المسارات الإستراتيجية قد تتحول من سبيل إلى أخر، إلا أن الأهداف الإستراتيجية لا تتغير،بل تسخر كل الإمكانيات لدعمها،وهذه حقيقة السياسة الأمريكية بل حقيقة أية سياسة كونية لدولة عظمى،إلا أن الإشكالية في المحتوى الفكري لهذه الإستراتيجية ونظرتها إلى الأخر وكيفية صياغة منهج التعامل معه والوسائل المستخدمة في عملية التعامل. فالأرضية الفكرية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط بالعموم والمتبلورة في الطبقة السياسة الأمريكية تستند إلى عدة معطيات أبرزها :
ـــ أن منطقة الشرق الأوسط منطقة حيوية لا يمكن بأي حال من الأحوال إلا أن يكون التواجد الأمريكي فيها مباشرا وهي بالتالي دعامة أساسية في تعزيز الأمن القومي الأمريكي،وهذا (التواجد) لابد أن يكون أساسيا وفاعلا ومؤثرا في عملية صياغة واقع الشرق الأوسط،فإذا كانت أوربا محور فاعلية الاستراتيجية الأمريكية خلال القرن العشرين فان الشرق الأوسط قد اكتسب هذه المكانة في القرن الواحد والعشرين.
ـــ أية قوة ناشئة في المنطقة مهما كان حجمها وتأثيرها يجب أن تكون حليفة لحد التبعية، وبعكسه فيجب تدميرها بكافة الوسائل المتاحة حتى وان تطلب استخدام القوة العسكرية وأن تعرض الأمن الدولي إلى الخطر وما حدث في أفغانستان والعراق وما سيحدث في عموم المنطقة يعزز هذا الاتجاه.
ــ إن صيغة الشرق الأوسط وحسب الشروط الأمريكية تعد أولوية في السياسة الخارجية الأمريكية، وهذه الصياغة يجب أن تكون صياغة أمريكية خالصة تتوافق والأهداف العليا للولايات المتحدة وأية حركة أمريكية يجب أن تلتزم بعدم التفريط بهذه الشروط،وإذا كان هناك تحولا ما في المسارات أو تبادل في المواقع مع قوى حليفة أو تهدئة في هذا الجزء بقابلة تسخين في الجزء الأخر، فالسياسة العليا تبقى مؤسسة فاعلة مؤثرة ملتزمة بقدسية الهدف الإستراتيجي الأعلى.
نقطة الضعف المؤثرة في الحركة الأمريكية ؛ شكل و طبيعة تفاعل القدرات الأمريكية والواقع الاجتماعي في المنطقة الذي يتميز بخصوصية مفرطة وتفصيلات معقدة نفسية وتاريخية وعقائدية تتشابك في خلق رؤية معادية يعمقها الإغفال الأمريكي المتعمد لخصوصية المنطقة،وإذا كان هناك ثمة انبهار بالنموذج الأمريكي كنموذج متفوق لقدرته على الفعل إلا أن هذا الانبهار سرعان ما يتلاشى أمام إحساس وشعور بخيبة الأمل من السلوك الأمريكي السياسي المزدوج المعايير ذو الحركة الانتقائية والاستخدام السلبي والمفرط (للشرعية الدولية) في ضرب القوى الناشئة التي تبحث عن دور خارج التبعية الأمريكية،مما يولد انعكاسات سلبية تعمق الكراهية تجاه المشروع الأمريكي في المنطقة. وتلعب هنا إسرائيل وبنيتها الصهيونية دورا حاسما في التأثير في صياغة هذا التوجه مما يعمق حالة التصادم المستمر.
إن قوى المنطقة الفاعلة سواء أكانت سياسية أو اجتماعية أو دينية تعاني من خلل في التقييم الموضوعي للقدرات والطروحات الفكرية وصياغة الأهداف القابلة للتطبيق مما ينعكس سلبيا في الحركة السياسية أو الفكرية وغالبا في المجال العسكري عندما تشرع بممارسة دورها العملي.
عموما هذه الحالة في حد ذاتها مأزق مستمر تعاني منه قوى المنطقة تاريخيا وقد أدرك فاعليته مخططي السياسة الأمريكية ونجحوا في خلق الظروف والمسببات الموضوعية لدفع صانع القرار المحلي في دول المنطقة لتبني سياسات تعمق وتوسع من هذا المأزق ليستثمر لاحقا في فرض الشروط الأمريكية أو خلق مسببات التدخل كما حدث في العديد من مواقع المنطقة.
