الدولة القلقة هي تعريف جمهورية تركيا الجديدة التي اسسها كمال اتاتورك. هي قلقة جغرافياً، لانها لاتقع في اي منطقة جغرافية من المناطق التي حددها العلماء (راجع ان شئت: فيليب روبنس، تركيا والشرق الاوسط، دار قرطبة 1991، ترجمة ميخائيل خوري). وهي قلقة تاريخيا في ضياع مستمر بين التراث العثماني، والهوية الغربية الجديدة. الى ذلك وابعد منه تتسع دائرة القلق ثقافياً وسياسياً واجتماعياً في حيرة مستمرة، تبدو للمشاهد الخارجي، بمثابة فوضى عارمة على اكتاف الجنون.
هذا الواقع دفع بباحث لبناني، محمد نورالدين، متخصص في شؤون تركيا وتاريخها ولغتها، الى تسميتها بالجمهورية الحائرة.
تركيا بلد جميل، وشعبها يستحق في الحقيقة حياة افضل ومستقبلاً مشرقاً. وما يشاع عن الاتراك انهم اناس اجلاف، وذوي مزاج عصبي ومتخلف لا يمت الى الحقيقة بصلة. الاتراك في العموم شعب لطيف وودود ويتمتع بصفات كريمة، وحالهم في ذلك حال شعوبنا في المنطقة التي تشترك في ميزات ثقافية وتاريخية. ان محاولات جمهور كثير من الكتاب والقراء استعداء تركيا، او العكس استعداء الآخرين من الزاوية التركية، محاولات متخلفة وباطلة لا تستحق الالتفات.
ان الترك، والعرب، والكُرد، والفرس والآخرين في اشد الحاجة الى الحوار والتعاون واثارة العناصر الحضارية المشتركة بينها.
الاتراك ساهموا في حضارة الشرق اسوة بباقي القوميات والتكوينات. قد لا يعجبنا بعض تاريخهم ولكن ليس هناك تاريخ معصوم، وحال الرفض والانتقاء والاعجاب ليس رهناً بتاريخ الترك وحدهم. الامر فيهم كما في غيرهم يُحمل على الميزان.
المرحلة الراهنة هي مرحلة حرجة وقلقة بالنسبة الى تركيا والمنطقة. ان الاستمرار في الهلوسة والاوهام، يزيد الامور تعقيداً وثقلاً من الانكسارات والفشل الحضاري. ان تهديدات تركيا المستمرة ضد حزب العمال الكُردستاني من جهة وضد اقليم كُردستان من جهة اخرى تستدعي الوقوف والمراجعة الموضوعيين.
القضية الكُردية تشكل الازمة الكبرى ليس في تركيا الجديدة فحسب، بل وحتى في العهد العثماني وبعد ذلك كتركة ثقيلة في الكيانات الاقليمية/القومية الجديدة.
الصراع والحروب والمواجهات الكثيرة لم تجد حلاً للمشاكل العالقة، ولا هي اخمدت فوران القضية الكُردية التي استنزفت طاقات المنطقة بشكل رهيب، نظراً لعنجهية الانظمة المتعصبة والمنغلقة التي استقوت بالقوى الخارجية في جميع المراحل.
ان ما يلاحظ في آداء الانظمة التركية المتعاقبة، وما يؤخذ عليه ـ الآداء ـ هو التعامل مع القضية الكردية بنفس العقلية والادوات في شتى المراحل رغم تبدل الظروف والازمان. واذا كان ذلك يدلّ على شئ فهو يدل على العجز العقلي في استيعاب جوهر القضية على كل المستويات. العثمانييون والنظام العلماني/ الاسلامي في تركيا والاحزاب المختلفة قاست القضية الكُردية بمعيار واحد غير متبدل (راجع ان شئت مقالنا: تركيا والاجماع الداخلي، مجلة شؤون الاوسط، مركز الدراسات الاستراتيجية في بيروت العدد 87 عام 1999).
