وصف طه حسين ذات يوم الحرب ونتائجها بالإشارة إلى أنها في إبانها توقف حركة الحضارة وتعترض سير الآداب، وهي في ذلك مثل الديمة التي تغرق الأرض بماء السماء، وتربك حركة الناس ليأوي كل فرد إلى منزله، وتلجأ الحيوانات إلى حظائرها، والطيور إلى أوكارها، وتصبح الأرض قفر من كل شيء إلا من تلك المياه التي تحفر الأرض ومن ذلك البرق والمطر الذي سرعان ما يتحول إلى سيل يبعث الخراب والدمار مقتلعًا الأشجار، هادمًا البيوت، مخلفًا أثره ما يخلف الطوفان. وعندما تنقشع السحب وتبزغ الشمس لتدب بعدها الحياة يخرج الناس إلى إصلاح ما أفسده المطر، ثم تمضي الأيام سراعًا، فتخضر الأرض وتنبت ما يجود لها من أشجار وثمار وشجيرات ونباتات، وتصبح الحياة أكثر نماء وأمانًا، والأرض أكثر جذبًا للالتصاق بها وعدم مبارحتها.
ما قاله عميد الأدب العربي الذي جاء من رحم الأحزان والمعاناة، وأصبح يمثل تجسيدًا حيًا لقيم النهضة الفكرية الحديثة، واستطاع أن ينقل الصراع الدائر بين القديم والحديث من المستوى الضيق الذي كان عليه من قبل إلى مستوى أرحب وأوسع، ينطبق على لبنان اليوم ذلك البلد الذي جعل من نفسه بفعل الهيمنة الإسرائيلية وغطرستها وبلطجية أمريكا ورئيسها المؤمن حتى الثمالة توترًا عربيًا فذًا بين قطبي الخنوع والاستسلام إلى درجة الشيخوخة والموت، والفتوة إلى أقصى درجات القوة والصمود والتمسك بنشوة التغيير ورسم مستقبل للأمة ينبض بالحياة، والحب، والظفر، وسيكتب تاريخ الأمة الحديث عن هذا البلد العظيم وعيًا وصمودًا وصبرًا: quot;هنا تشكّل رحم الأمة الجديد ومنه سيتغير الجنس العربي ليصبح أكثر وعيًا، وأكثر تعففًا من الحديث عن أمجاده السابقة وعن ذاته ليجعل العالم المتحضر والقوي كله رموزًا لهquot;. كما سيكتب التاريخ: quot; بأن لبنان غيّر الصورة اليومية لواقع العربي، ووضع مقاييس جديدة لوجوده كفرد وجماعة في تلك المساحة الكبيرة التي كانت تسمى الوطن العربيquot;، بعد أن أطلق لبنان هذا البلد الصغير في مساحته الكبير برجاله صوت الأمة، وتابع تمجيدها وتغذيتها من جديد، وحوّل الوطن الكبير الذي لم يكن يملك سوى الضعف مع الإباء، والفقر مع العزة، إلى قوة مع حلم، وغنى مع كرمquot;.
لبنان سيعيد رسم خارطة الوطن العربي كما يريد هو لا كما تريد إسرائيل وأذنابها وازلامها من دول العالم المتحضرة وعلى رأسها أمريكا ورئيسها المؤمن حتى الثمالة وحتى حدود الصوفية المطلقة!
سيكون لبنان الصمود قصة يدرسها الطلاب العرب الذين سيدخلون المدارس بعد عقد أو عقدين أو ثلاثة حيث سيقرأون في مادة المطالعة الحرة قصة نموذجية لذلك البطل الذي حقق بإرادته وتطلعه المثالي الخاص هذه quot;الأمة الجديدةquot;، وهذه الأرض المعنوية التي تنبت وتخصب وتتنفس عليها الروح الجديدة، وستتحول خلطة البطل السرية للفروسية والشهامة العربية الجديدة الناضجة بالفتوة والقوة والمثالية إلى ما يشبه المصل الجديد وأكسير للحياة الحرة، وسيجبر المواليد الذين خرجوا من الرحم الجديد للأمة على الخضوع لتطعيمات مجانية من هذا المصل ليصنعوا وجهًا جديدًا للإنسان العربي، ويمسحوا من خلاياهم ذلك اللون القاتم الذي صبغ تراجيديا الإنسان العربي عقودًا طويلة وذلك في صراعه مع العدو، ومع حضارة الصناعة ودول الحرية واللاهوت المنظّم.