وفي دراسة النموذج العراقي تبرز هذه التجليات بشكل واضح وصريح،فهذا النموذج يعاني من متغيرات وتناقضات وصراعات تنعكس أثارها وبشكل مؤثر في ساحة الشرق الأوسط يجعل من الاستراتيجية الأمريكية قادرة على رسم وتثبيت تحولات في غاية الأهمية والضرورة لنجاح الأهداف الأمريكية الإستراتيجية إقليميا ودوليا.
ومن المفيد جدا أن نذكر قول الرئيس بوش عندما أكد في الكثير من خطبه،أن( العراق أصبح الخط الأول في مواجهة الإرهاب الدولي)، حيث كانت الخطة الأمريكية تقضي بالسماح لكل العناصر الإرهابية التي تتمكن من دخول العراق بالتوجه إليه ليكون ببساطة منطقة قتل مثالية لكل هذه العناصر ومبررا حيويا وعمليا لإحداث تحولات جوهرية في بنية الواقع العراقي سياسيا واجتماعيا ولتتم عملية تجذر الوجود الأمريكي في العراق بشكله المباشر وغير المباشر.
فالأمريكان نظريا وقبل الغزو الذي شرعوا به في آذار من العام 2003 على دراية أكيدة وواضحة بأنهم مرفوضين شعبيا في المنطقة، وإذا كان العراقيون (سيرحبون) بهم أو لم يظهروا مقاومة لهم ويتخلوا عن نظامهم السياسي، فسيكون ذلك مؤقتا،فحالما ينكشف غبار المعارك وتهدا النفوس سوف تبدأ المصالح بالتحفز والنمو ويستعيد المناوئين مواقفهم وتبدأ مراحل نوعية جديدة من الصراع،وفي هذه المراحل لابد أن يكون الدور والفعل الأمريكي مؤثرا وحيويا وموجها بالاتجاهات التي تخدم الاستراتيجية الأمريكية في العراق والمنطقة وهو ما يؤكده ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي عندما يشير إلى أن (( الناس سينظرون بعد 10 سنوات إلى العام 2005 ويقولون إن هذا التاريخ هو الوقت الذي بدأنا فيه بتدبر المستقبل الطويل الأجل للعراق)).
عمليا كان بأمكان الجيش الأمريكي أن يتخذ الإجراءات المعتادة والتي يتخذها أي جيش غازي أو وطني يقوم بالتغيير السياسي وينهي النظام السياسي العام،بإعلان حظر التجوال واستدعاء كافة القوات المسلحة الوطنية إلى ثكناتها ومراكزها من اجل تحقيق هدفين أساسيين،الأول :هو فرض حالة من السيطرة لإدارة البلاد عمليا، والثاني :احتواء كافة القوى المؤثرة وتطهيرها من الشخصيات المعادية وفرض السيطرة ومن ثم القيام بعمليات تصفية واحتواء لكل القوى القادرة على أبداء المقاومة والتسبب بإثارة المشاكل.
لكن ذلك لم يحدث بل العكس بالتمام هو الذي حدث،فقد قامت القوات الأمريكية بتشجع العراقيين على ممارسة كل أنواع الفوضى والانتهاكات، بل قامت إدارة بريمر بحل الجيش والمؤسسات الأمنية لتبدأ مرحلة شديدة الفوضى مزقت أوصال البلاد، وعمق ذلك وصول قوى المعارضة العراقية في الخارج الساعية إلى تأسيس دور ما على الأرض والتي كانت تفقده لان معضمها كان واقعيا لا يمتلك قاعدة شعبية حقيقية في الداخل. فبدأت التناقضات تشتد والنزاعات تنتشر والقانون يتلاشى بفعل غياب الإدارة العراقية الكفوءة ومؤسساتها مما ولد واقعا من الضياع والتياهان.
هنا يطرح تساؤل ألا وهو هل الولايات المتحدة غير مدركة لكل هذا وبالتالي ليست قادرة على اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتأسيس واقع منضبط وبسرعة، علما أن أية قوة أو دولة تدرك فاعلية هذه الإجراءات وأهميتها في هكذا حالة lsquo;فهل الولايات المتحدة وهي الدولة الأعظم وصاحبة الخبرة الأولى في التدخلات والغزوات الدولية لا تدرك ذلك وهي التي تمتلك أكفأ مؤسسات ومراكز البحوث السترتيجية في كافة شؤون الحياة لا تعي أهمية و دور هذه الإجراءات الضرورية والملحة ؟.
