الامكانية. هذا يعني ان على الامريكان الاستعداد لمجابهة مقاومات داخلية وحروب جانبية وحملات ارهابية متنوعة على جبهات كثيرة. في الشرق والغرب. سوف تفضي هذا الفوضى الاقليمية الناشئة على خلق توترات دولية واسعة. وسوف تؤثر حالة اللأامن العالمي الناشىء على مواقف كل الدول الكبرى التي لها- مثل الولايات المتحدة بالضبط- مصالحها الخاصة. منها دول لها شعوبها التي تحاسبها على ما ينشأ من انعدام في الامن او تدهور سريع في الحياة الاقتصادية. وستعمل دول مثل فرسنا وروسيا والمانيا على عمل كل شىء لعرقلة خطط الامريكان وانفرادهم في السياسات الدولية. وستصيب الجميع فوضى هائلة لا يعرف احد حدودها وبلواها. ليس هناك أي ضمانة ابدا ان ينتفي استخدام اسلحة ذرية او نووية او بيولوجية او جرثومية. وعلى الامريكان توقع معارك عسكرية وعنف واسع النطاق خصوصا في مناطق منابع النفط واحتياطاته الاستراتيجية الكبرى. في السعودية وبلاد الخليج الاخرى وفي عبادان وغيرها من المناطق الايرانية وفي بلدان اسيوية مختلفة. ويجب توقع ازدياد اسعار النفط ليس فقط الى 60 دولارا للبرميل الواحد بل اكثر من 100 دولار. وفي هذا تهديد قاتل لاوضاع الطاقة عالميا. تهديد لا يمكن ان تحتمل عواقبه كل الدول الكبيرة مثل الصين واليابان ودول اوربا وامريكا اللاتينية. وستترنح بسببه كل الدول الصغيرة. باختصار ان الآثار المدمرة لسيناريو التفجير الديمقراطي اكبر من ان ندرك نتائجها هكذا بغمضة عين. ان هذا السيناريو هو في الحقيقة ليس سيناريو حرب عالمية ثالثة فحسب بل ربما حلم نهاية العالم. من الشرق الاوسط بدأت الحكاية واليه تنتهي.
اذا كان هذا المخطط فاشلا اصلا فلعلنا نقول ان الولايات المتحدة تطلق العنان لتسريب اخبار التهديد والحرب لمجرد ألتخويف وكسب الوقت لترتيب الاوضاع في العراق وافغانستان. وان الادراة الامريكية ستركز حصرا على العراق وافغانستان. فهل يمكن، حقا، تحويل المنطقة ديمقراطيا بطريقة حربية جذرية، كما تفعل ادارة بوش الان انطلاقا من هذين البلدين؟ وربما بمساعدة اسرائيل على اساس انها "دولة الديمقراطية" تريد الخير للاخرين؟
لنكن متفائلين، مرة اخرى، ونبصم بالعشرة على ذلك. ولكن هذا التفاؤل، اذا كان واقعيا وليس فلما خياليا يجب ان يتمتع ببعض المنطلقات الواقعية. يجب توقع تقبل القسم الاعظم من سكان المنطقة للاحتلال الامريكي، او على الاقل اكتفاءهم بعدم مجابهته بعنف. يجب ان نفترض ان القوى السعودية السلفية ستتخذ موقف المتفرج، مثلا. ونفترض ان الايرانيين المهددين بمصالحهم سيمتنعون عن التدخل. وان السوريين المحاصرين سيعملون بفاعلية على منع التسلل وصد قوى الثورة المضادة المنطلقة من حدودها. وان القوى الاسلامية الاصولية في البلدان العربية، في الاردن ولبنان ومصر والمغرب وباقي الدول الاسلامية ستتوقف عن الارهاب والعنف.
