مُنذ عشرات بل مئات السنين، وعبر عشرات بل مئات التجارب الأليمة الموجعة، يعكف العرب على الندب والنواح والبكاء المتأخر على اللبن المسكوب.

رحل الدكتاتور، أما العراق فهو حيٌ، فليتكم تنتبهون وتتعضون وتتحسون رقابكم قليلا وتنظرون بعيون ثاقبة واثقة حسنة الإبصار إلى حلفائكم وأعدائكم وتحاولون أن تفهموا ماذا يبيتون لكم
حين كان هذا اللبن لما يزل في إناءه، لم يكن هناك من يبالي به أو ينتبه له أو يهتم بصيانته، وحين يُهدد لا أحد يُبالي، لكن حين ينسكب ( برفسة ) من قوي واثق مُقتدر يشرع أهلنا العرب بالبكاء والنواح والعويل ويمكثون هكذا زمنا حتى يُقيض لبقية باقية من لبنهم أن يُرفس ليبكوا عليه وهلم دواليك.
هذه الظاهرة تكررت على مر تاريخ العرب، هذه الظاهرة تكررت مع طغاة ومجانين وسفهاء و... اولياء لله صالحين.
وتكررت مع اوطان وأراضٍ وثقافة مُهددة وحضارات وأنظمة حكم، وليس على زعماء حسب.
قتلوا عثمان وبكوا عليه وتقاتلوا من اجله.
قتلوا علي ثم الحسين ثم زيد بن زين العابدين وووو.
ثم بكوا عليهم لاحقا وأقتتلوا من اجل قمصانهم.
قتلوا ملوكهم ورؤساءهم وزعماء قبائلهم، ثم بكوا عليهم وندموا اشد الندم وظلوا يحلمون بعودتهم ثانية.
اضاعوا فلسطينهم ومكثوا يبكون عليها ويصارعون من اجل إعادتها بوارد الثأر وحده لا من أجل حلم حضاري عصري لبناء دولة تستحق أن تقوم وتعيش وتستمر، ووصلوا إلى اللحظة التي يتقاتلون بها بينهم بينما من أخذ أرضهم آمن سعيد مطمئن مقتدر عاكف على البناء والنهوض والرقي الحضاري.
قبل ثلاث سنوات ونصف لا اكثر كان لديهم العراق، وكان ثوبا مليئا بالثقوب منخور العظم، وكان بمقدورهم لو شاءوا أن يضغطوا على النظام ضغطا جماعيا ليترك البلد ويخرج بما لديه من نقد ويسلم الملك لشعبه وقواه الوطنية وفي وقت كان لما يزل هناك امل في أن يجتمع العراقيون حيث لم يبلغ الدم الطائفي الركب بعد.
لكنهم لم يفعلوا بل ربما عكف البعض منهم وبمنتهى النفاق على تشجيع الدكتاتور على الإستمرار في التحدي.
وجين سقط النظام، شرعوا بدعم البعثيين وقوى ظلامية أخرى لا يُنتظر ولا يؤمل منها أن تبني بلدا وتحافظ على نسيج وتجمع كلمة.
وبعضهم كان ينطلق من منطلقات الثأر القبلي من العراق كله لا من النظام الذي كان.
وأوقعهم منطق الثأر والخبث الطائفي في نتائج مفجعة سيكون لها ولا شك أثر كبير عليهم وعلى بلدانهم وأنظمتهم وأمنهم.
وحوكم النظام البائد، وكان متوقعا لرئيسه أن يُعدم هو ورفاقه، إذ هذا كان اقل ما كان ينتظره العراقيون منذ ما يفوق الثلاثين عاما ولألف سبب وسبب.
سواء كان الإعدام مصورا أو غير مصور...!
سواء رُكلت الجثة أو لم تُركل...!
سواء هتف الهتافون باسم السادة الأجلاء مُقتدى وعمه أو لم يُهتفوا...!
لكنهم أخوتنا العرب... أحبتنا وأهلنا الذين تجاهلونا دهراً... يعاودون اليوم الكرّة ذاتها...!
كرة البكاء على اللبن المسكوب.
لقد شرع الدود في إلتهام الجثة ايها الطيبون وهو على اية حال ارحم منكم، أما الأرواح فراحلة إلى مصير لا شك افضل من مصير احكامكم المتأخرة ودموعكم المنافقة التي تأتي دوما في غير وقتها وإتجاهها السليم....!
رحل الدكتاتور، أما العراق فهو حيٌ، فليتكم تنتبهون وتتعضون وتتحسون رقابكم قليلا وتنظرون بعيون ثاقبة واثقة حسنة الإبصار إلى حلفائكم وأعدائكم وتحاولون أن تفهموا ماذا يبيتون لكم.
تقبلوا الواقع العراقي الجديد وحاولوا إصلاح ذات البين بين العراقيين.
تقبلوا شعوب العراق الناهضة من سجن صدام حسين، وبينها من يمتلك رؤية حضارية وخبرة إدارية وبنائية عالية في مضمار بناء الدولة، كالشعب الكوردي مثلا.
مدوا اياديكم لهؤلاء الذين يملكون برنامجا لبناء العراق أو على الأقل لبناء جزءٍ من العراق، فحيث يبنى شبرٌ آمن وقوي في العراق فهو بالنتيجة قوة لكم...!
كفوا عن التباكي على ما فاتكم وتفرغوا لما بين أيديكم الآن.
قريبا سيسكب كامل البترول العربي، هل فكرتم ماذا انتم فاعلون وعندكم هذا الفكر الظلامي البغيض وتلك الجموع والحشود من النسوة والرجال العجزة المعوقين بسبب هذا الفكر؟
هل فكرتم كيف تعيش تلك الملايين الكثيرة التي لا تحسن إلا البكاء على عثمان وعلي والحسين وبن هريرة وابي الدرداء وزرقاء اليمامة؟
الفكر المريض لا يستطيع أن يحرك لسانٍ ولا يد، وحين تعصف بكم ريح الحضارة أو تنقلب الطبيعة عليكم وتغمر صحاراكم الثلوج، ستدفنون لا شك مثل ديناصورات ما قبل التاريخ.
صدقوني...!

كامل السعدون

النرويج ndash; السادس من ك2 - 2006