نحن نسمع ونقرأ ونشاهد في الأفلام وبالبرامج التلفزيونية، قصصا وصورا مرعبة عن الارهاب والجرائم وكافة أنواع الوحشيات التي يمارسها الانسان ضد أخيه الانسان، لأسباب تتراوح من الطيش الى الهوس العقيدي أو الديني أو الرغبة في الانتقام، أو التي تمارس بدوافع سايكوباثية اجرامية، أو بدوافع تنشأ عن اختلالات تربوية أو نفسية أو اجتماعية، وربما لغير ذلك من الأسباب المتنوعة، بما فيها الدوافع الثورية والتحررية أو الخلاصية. فللقتل ذرائع في كل الأحوال، عقلانية وغير عقلانية، وهذه الأخيرة لا تعني الحيوانية أو البدائية، فالحيوان يفترس غيره من الحيوانات لأسباب تبدو منطقية ومنسجمة ( عقلانيا ) مع طبيعة وظروف وشروط حياة ذلك الحيوان. بكلمة أخرى، حينما يفترس حيوان حيوانا آخر، فذلك لأن هذا هو السبيل الوحيد الممكن للعيش في الغابة أو في الفيافي. ولكن يندر أن يقتل الحيوان غيره من الحيوانات لمجرد التشفي أو اللهو أو الكسب المادي؛ حتى انه، حينما يكون شبعانا أو غير جائع، لا يهاجم أحد، الا اذا أخافه ذلك الأحد.
تستطيع أن تفهم كل هذه الأمور، ولكنك حينما تتابع، منذ ثلاث سنوات، بأسى يومي أخبار الأهل والناس في العراق، فلابد من سماع قصة حزينة، في الأقل، واحدة كل يوم، فتسمع مثلا عن المفخخات وعن قتلى وشهداء، وتسمع عن شح في المنافع، وفي مقدمتها الغاز والكهرباء، في عز الصيف العراقي، وحتى الماء والدواء، وتسمع وتسمع ! ومن ثم تدمن أو تعتاد على سماع هذه المآسي، عاقد آمالك على جناح الصبر الذي يرفرف حولك، ويتحفز للطيران والافلات منك. ولكن، أن تسمع القصة الآتية من قريبك في بغداد على الهاتف، فهو أمر يتطلّب، فعلا quot; صفنة quot; طويلة جدا لاستيعابها وتصديقها؛ هل تحصل اليوم قصة كهذه في بلد عظيم اسمه العراق؛ وعن ناس عراقيين نتشرف دوما في الانتساب اليهم؛ فهم أهلنا ! ؟ هل نحن نمتّ بصلة لذلك القسم من العراقيين الذي يأتي وفي وضح النهار بسيارات البي أم دبليو الى المجمع الصناعي في البياع، ويصفّ أصحاب الدكاكين ومحلات تصليح السيارات وغيرهم من الحرفيين، ومن ضمنهم قريبنا الكادح هذا، على شكل طوابير، ويختار منهم خمسة أشخاص، وبدم بارد، وأمام الملأ يوجّه القتلة الملثمون من هؤلاء الذين وصفناهم بقسم من العراقيين، فوهات مسدساتهم الى رؤوس هؤلاء الخمسة من الشباب والكهول من اصحاب المحلات في هذا المجمع، الى حدّ ملامستها، ومن ثم يطلقون الرصاص على جماجمهم، فتتناثر أمخاخهم على الأرض، يا للبشاعة ! ! ولعله أمر يستغربه من يسمعون، ليل نهار، من خلال الاعلام النزيه جدا بأن القتل في العراق يجري على الهوية، أي أن الضحايا،أما أن يكونوا من الشيعة أوالسنة! فما بالك حين تعلم علم اليقين بأن أولئك المغدورين كانوا من الشيعة والسنة معا!؟ فهي اذن ليست حرب طائفية بل حرب مرتزقة لابادة الشعب العراقي بكل أطيافه!! وحالما ينتهي هذا الفصل من القتل البربري المنحط، يتوجه هؤلاء الأبطال الملثمون الى منطقة أو مجمع آخر قريب لارتكاب الجرائم الشنيعة ذاتها، وهكذا وبدم بارد، وبدون استعجال، بل وباستعراضية علنية غريبة ! وبعد القتل لم تظهر في الأفق أية سيارة حكومية أو شرطة أو جيش الا بعد مغادرة الأشاوس القتلة ليواصلوا تحرير العراق في مناطق أخرى. لقد حصل كل هذا بالفعل يوم أمس في البياع وفي وضح النهار ! ولم تنبس وسائل الاعلام ولا شرفاء حقوق الانسان كلمة واحدة!!! ومسلسل القتل مستمر، حتى أصبح منظره روتينيا، ينفذه القتلة والمأجورون بدم بارد، بارد جدا ... هل تصدق ان كل هذ يحصل اليوم في العراق الذي يشرفنا الانتساب اليه!