لبنان شخّص الحالة العربية وكشف علة الأمة في صراعها مع العدو الذي زرع الأحقاد عليه في كل شبر من الأرض العربية وتحت سقف كل منزل يسكنه عربي وتحت ظلال بساتين الليمون، والتفاح، والسدر، والزيتون، والنخيل على إمتداد الوطن العربي وعرضه، لبنان جعل الحمامة تطير من العقال، وجعل الأعشاب تطلع من العباءة.. لبنان حوّل إحساس العربي إلى الصورة المعاكسة، من إحساسه المأساوي بالمكان إلى لحظات من التمتع بالقرب منه والإلتصاق به، والتعفر بترابه، لبنان حوّل إحساس العربي بالذل والمهانة إلى إحساس بالقوة والإنتصار، ومنح الإنسان العربي الأدلة على وجوده ضد القهر والدهر وضد عقلانية التسلم بالهزيمة والخنوع، لبنان جعل العربي يعود إلى إتزانه ليعبر عن أعنف مشاعر الألتياع أمام ماض مليء بالمعاناة والذل والهوان ورسم طريقًا للمستقبل أكثر إشراقًا وأكثر حضورًا في حضارة ناضجة كانت آلية للزوال!
لبنان كشف في حربه التي جرت أحداثها على أرضه في موسم سياحي لافت كل الأقنعة ومن يتستر وراءها، لبنان أخرج السيوف من غمدها لملاحقة القاتل، وكشف عن معادن الرجال من الحكام الشرفاء الذين تقطروا ألمًا لما يجري في لبنان من تقتيل وتدمير لا لشيء إلا لفرض الهيمنة والخنوع والخضوع لترضى الأمة بمشروع الشرق الأوسط الجديد.
عبد الله بن عبد العزيز وحده رفع صوته عاليًا محذرًا من عواقب ما يجري في لبنان، أصدر بيان إستنهاض للهمم العربية التي لا تملك سوى سلاح الصوت والخطب الرنانة والبكائيات والتعاطف مع الماضي ومحاولة إعادة بناء منظره من جديد.
وخلافًا لكل ذلك فقد كشفت الحرب الشرسة والعدوان الآثم الذين شنه الكيان الصهيوني على لبنان بمباركة من quot;أمريكا الحرية quot; و quot;بريطانيا العظمى quot; تحت ذريعة خطف جنديين ينتميان إلى هذا الكيان القذر الذين زُرع داخل جسد خير أمة أخرجت للناس عن القتلة والخونة والعملاء والمتاجرين بالقضية والمسطحين لها، أو أولئك السذج والتافهين ممن مسؤولي القنوات الفضائية والكتاب والإعلاميين الذين تعمدوا تجريم لبنان وتجريم حزب صغير حمل سلاحه ضد أعداء الأمة والإنسانية على مر التاريخ، كما إنساق وراءهم رموزًا كانت بالأمس لحومهم مسمومة لا يجوز نقدهم أو الإقتراب منهم، حيث كشف كل هؤلاء عن وجههم القبيح لنظرتهم تجاه القضية وتمادى البعض منهم ليخرج سوءته أمام العالم ليقول وبكل سطحيه: أن المقاومة ضد الكيان وضد أعداء الله والإنسانية هي السبب في كل مايحدث على أرض لبنان الصمود، وبدلا من أن تعاقب دول الحرية دول الإرهاب في المفهوم الأمريكي والإسرائيلي لدعمهم للإرهاب إتجهت القوة والغطرسة إلى المكان الآمن والأضعف إلى لبنان لتدمر بنيته التحتية وتقتل أطفاله وشيوخه تحت ذريعة كسر يد المقاومة التي تدافع عن الأمة والوطن المستباح.