كان في نيتنا كتابة مقال عن حزب العمال الكُردستاني في سلسلة عن الاحزاب الكُردية، كنا قد كتبنا حول الحزب الديموقراطي والاتحاد الوطني الكُردستانيين ونشر على ايلاف. لكن المشاكل الكثيرة تعيق باستمرار مشروعنا الكتابي. سنكمل في المستقبل تلك المواضيع التي وعدت القرّاء بطرحها.
بدأ حزب العمال الكُردستاني انتفاضته في اغسطس 1984، بتنظيم حديدي لم يقهر رغم محاولات عظيمة من قبل الحكومات التركية الكثيرة.
يقود الحزب شبكة واسعة وجيشاً بشرياً ضخماً، في ما يشبه امبراطورية مترامية الاطراف، ليس في كُردستان فحسب بل في عمق العالم الغربي. اقتصادياً وثقافياً واعلامياً، يملك هذا الحزب كوادر وامكانيات عظيمة في اوروبا وفي انحاء العالم. في بريطانيا وفي شركة واحدة للمحاماة، يملك الحزب 400 مائة محام تابع له!
في تكوينه استفاد حزب العمال من تجربة اليهود في الاعتماد على اقتصادهم، واخذ الدروس والعبر من تجارب الاحزاب الشرقية على العموم والكُردية على الخصوص. وفضلاً عن ذلك تحولت الدول الاوروبية الى آفاق واسعة للحزب على اصعدة مختلفة. لذلك لم يحدث ان يتحول هذا الحزب الى آداة بيد الدول الاقليمية، نظراً لاستقلاله الاقتصادي بدرجة اولى. يملك الحزب المئات من المعامل والشركات والمتاجر والاسواق، في عموم المدن الاوروبية. وتعد شبكته الاعلامية ضخمة جداً، فضلاً عن جالية كبيرة منظمة تنظيماً محكماً. يعود فضل تأسيس هذا الحزب الى عبدالله اوجلان، وهو احد العقول الكبيرة في القرنين الماضي والحاضر. وبالرغم من شهرته كسياسي يقود حزباً، الا ان تكوين اوجلان العقلي والنفسي ابعد من ذلك بكثير. فالرجل مفكرٌ كبير جداً. ومن موقع الفكر والفلسفة استطاع اوجلان تاسيس حزب تحول الى ورشة لمشروع كُردي على مستوى الأمة.
ان تركيا لم تستطع سحق هذا الحزب ايام كانت في اوج قوتها، حين كانت عضواً في حلف ناتو، الذي فقد فاعليته بعد التغيرات الجديدة في الاعوام الاخيرة. تركيا بعد ان رفضت السماح لامريكا استخدام اراضيها للحرب ضد العراق، سقط دورها الاقليمي الذي شغلته لفترة طويلة. وربما كان الرفض التركي يعكس رغبة امريكية مضمرة، بعدما أمّنت امريكا مواقع اكثر اهمية من تركيا في عمق الشرق وفي الخليج.
الوضع التركي الحالي يشبه وضع الحكومة العراقية عام 1990. في تلك الايام قام الرئيس صدام حسين بخطوة انتحارية، واحتل الكويت معتمداً على قوته العسكرية وامتلاكه لآبار البترول، في وقت تظاهر الغرب بالبرودة واللامبالاة تجاه الحدث. واذا كان الاقتصاد التركي يعاني الضعف اساساً، فان الترسانة العسكرية التركية لا تملك آبار البترول. وتركيا المحاطة باعداء تقليديين مثل يونان، ارمينيا، سوريا، بلغاريا، كُردستان في وقت تعاني ازمات سياسية خطيرة مع الغرب، ليس من مصلحتها اجتياح كُردستان العراق على الاطلاق.