إن تتبعا للإحداث والوقائع يظهر العكس فهذه مجموعه من الخبراء تجاوز عددها ال70 خبيرا عسكريا وإستراتيجيا شرق أوسطيا التقوا قبل الغزو الأمريكي للعراق في جامعة الدفاع القومية القريبة من واشنطن وخرجوا باستنتاجات أهمها أنهم أكدوا على أن العملية laquo;ستكون المهمة الأكبر والأكثر تعقيدا للولايات المتحدة والمجتمع الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانيةraquo;.ومثل هذه عشرات الدراسات والتأكيدات التي ظهرت قبل الغزو الأمريكي للعراق،وهنا يبرز التأكيد التالي آلا وهو أن الولايات المتحدة كانت على قناعة كاملة ومزودة بكافة التفصيلات التي توضح الموقف،ومن هنا فأن (المأزق) الأمريكي في العراق عمليا وكل ما يجري من تفاعلات سلبية وانهيارات في الوضع العراقي ما هو إلا سلسة من التفاعلات والسياسات المصممة والمدركة لإحداث أوضاع ووقائع معينة مدروسة النتائج،تحدث واقعا يتوافق ودعم السياسات الأمريكية في المنطقة عموما والعراق خصوصا،فلقد شهد الواقع السياسي والعسكري والاجتماعي العراقي انقلابا جوهريا في بنيته، فالنظام السياسي العراقي أصبح يستند إلى ثلاثة قوى رئيسية متنافسة (شيعية سنية كردية ) بل في الغالب متناقضة وهذا الحال سيوفر أرضية واسعة من حرية الحركة الأمريكية تعززها التحولات الاجتماعية الجارية في النسيج الاجتماعي العراقي والذي تبين انه يعاني من ضعف واضح وقدرة متدنية من المواجهة.
لقد تمكنت السياسة الأمريكية من التحرك باتجاه تعميق التحولات التي ستعزز جذور التواجد الأمريكي عندما فككت الجيش العراقي السابق والقوى الأمنية وأقامت قوات مسلحه مهلهلة متناقضة لا تتمتع بالكفاءة والقدرة على الفعل والمبادرة ولا تمتلك الإمكانيات لتنفيذ أية مهمة وطنية واسعة، وبالتالي تجسد الوجود الأمريكي على انه ضرورة ملحة لضمان استمرار العراق الحالي وبعكس ذلك فان التفكك والحرب الأهلية هي النتيجة الطبيعية لأي انسحاب أمريكي مفاجئ وهذا ما يروجه الخطاب الأمريكي المستمر ولكي يتعزز ويكتمل المشهد بشكل متقن فان الانهيارات الأمنية والتصفيات الإنسانية لابد أن تستمر لكي يظهر العجز العراقي وتبرز الضرورة الأمريكية تدعمها التناقضات والصراعات التي تعاني منها الحركة السياسية العراقية التي لا تجمع على أية قضية وطنية تواجه العراق وبالتالي تأسس واقع معقد ومتشابك لن تتمكن أية قوة صغر حجمها أم كبر من أن تفرض رؤية أو حلول واقعية وعملية مما سيقنع الشعب العراقي بجميع مكوناته، أن القوى العراقية سواء أكانت سياسية أو اجتماعية تعاني من عجز مستمر ولن تتمكن من جلب الاستقرار مها ادعت أو عملت خصوصا وان أي أنجاز على صعيد الخدمات لم يتحقق، بل تتهاوى بنى الخدمات والموارد كلما تمر الأيام،فواقع بداية الغزو أفضل من وسطه الزمني وما يشهده البلد في هذه الأيام اكبر انهيارا من سابقة،فمؤشر الخط البياني في انحدار مستمر،وبالتالي فكل القوى السياسية الحاكمة والتي اغلبها ذو طابع إسلامي عاجزة عن قيادة العراق مهما ادعت أو عبئت الجماهير التي يوما بعد يوم تفقد حماسها نتيجة الانهيارات المستمرة والمتلاحقة، فاغلب هذه القوى تلوثت سمعتها بالفساد المالي والإداري الذي استشرى بشكل لم يسبق له مثيل ودخلت في صرا عات بينية امتدت حتى وصلت الأحزاب والقوى المؤتلفة،وأي محاولات مهما كانت أو ادعت أنها جدية لن تقنع الإنسان العادي بأنها ستغير الأوضاع ايجابيا.
هذا الواقع سيجعل الإنجاز الايجابي أمر مستحيلا،عندها سيكون التغيير ضرورة شعبية مطلوبة في أية عملية دستورية مقبلة بعد أن تكون معظم تيارات الطبقة السياسية العراقية قد فقدت القبول الشعبي ورصيدها الخطابي.

جمال البزاز