تماما كما هو الإعلان وسيلة تسويق سلعي من الدرجة الأولى فالاعلام هو وسيلة تسويق فكري أيضا من الطراز الأول رغم أن هناك ترفعا من الباحثين والمعنيين عن النزول بالصورة السامية للإعلام إلى هذا المستوى من المقارنة بين الأفكار والمباديء السامية والأهداف العظيمة للشعوب أو للطبقات الحاكمة أو المحكومة إلا أن الحقيقة التي لا يمكن لغربال أن يخفيها هي هذا التشابه الكبير بين الدور المباشر والحقيقي للإعلام والدور الذي يقوم به الإعلان وتغيير الحرف الأخير لا يمكن له أن يلغي تطابق الدورين أبدا وان اختلفت الأهداف المرجوة من الإعلام عن الأهداف المرجوة من الإعلان, وقد اعتاد منتجي السلع على تقديم الإعلان والترويج عن أي شيء آخر من مكونات السوق لدرجة تصل في بعض الأحيان إلى تقديمه على المنتج نفسه, وحين يسال اقتصادي ناجح عن سبب نجاحه الذي يعني في واقع الحال نجاح سلعته عادة ما يجيب بان مرد ذلك لسياسة الإعلان والدعاية الناجحة التي ينتهجها ويرصد الاقتصاديون الناجحون ميزانيات ضخمة للإعلان لكي يتواصلوا مع جمهور مستهلكيهم, وآيا بلغت مستويات نجاحهم فهم يحرصون على مواصلة ذلك خشية أن تتمكن سلعة جديدة أخرى من الحلول مكان سلعتهم وإخراجهم من السوق.
هذه المقدمة جاءت للقول بان الإعلان الناجح والذي يعطس نتائج ناجحة وجيدة لا بد له من سلعة كذلك حتى يتمكن من تقديمها, فلا إعلان دون سلعة آو منتج, ولا نجاح لإعلان وترويج دون سلعة قادرة على تقديم نفسها للمستهلك عند وصولها إليه, فما يقوم به الإعلان هو دفع المستهلك للوصول إلى تلك السلعة بعينها وعند ذلك تصبح السلعة ومواصفاتها هي الأساس ويصبح المستهلك أو المستخدم للسلعة سيد الموقف فإما أن يقرر مواصلة العلاقة مع هذه السلعة ويحترم الإعلان الذي أوصله إليها أو يتوقف عن ذلك كليا ويأخذ موقفا سلبيا من السلعة ومنتجها ومروجها.
الأمر نفسه ينطبق على قضايا الشعوب دون تسخيف للأمر كما قد يعتقد دهاقنة السياسة الذين يرون في السياسة مباديء ومثاليات لا يجوز تشبيهها بالسلع الاستهلاكية أو ما شابه والحقيقة أن ما يقوم به الإعلام اليوم هو هذا الدور بالضبط فالإعلام الغربي يسعى وبكل طاقاته لترويج السياسة الغربية لدى الشعوب الأخرى ومن تابع تطورات السياسة الأمريكية في قضية العراق منذ احتلال الكويت وحتى اليوم يرى بوضوح كيف حرصت الإدارة الأمريكية على ترويج فكرتها عن العراق وقيادته آنذاك, فالإدارة الأمريكية من جانبها قدمت كل التبريرات للاحنلال العراق لكونه يشكل خطرا وتهديدا للسلام العالمي ولأمن الأسرة الدولية ولكونه يشكل تهديدا مباشرا للاستقرار في المنطقة والعالم لما يملكه من أسلحة للدمار الشامل واستخدمت ماكينة كذبها بشكل محترف وتمكنت من تغطية حقيقة الأهداف القذرة التي تسعى إليها ضد العراق والمنطقة يأسرها وفي المقابل لم يتمكن الحلف المواجه للإمبريالية الأمريكية من التوحد في مواجهتها ليس على الأرض فقط ولكن حتى في اللغة والإعلام وبدل لان نتمكن من فضح زيف إعلامهم ونستخدم الإعلام بشكل محترف في سبيل ذلك راح العراق يدفع الملايين لصحفيين مأجورين في معظمهم لا هم لهم سوى ما يقبضون رغم ان ما دفع لهؤلاء الذين تبخروا تماما كمطر الصيف بحثا عن دافع آخر فور سقوط بغداد كان بالامكان استخدام وسائل الإعلام الغربية نفسها وتجاريا لفضح الكذب الأمريكي.
