قضايا التحرش الجنسي في العالم العربي من القضايا المثيرة للإهتمام ولكن لم تأخذ حظها من التغطية الإعلامية أو أبحاث الدارسين وكذلك لم تجد لها صدى عند بعض أطباء الصحة النفسية وغيرهم من الجهات ذات العلاقة للتعرف على أسبابها وإقتراح العلاج المناسب لها، هذه كانت مقدمة مقال بعنوان التحرش الجنسي في عالمنا العربي المعاصر وبعد نشر ذلك المقال وردت الكثير من ردود الأفعال وكنا قد ركزنا فيه على فئة الشباب وتعرضنا لسؤال هام هو : هل نحن أمام غدٍ مشرق أم أمام تفسخ إجتماعي رهيب؟.

وبعد دراسة ردود القراء والتعليقات والتعمق في الموضوع وجدت أننا في وضع مأساوي أكبر من ذي قبل لأننا سنتناول اليوم شريحة هامة من المجتمع وهي التي تسمى النخبة وأقصد بذلك هيئة التدريس في الجامعات التي تتم فيها الدراسة المختلطة بنين وبنات ففي تقرير للمركز العربي للمصادر والمعلومات حول العنف ضد المرأة (أمان) في الأردن أشار الى أن 57% من الطالبات الجامعيات في الأردن يتعرضن للمضايقات والتحرشات الجنسية المستمرة من قبل أساتذتهن، وإستند التقرير الى إستطلاع أجرته صحيفة quot;الغدquot; الأردنية شمل 100 من الطالبات تم إختيارهن بشكل عشوائي، في ثلاث جامعات خاصة وحكومية.

وأفاد التقرير أيضاً الى أن 20% من هذه الحالات كانت مصاحبة للتهديد إما بالرسوب أو بالدرجات المنخفضة، كما أظهر التقرير أن 33% كان تحرشا لفظيا، بينما تعرض 24%من الفتيات لتحرش جسدي و8% لتحرش جسدي مباشر، وفكرت 18% من هؤلاء الطالبات برفع شكوى، بينما قامت 2% فقط منهن برفع الشكوى.
وبعد الإطلاع على نتائج الإستطلاع نجد أن هناك ظاهرة خطيرة تستحق الوقوف عندها كثيراً والتأمل في حجم المأساة التي تتعرض لها النساء في عالمنا العربي على إعتبار أن الإستطلاع المذكور يمثل عينة لما هو حاصل في معظم الدول العربية التي تتشابه ظروفها مع الأردن والغريب في الأمر أن مؤسسات المجتمع المدني وحقوق المرأة التي تهتم بمثل تلك القضايا لا تدرج نسبا أو أرقاما حول ظاهرة تحرش الأساتذة بالطالبات، ومن البديهي أن لاتهتم الجامعات بالدراسات التي تكشف عن فضائح هيئة التدريس لأنهم هم من المفترض أن يقوموا بتلك الدراسات التي ترفع نتائجها الى المسؤولين والمهتمين بمثل تلك القضايا وبالتالي لن يكون القيام بهذا العمل نزيهاً بل قد تكون النتائج مضللة.

وإذا كان لابد من عمل دراسات بهذا الشأن فمن هو المؤتمن على القيام بمثل تلك الدراسات والأبحاث؟ ويبرز أمامنا السؤال التالي : هل توجد قوانين صريحة في الدول العربية تجرم التحرش الجنسي بالنساء؟ وكما هو معروف في المجتمعات العربية تحجم العديد من النساء والفتيات عن تقديم شكوى في المراكز الأمنية ضد المتحرشين بهن بسبب عقبات إجتماعية وعائلية، والسؤال الآخر هو : كم عدد قضايا التحرش الجنسي المسجلة في المحاكم أو مراكز الشرطة في الدول العربية؟ وهل أتخذت إجراءات كفيلة بردع الفاعلين؟.

الغريب في الأمر أن مثل تلك القضايا الإجتماعية الحساسة لايتم نقاشها كظواهر سلبية في المجتمع من خلال برامج تلفزيونية للتوعية وإتخاذ الاجراءات الكفيلة بردع المجرمين بل أن الأمر أكبر من ذلك فولاة الأمر تأتيهم تقارير مضلله عن مثل تلك الجرائم كالقول بأنه لم تسجل حالات كهذه في ملفات المحاكم أو مراكز الشرطة وكأن الأمر مجرد فكرة داعبت خيال كاتب.

وللرد على ذلك يمكننا القول أن المحاكم ومراكز الشرطة تسجل يومياً العديد من قضايا هتك العرض أو محاولات الإغتصاب فما بالك بالتحرش الجنسي وهو ما أكدناه في مقال لنا سابق كما أن الصحف تعج بحالات القتل التي تتعرض لها بعض النساء من قبل ذويهن والتي تسمى قضايا الشرف والمنتشرة في أكثر من بلد عربي فمن يريد غسل شرف الأسرة فما عليه إلا أن يقتل من يشك بهن في أسرته.