ووصل الأمر بأناس يعيشون في طول الوطن العربي وعرضه إلى القول بأن حزب الله فوت فرصة تاريخية لإنهاء المشكلة بعد أن رفض نقاطًا لم نسمع بها حتى من أولئك المقربين من أجهزة الإستخبارات الأمريكية، وهذا ليس أمرًا مستغربا منه عندما نعرف أنه دأب على الدفاع عن ممارسات أمريكا العدوانية في العراق ووصفه للعدوان الإسرائيلي الآثم على لبنان بالهجوم، ووصل التبجح وإستفزاز الأمة إلى الذروة عندما أعلن مجموعة من الرموز الدينية دون حياء أن الصلح مع اليهود مطلب شرعي قبل أن يكون أمر مباحًا، وأن الشيعة سرقوا الجهاد ضد إسرائيل منا، كما أعيد تسويق فتوى بعدم جواز الإنضواء تحت لواء المقاومة ضد إسرائيل أو مساعدة المناضلين أو حتى الدعاء لهم، في حين خالفت فتوى أخرى تلك الفتاوي عندما أجازت الدعاء لحزب الله بشروط حددتها بأن الدعاء للحزب يجب أن ينحصر في حربه مع إسرائيل ولا يتعداه إلى شيء آخر.
ولا نملك أمام هذه الإطروحات والفتاوى إلا أن نقول لإصحابها كفوا أيديكم ووفروا دعاءكم لأنفسكم فالرئيس بوش سبقكم في بداية الحرب عندما أخذ ينقل القنابل والصواريخ ليقتل أطفالكم وأمهاتكم ويدمر إقتصادكم وختم ذلك بالإعتكاف ليصلي ويدعو ربه بأن ينجح مشروعه المتعلق بالشرق الاوسط الجديد الذي حملته الى المنطقة إمرأة ذات منصب وقبح لتهرب عند وصولها الى المنطقة عائدة تجر أذيال الخيبة بعد أن لمست بأن المشروع لن يجد قبولاً أمام الصمود في حين عجزتم حتى عن إصدار فتوى بإجازة إعلان الحرب أو على الأقل مقاطعة أمريكا عدوة الإسلام والمسلمين، كما فعلتم مع الدنمارك قبل أشهر بسبب رسوم مسيئة إلى النبي كان للموساد الإسرائيلي دور في نشرها قبل أيام من تبني الدول الإسكندنافية بداية بالدنمارك مشروعًا يهتم بقضايا العرب والمسلمين من خلال فعاليات ثقافية وفكرية وفنية، فيما يشبه الحوار مع الآخر.
أمريكا وإسرائيل بدلا من أن تدكا معاقل إيران النووية والقوافل الحاملة لصواريخ حزب الله المنطلقة من سوريا، وهما الدولتان التي تزعم إسرائيل وأمريكا أنهما تدعما حزب الله إختارتا لبنان لتؤدبا به إيران وسوريا، فإتجهت إسرائيل بدعم أمريكي إلى لبنان فكانت قانا الجديدة وتدمير المطارات والجسور والطرق وقتل الأطفال والمسنين والمعاقين هي ثمن عقاب إيران وسوريا، ولم تعلم إسرائيل وأمريكا أن لبنان الصمود سيرسم خارطة الشرق الأوسط الجديد بإرادته لا بإرادة الآخرين، وكل قانا جديدة لا تزال الأمة بخير ولا زال القمل يعشعش في اللحى والسوس ينخر في العظام ونحن ندعو خلف الإمام اللهم دمر اليهود ونقول آمين.

بدر الخريف