يبدو جلياً، مع تصاعد الإحتجاجات الكوردية في تركيا وما يسفر عنها، يومياً، من سقوط ضحايا في صفوف الكورد الساخطين، أن الساسة الأتراك لم يفهموا بعد، كما يبدو من تطورات الحدث الراهن في تركيا، حقيقة المسألة الكوردية و خطورة الوضع الراهن على مستقبل تركيا في المدى المنظور.
بل أن أكثر ما يثير الإستغراب من موقف المؤسسة السياسية و العسكرية، على السواء، في تركيا، هو عدم إداركهما لواقع الصراع المرير بين الكورد، و كافة النظم و التشكيلات التي حكمت تركيا سواءاً إبان الحكم العثماني أو بعد تأسيس الجمهورية التركية الى حد الوقت الراهن. الصراع الذي كلف ثمنه أرواح الالاف من الضحايا ndash; معظمهم من الكورد - و إستنزف من ميزانية الدولة التركية المليارات من الدولارات في دعم المجهود العسكري ضد الإنتفاضات و الحركات القومية الكوردية التي إندلعت و تشكلت على إمتداده. و الأنكى من كل هذا و ذاك هو، أن الساسة الأتراك لا يقرون بأن، كل محاولات محو القضية الكوردية من الوجود، من منطلق عنصري و قومي، باءت بالفشل الذريع، و تحطمت على صخرة المقاومة البطولية التي جسدها الكورد، على إمتداد عصور التاريخ.
كنت دأئماً أقول، ان بقاء الشعب الكوردي على مسرح التاريخ و حفاظه على مقومات وجوده و إستمراره، في منطقة تعرضت الى أبشع و أشرس عمليات الإزاحة الإثنية و العرقية، سببه يعود الى قدرتهم على تنمية غريزة المقاومة و الحفاظ على الذات القومية، بالرغم من كل سياسات و ممارسات التنكيل التي تعرضوا لهم على أيدي الشعوب الأخرى. فكلما واجه الشعب الكوردي مخطط ما يستهدف وجوده و مقوماته، إنتفض في وجه أعدائه، مسطراً ملاحم بطولية من الشجاعة و التفاني، إستحق عليها، إعجاب كتاب التاريخ.
و لعل من المفيد، في هذا السياق، التذكير بسياسة الكيل بمكيالين، و التي تجد صداها في سياسات و ممارسات الحكومة التركية. فمن جهة، يصرح رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان، بضرورة حل المسألة الكوردية بشكل ديمقراطي، في حين أن إجراءات الدولة التركية، و الحديث عن قانون مكافحة laquo; إرهاب raquo; حزب العمال الكوردستاني، يؤكد من جهة أخرى على إستمرار النظام التركي في معالجة المسألة الكوردية من منطلق أمني محض. فحزب العمال الكوردستاني، و إن إختلف العديد من المتابعين مع سياساتها، يشكل الحركة السياسية و العسكرية الرئيسية في المجتمع الكوردي في تركيا، و قاد صراعاً دامياً مع قوات الأمن و الجيش التركيين على امتداد عقدين من الزمن، من أجل إقامة دولة كوردية مستقلة للشعب الكوردستاني في laquo; جنوب شرق تركيا raquo;. فضلاً عن أن حزب العمال نفسه، لم يتنصل في مسيرة صراعه مع الدولة التركية، من سبل حل المسألة الكوردية عبر الحوار و التفاوض السلمي، و أعلن في سبيل توفير فرص نجاح حل المسألة سلمياً، وقف وإطلاق النار من طرف واحد، و لعدة مرات. و لكن الدولة التركية رفضت كل العروض، و افشلت كل المساعي السلمية، و ماتزال تتعامل بمنطق العصى مع الشعب الكوردي، الذي تجلى في ممارسات قوات الأمن التركية مع الإحتجاجات العارمة التي إجتاحت كافة المناطق الكوردية في تركيا، من خلال ممارسة العنف ضد المواطنين الكورد، الأمر الذي أسفر عن سقوط العديد من القتلى و الجرحى و اعتقال المئات.
لهذا، ليس من قبيل المبالغة في شئ، أن نشير الى، أن النظام التركي يواجه مأزقاً حقيقياً في التعامل مع المسألة الكوردية، من زاوية تنصلها و تجاهلها لجوهر القضية. فتركيا التي فعلت المستحيل من أجل قبول أوروبا ببدء المفاوضات معها للإنضمام الى الإتحاد الأوروبي، ستواجه، من الآن، فصاعداً، تشديداً اوروبيا ً، غير مسبوق، في مسألة تعاملها مع الشعب الكوردي و حقوقه القومية و الثقافية المشروعة، وفق القوانين الدولية، و معايير كوبنهاغن، و ستجد نفسها، علاوة على ذلك، في مواجهة العديد من المطالب الأوروبية ذات الصلة، بالحريات العامة و حقوق الأقليات، في التعبير عن نفسها، ثقافياً و حضارياً. تركيا التي وقفت ضد المشروع الأمريكي في العراق، و منعت إستخدام أراضيها، لدخول القوات الأمريكية و البريطانية الى العراق، سوف تجد نفسها، من جهة أخرى، معرضة أكثر لإستغلال ملفاتها الداخلية، و لعل تغاضي الإدارة الأمريكية في العراق عن تواجد قوات حزب العمال الكوردستاني في إقليم كوردستان العراق، بمحاذاة الحدود التركية، ما هو إلا دليل على تبعات و نتائج الرفض التركي لسياسة القوة الأعظم في العالم.
و عليه، فإن من واجب النظام التركي، الذي يضطهد الكرد، و يهضم حقوقهم، أن يتعظ من عبر التاريخ و مدلولاته، من خلال فتح صفحة جديدة في ماهية و كيفية التعامل مع المسألة الكردية. فحل القضية، اليوم، عبر الحوار و التفاوض السلمي مع ممثلي الشعب الكوردستاني في تركيا، للوصول الى صيغة شراكة عادلة، تضمن الإعتراف بالهوية القومية الكردية، و تقر بحق الكرد في ممارسة تمايزهم القومي و الثقافي في إطار الدولة الواحدة التي تجمع كل مكونات المجتمع التركي، إنما يشكل السبيل الوحيد للخروج من عنق الزجاجة، و الإنطلاق الى مرحلة من الإستقرار و الأمن في تركيا.

زيور العمر

* كاتب كوردي من سوريا
10-04-2006