ولكن أليس هذا ما بالضبط ما ينفيه الواقع في كل يوم وساعة؟ أليس حق الشعوب في تقرير مصائرها بنفسها هو ما تنادي به القوى المعارضة؟ أليس حق المسلمين في صد المعتدين هو ما تتبجح به القوى السلفية والارهابية؟ ألا تتطابق هذه الحجج بطريقة او باخرى مع مبادىء الامم المتحدة؟ ألا تتواءم هذه الطروحات مع المبدأ اللبرالي الاول القائل بعدم امكانية نمو الديمقراطية في ظل عدم استقلالية الانسان والمجموعات البشرية؟
ان القوى المضادة للتحويل الديمقراطي في المنطقة اكثر شعبية واتساعا مما يريد المتفائلون تصوره. تتكالب كل هذه القوى يوميا ضد عملية التحويل الديمقراطي. كما ستنشأ ايضا قوى اخرى غيرها لتستخدم كل ما بترسانتها من اسلحة العنف الاعمى والارهاب المتنوع للوقوف ضدها.
هناك اربعة اسباب اساسية، على الاقل، لعدم نجاح نظرية تحويل المنطقة ديمقراطيا بالحرب المستمرة او بالتزامن المتلازم. هذه النظرية التي ربما تذّكر بنظرية تروتسكي في الثورة الدائمة الموجهّة (وهنا سخرية جميلة) ضد الراسمالية وانظمتها السياسية.
السبب الاول ان النجاح مستحيل في كل المنطقة بوقت واحد. هناك اعداء ومواجهات وعراقيل اكثر مما تستطيع تحملها الولايات المتحدة وبريطانيا. هذا اذا سمح االشعب الامريكي واحتمل حربا اخرى. واذا سمح الشعب البريطاني بمشاركة البلاد مرة ثانية في حرب اخرى بالتحالف مع الولايات المتحدة.
السببب الثاني ان نجاح البناء الديمقراطي مستحيل في العراق بدون ضمان حسن سلوك وصدق نية ايران وسوريا والسعودية. وطالما بقيت هذه الانظمة مهددة في صميمها بالسقوط فانها لن تألوا جهدا في قلب الطاولة على العراقيين والامريكان. ولكنها ستحترم مبدأ عدم التدخل لو تُركت وشأنها واعطيت لشعوبها حق تنضيج التحويل الديمقراطي داخليا.
السببب الثالث ان الادارة الامريكية تتصرف في مخططاتها للتحويل الديمقراطي وكأنها هي صاحبة التغيير وليس شعوب المنطقة واولهم الشعب العراقي. من المستبعد على العراقيين او أي شعب آخر ان يعمل بصدق واخلاص لبناء بلادهم اذا ما رأوا ان جدول اعمال البناء تحدده قوى خارجة عنهم وليس ممثليهم السياسيين.
السبب الرابع ان عملية التحويل الديمقراطي هي عملية مركبة وطويلة الامد. عملية تتعدى مجرد اجراء الانتخابات واقامة نظام برلماني (على تعقيد هذه المهام). وتحتاد هذه العملية الى وقت طويل لانتشارها افقيا وتعمقها عاموديا.

ما البديل، اذن؟
لا محيد على الامريكان ابدا من تغيير كل وجهة سياساتهم وطبيعتها قلبا وقالبا. على الادارة الامريكية اولا وقبل كل شىء التخلي الكامل عن الادعاء بملكية عملية التغيير السياسي في العراق والمنطقة لصالح شعوبها وقواها الحية. اذا تمادت الادارة الامريكية بالذهاب ابعد من العراق وافغانستان فانها ستكتب على الديمقراطية السلام في كل المنطقة. على الامريكان، بدلا عن ذلك، التهيأ لمغادرة العراق بالتراضي مع الحكومة العراقية وقوى البلاد الحية. فهذه القوى قد اختارت بصواب وبروح حضارية عالية الطريق السلمي اسلوبا لانهاء الاحتلال كليا.