وإذا كان التقرير السابق أشار الى الطالبات في الجامعات فهناك دراسة لوزارة العمل الأردنية أجريت عام 2001م، تشير الى أن العديد من الموظفات النساء سواء في القطاع الحكومي أو في القطاع الخاص يتعرضن لمضايقات وتحرشات جنسية في محيط العمل من قبل زملائهم ومرؤوسيهن بسبب الضعف الذي توجد عليه الفتاة أو المرأة العاملة أو الموظفة في علاقتها بالمسؤول أو الرئيس، وفي علاقتها بالرجال عامة في الشارع، من أجل ابتزازها جنسيا والاعتداء عليها لفظيا أو جسديا.

وقدرت الدراسة نسبة الموظفات اللاتي يتعرضن للتحرش في محيط العمل بنحو 30%. ويعلق أحد المحامين أنه رغم وجود قوانين تعاقب على التحرش الجنسي، فإن المتحرش بهن يصدمن بعقوبات كبيرة، من بينها وسائل الإثبات مثل الشهود، التي لا يمكن الاعتماد عليها في هذا المجال، لأن التحرش الجنسي غالبا ما يتم في فضاءات مغلقة، ويضيف أن ما يزيد من صعوبة الموضوع كون المقدمين على التحرش الجنسي غالبا ما يعمدون إلى اتخاذ الاحتياطات اللازمة من أجل محو أي آثار للجرم المقبلين على ارتكابه.

فهل تقوم المؤسسات المعنية بمحاربة التحرش الجنسي مثل مؤسسة حماية الأسرة أو الأمن العام أو حتى منظمات الدفاع عن المرأة أو هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو بوليس الآداب، بدورها كما ينبغي أن يكون؟. أم أن هناك قصور واضح؟ وهل يجوز لنا أن ندعي بأننا مجتمعات محافظة في الوقت الذي نرى مثل تلك التقارير التي تفضح الشريحة المؤتمنة على تدريس أبناءنا وبناتنا؟ وماهو الدور الذي ينبغي أن تقوم به السلطات لمنع تلك الجرائم؟ وماهي العقوبات الرادعة التي ينبغي أن تعتمدها السلطات الأمنية؟ ومن يتحمل المسؤولية عن تلك الجرائم؟.

ذكرنا في مقدمة المقال عدم إهتمام الأطباء النفسيين بمثل تلك الحلات على الرغم أنها تسبب آثاراً نفسية سلبية على صحة المتحرش بهن جنسياً ولها تأثير سلبي على حياتهن العاطفية والاجتماعية والعائلية والجسمية، وأنهن يعانين من صعوبات في النوم أو التركيز مما يكسبهن شعورا بخيبة الأمل تجاه تجربتهن الجامعية بعد تعرضهن للتحرش الجنسي، وتقول الطالبات إنهن يتفادين المتحرش بهن أو أماكن معينة في الحرم الجامعي وأنهن منزعجات من التحرش الجنسي وغاضبات ومحرجات ويشعرن بالخوف جراء هذه التجارب وما زال التحرش الجنسي ينتشر في الجامعات مترافقا مع النكات والتعليقات بوصفها جزءً من الحياة اليومية وجزءً من التحرش الجسدي كالتلّمس والمراقبة والتعقب أو النشاط الجنسي القسري.

وفي نهاية مقالنا نود أن نوضح أن مثل تلك القضايا لاينبغي أن يسكت عنها في ثقافتنا الشعبية العربية لأنها تمس المجتمع بشكل مباشر وخصوصاً العنصر النسائي من هذا المجتمع، وينبغي أن نعترف بأن هناك نساء في عالمنا العربي يتعرضن لتحرش جنسي في المدن والقرى، وأن معظمهن آثرن السكوت لأسباب مجتمعية يجب أن ننفض الغبار عنها حتى لايكون السكوت عنها علامة من علامات الرضا الأمر الذي يزيد من حجم المشكلة، وأصبح الكثير من النساء يحجمن عن أداء الكثير من الأعمال والخدمات تلقائياً، بسبب ما يتعرضن له من تحرش ومعاكسات ومضايقات.

لماذا لاتقوم المؤسسات والهيئات التي تعني بهذا الأمر بإطلاق حملات للحد من التحرش الجنسي في المدارس والجامعات وأن تعمل على تشجيع الحوار حول الموضوع لزيادة الوعي من خلال هذه الحملات الإعلامية والدعائية، ودراسة تجارب الطلاّب والطالبات في هذا الصدد وتجريب وسائل إلكترونية في كشف حالات التحرش الجنسي والإبلاغ عنها.

فهل هذا دليل على أزمة أخلاق تعيشها الجامعات في عالمنا العربي المعاصر؟

مصطفى الغريب

شيكاغو