نحت الروائي نجيب محفوظ الخطاب الشفاهي الشعبي في إجراءات قصصية تألقت مساحتها في البوح الدلالي والفلسفي والجدل العقلاني دون أن يفقد روح القص دراميته ونزعته الى المثالية في التجديد المدروس.. وكان محفوظ ساعياً، في كل عمل روائي، الى استغوار الواقع، والنبش في جوانيته على نحو صبور وشائق دون أن يذهب بهذا الواقع الى تسطيحه اوتبسيطه.
إنّ عمارة الروائي شيدت على أنواع من الحكي ما كان لها أن تبرز بهذا الشكل العبقري لولا إتقان صانعها الماهر للعبة الروائية إتقاناً يصعب على الدارسين استكناه خطوطها أو الوقوع على أرضيتها، التي غالباً ما تكون متحركة، متعددة الأساليب، منفتحة على مصراعيها في التحديث والتجديد، مسبوكة بلاغياً، ما جعل تلك العمارة الروائية تقف على أرض صلبة لا يمكنك التشكيك بهندستها وزخرفتها البديعة.
لقد أفضت الدهشة التي تتركها أعمال نجيب محفوظ في نفوسنا الى تحول في الأسئلة، وذلك التحول يجرنا الى استكشافات في مناطق يلذ لنا ولوجها، غير أن تبسيطها الجميل الذي نجده، سيجعلنا نلتفت باهتمام بالغ الى معنى القص، إننا لا نستطيع أن نقول ماذا يريد الكاتب بوحه في هذه اللوحة أو تلك الصورة، بل يحيرنا بالسؤال: كيف استطاع إقناعنا بموجودية تلك الشخوص الروائية التي أرى أنها كائنات حية تتقافز على الورق لتترك أثرها البليغ في نفوسنا.
في ldquo; خان الخليليrdquo; لا يمكننا نسيان ldquo; ربابrdquo; تلك الفتاة الجميلة، مهوى القلوب، كيف صنع منها الروائي لوحته الفنية، في علاقة الحب الدامية مع رشدي البطل الثانوي للرواية.. وكيف بقي البطل الأول ldquo;أحمد عاكفrdquo; يغلي حزناً لضياع حبه، بسبب حيائه وعدم تمكنه من البوح، إن صراع الأخوين على حب ldquo; ربابrdquo; يهيمن وجوده في صناعة روائية فذة كالتي وجدناها في هذا العمل الجميل الممتع، وتتكرر قصة الحب غير المكتملة في الكثير من الأعمال الروائية لكاتبنا الكبير، ما يعكس لنا أن فناننا محفوظ قد أوغل عميقاً في رسم ملامح هذا الحب المبتور حتى جعلنا نعتقد أنها تجربته الخاصة.
في حوار مع الروائي سبق لي قراءته قبل عشرين عاماً أشار فيه الى أن الروائي لابدّ أن يعكس جزءًا من تجربته الذاتية في أعماله، وأظنني لن أستبعد تجربة ldquo;أحمد عاكفrdquo; المريرة مع ldquo; ربابrdquo; بطلي روايته ldquo; خان الخليليrdquo; من التلميح الى اسقاطها الذاتي فيها..
لقد علّمنا نجيب محفوظ، كيف نحترم الكتابة، من خلال إصراره العنيد، والصبور، والإلتزام بها في التواصل والإنكباب.. وحقيقة الأمر، لم أجد، حسب معرفتي المتواضعة، كاتباً، وضع منهاجاً يومياً للكتابة مثل كاتبنا الكبير... ولعل ماركيز مثله أيضاً، هذا الامر جعلني أتساءل عن مغزى أن ينصرف الإنسان بكل حياته الى مشروع الكتابة.
إن الدرس الذي يعلمنا اياه لهو من البلاغة ما يستدعي الوقوف عنده كثيراً بقصد التفكر فيه طويلا، لتطوير أنفسنا.
شخصيات نجيب محفوظ مستلة من الواقع، وقريبة الى نبضه، تحاكيه، وتجادله، وترسم مستقبلها من خلاله، لكن هل كان الواقع بعيداً عنها؟ إن الفن، او جمال الفن وروعته في أن يبقي تلك المسافة من الغموض وعدم البوح بينة وغير محدودة من أجل أن يبقى الفن فناً مستمراً في جماله... يطرح أسئلته دون العثور على أجوبة محددة ومعروفة عنها سلفاً.
التعليقات