وعلى الامريكان ان يكفوا عن اتخاذ موقف متحيز على طول الخط لصالح اسرائيل. عليهم ان يعدلوا في مواقفهم وينطلقوا بصدق بالتعاون مع الاتحاد الاوروبي، مثلا، في تحقيق حل عادل للقضية الفلسطينية يضمن قيام دولة مستقلة هناك. لن تكون اسرائيل مقبولة في يوم من الايام ما لم تتخلى عن سياساتها العنصرية التي تشبه من كثير سياسات نظام التمييز العنصري في جنوب افريقيا سابقا. لابد لا سرائيل ان تسمح للفلسطينيين بان يعيشوا كبشر ويوسسوا دولتهم المستقلة قبل ان تنطلق للتعايش مع الدول الاخرى. والكثير من الناس يقبل بها على الرحب والسعة اذا ما فعلت ذلك
وعلى الادارة الامريكية ان تكف تماما عن التدخل السافر في اوضاع بلدان المنطقة والاعلان بصراحة عن انتفاء النية في شن الحروب ضدها. يمكن للامريكان الاكتفاء بتقديم المساعدة للقوى المناصرة للسلم والديمقراطية عن طريق مختلف منظمات المجتمع المدني الامريكية والاوربية واجهزة الامم المتحدة. ويمكن للادراة الامريكية ممارسة الضغط الدبلوماسي على حكومات المنطقة لجعلها تحترم شعوبها وتقيم دول قانون ضمن حدودها.
وعلى الادارة الامريكية، ايضا، العمل ضمن سياقات الامم المتحدة لتفعيل دورها ومؤسساتها لتلعب دورا تحويليا ينطلق من الاعلان العالمي لحقوق الانسان ويلزم كل الدول لاحترامه.
تلك هي بعض ثوابت التحويل الديمقراطي للعراق والمنطقة. ان طريقة الامريكان في بناء الديمقراطية لحد الان فوقية بحتة. هو تفجير من فوق، بالقنابل والطائرات اكثر مما هو تفجير من تحت، بالمساعدة على التنضيج السياسي والاجتماعي.
يجب على القوى الحية في العراق مقابل ذلك ان توحد عناصر سياساتها الرئيسية للتغيير السياسي وان تسعى اولا وقبل كل شىء لاقامة دولة القانون. ولابد لدولة القانون ان تكبح الارهاب والعنف بالشدة المطلوبة. ولكن هذه الشدة نفسها يجب ان تعلن عن حدودها وقواعد استخدامها. فلا يمكن للارهاب ان يواجه بارهاب آخر بل بقوة تستند على الحق والقانون الشرعي. وان القضاء على الارهاب المجرم في الفلوجة والرمادي وسامراء أو في أي مكان آخر في العراق يجب ان ينطلق من ان اهالي الفلوجة والرمادي وسامراء سيبقون جزءا لا يتجزأ من سكان العراق. ان من يريد ان يحرق منطقة في العراق على اهلها هو ابن شرعي لصدام حسين ليس إلا.
على الحكومة العراقية والقوى السياسية الملتفة حولها ان تمسك بثبات بخطوط عملية التغيير السياسي في العراق حتى وان بدا ان طريق القوة هو المطلوب. فان قدرة العراقيين على قيادة بلدهم بانفسهم باتت وشيكة بلا شك. فعلى العراقيين ان يمتلكوا عملية خلق اسس مجتمع ما بعد الشمولية الطائفية ويطووا صفحة الاحتلال والارهاب معا.
ولكن حتى تكتمل فرحة العراقيين او تستعاد، اصلا، وحتى تصل البلاد الى ساحل الاستقرار سياسي لابد ان تنخرط كل مكونات البلاد الاجتماعية وفعالياته السياسية في عملية خلق دولة قانون تفرض احترامها على الجميع.
دولة قانون هي الخطوة الحتمية في الطريق نحو الديمقراطية.