منذ فترة طويلة جداً تحاول تركيا حجز مقعد لها في الاتحاد الاوروبي. وهي كذلك تحاول التخلص من تركة ثقيلة تقوض اركان الدولة باستمرار كالانهيارات الاقتصادية التي اجتاحت تركيا في الماضي، وهيمنة العسكر، والقضية الكُردية، وقضايا الحدود والجماعات القومية والدينية.
بعد فرنسا، صادق مجلس الشيوخ الامريكي على توثيق ابادة الارمن، وهي تشكل قضية خطيرة ازاء تركيا التي تعاني معاداة شرسة من قبل الارمن، الذين يملكون ثاني اكبر لوبي سياسي بعد اليهود. ان مصادقة مجلس الشيوخ الامريكي على المسألة المذكورة، قد تكون سببا وراء انفعال تركيا الاخير. وبما ان امريكا هي المسيطرة على الوضع في العراق، الذي يتمتع اقليم كُردستان فيه بالامن دون المناطق الاخرى، فان المحاولة التركية اجتياح كُردستان قد تكون رداً على امريكا، وزعزعة خططها الرامية الى التحكم بالامن العراقي. والحال فان الاجتياحات التركية السابقة لم تحل مسالة حزب العمال الكُردستاني، ولا نالت من قوته. وفي اواخر القرن الماضي حين ضغطت تركيا على سوريا تسليمها اوجلان، المسجون حالياً في زنزاناتها، فهي لم تستفد من القاء القبض عليه سوى دفع القضية الكُردية فرسخاً الى الامام في المحافل الدولية.
على تركيا التريث والوقوف، قبل الشروع في خطوة انتحارية تضع تركيا على حافة المجهول. في رأيي اذا ما قامت القوات التركية باجتياح كُردستان العراق، اجتياحا يفتح الصراع ليس مع العمال الكُردستاني فقط وانما مع الاحزاب الكُردية العراقية، فان ذلك يعني تكرار تجربة غزوة الكويت من قبل النظام العراقي آنذاك الوقت. ويفتح وقائع الاجتياح وما بعده ابواب الجحيم على تركيا، تلحقها بصفوف العراق ويوغسلافيا لا محال.
ان السياسة الغربية الحالية بشقيها الامريكي والاوروبي تخالف رغبات تركيا. لذلك ولاسباب اخرى وحتى لا تتحول تركيا الى بلد يسوده الفوضى والانقسام والحروب، ان تتوقف عن المضي في الوقوع في المصيدة (المصيدة سواء بمؤامرة مسبقة او باخطاء قاتلة من قبل تركيا نفسها). قوة حزب العمال الكُردستاني لا تكمن في اولئك الخمسة آلاف او عشرة آلاف مقاتل في الجبال. هناك شعب يطالب بحقوقه باستمرار، ولدى تركيا ملفات كثيرة جداً تشغلها عن الوقوع في مهالك جديدة. ملفات الارمن، الاتحاد الاوروبي، قبرص، الاقتصاد، العلاقة مع امريكا، القضية الكُردية، دول الجوار المتخاصمة ستتحول الى اشباح دمار في تركيا. ان تصريحات اوردوغان، المتزن والعاقل، في الايام الاخيرة بالاشتراك مع الرئيس الجديد عبدالله غُل والمجامِلة اساساً لسطوة العسكر التاريخية، بعيدة عن العقلانية والبعد الاستراتيجي. التصريحات خصوصاً ازاء امريكا كانت سطحية ومستوحاة من اجواء خطابية في المهرجانات التي تقام عادة لذكرى محمد الفاتح،القائد العثماني، في اسطنبول.
يجب على تركيا بدل اجتياح كُردستان العراق، الشروع في مفاوضات حقيقية مع حزب العمال وانهاء هذه الازمة الخطيرة حتى لا تتحول الى كارثة كبيرة تقسم تركيا على اساس الصراع والحرب والعاقل من اتعظ بغيره!
علي سيريني
التعليقات