اللغة التي استخدمتها الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة تركزت على كلمات مثل، الاستقرار, الديمقراطية, الحريات, حقوق الدول والشعوب بالأمن داخل حدودها, وهذه المفردات تستهوي البشر أينما كانوا وتجد آذانا صاغية لها, وفي المقابل استخدم نظام صدام حسين آنذاك شعارات مثل, حق العراق بالكويت وراح يجد للاحتلال تسميات وتسميات لا يمكنها أن تغطي حقيقة ان هناك بلد عربي يسعى بلد عربي آخر لشطبه عن الخارطة وبدت الأمور مقلوبة رأسا على عقب العراق كبلد عربي قومي مناهض للإمبريالية والصهيونية والاحتلال يحتل بلد عربي جار له ويستخدم الهجوم على إسرائيل مبررا للاحتفاظ بالكويت هكذا هو الأمر إذا لم تتركوني في الكويت فسأقصف تل أبيب والمعنى إذا تركتموني ساترك تل أبيب بحالها!!!!!, هل يمكن القول أن هذه هي قومية المعركة, هذه هي أم المعارك, وكذا فان العراق التزم الصمت تجاه الاتهامات الموجهة له بامتلاكه أسلحة للدمار الشامل, بل وأعطى كل التلميحات بأنه يمتلك ذلك فعلا وهذا ما جعل الأجواء الدولية وبشكل شبه تام مهيأة للانقضاض عليه وهكذا حصل فقد كانت خزائن صدام السرية فارغة من كل محتوى ليس أسلحة الدمار الشامل فقط بل وحتى السلاح العادي على ما يبدو, وببساطة مستهجنة سقط النظام أمام أول دبابة أمريكية دخلت بغداد وسقطت نفس الشعارات التي حملها وزير إعلامه سعيد الصحاف دون مضمون وتذكر العرب حكايات احمد سعيد قبيل هزيمة عام 1967م, واليوم هناك من يقول عكس ذلك وان السلاح موجود وما يثبت ذلك هو هذه المعركة العظيمة التي تخوضها المقاومة العراقية والتي يعتبر الجيش العراق وبحق مادتها الأساسية والسؤال إذا كان الأمر كذلك فلماذا لم نحمي العراق من الاحتلال بدل أن نقضي الأعوام في مقاومته.
قد يقبل المتلقي روايتك عن السلعة التي تبيعه إياها لكنه سيلقي بك وبها عرض الحائط فور اكتشاف كذبك إن كنت تقدمها بما ليس فيها, ولذا حين جاء سقوط النظام العراقي سهلا جاء الانهيار في تركيبة كل من وقف إلى جانب النظام وبدأ الجميع يترنح من هول الصدمة وسقطت لغة بكاملها لأنها كانت دون أساس, فأنت حين تسوق تجمل ما هو موجود أو تضخمه لكنك لا تختلق كذبة من الهواء وتسعى لتحويلها إلى حقيقة ولا يمكنك استخدام الكذب في دعايتك إلا في حال واحد إذا كان من يقف أمامك غائبا كما هو الحال في الكذب الذي تمارسه أمريكا وإسرائيل ضد كل قضايا العرب وفي المقدمة فلسطين والعراق ولبنان والسودان وضد كل قضايا المسلمين ومنها ايران وماليزيا والصومال وأفغانستان وضد كل قضايا التقدم في العالم وفي المقدمة فنزويلا وكوبا وتشيلي وغيرها الكثير الكثير, وأنت حين تسوق لا تتوجه قطعا لجمهور العاملين في إنتاج سلعتك ولا لأفراد أسرتك والا فلا داعي أصلا لكل عملية الترويج فالمطلوب منك أن تتوجه لجمهور السلع المنافسة لكي تستميلهم وتقنعهم بأحقية منتجك بالسوق أكثر من أي منتج آخر وكذا الأمر في عالم السياسة والصراعات الدولية وقضايا الشعوب وحال الأمة العربية هو الحال الأسوأ بين أمم الأرض في هذا الأمر.
السؤال هو ماذا نسوق نحن للعالم ومئات الفضائيات العربية التي تملأ فضاء العالم العربي والعالم ماذا تنقل للبشرية ولنا, هي أصلا لا تنقل للبشرية شيء فهي معدة لنا وحدنا أي أننا نسوق ذواتنا لذواتنا كما قد نعتقد في حين أن الأمر عكس ذلك كليا, نحن بأيدينا نسوق الآخر فينا هذه هي الحقيقة, فحين تكون لديك كل هذه الوسائل الإعلامية المتاحة وكل هذا الوقت الذي يحتاج لمادة تملأه ولا يكون لديك شيئا حقيقيا لتقدمه فأنت قطعا ستجد نفسك فريسة ما ينتجه الآخر لتملأ وقتك شكلا ولتقدم غيرك مضمونا.
بلدية أبو ظبي وحدها تمكنت من استخدام سيارات التاكسي في نيويورك لنشر رسومات تشجع السياحة هناك وهذه خطوة رائدة في استخدام وسيلة اعلانبة لدى الآخر للتأثير به نحو تحقيق هدف معين وهو جذب السائحين إلى مدينة أبو ظبي والسؤال هو أين يغيب هذا التفكير الخلاق في قضايانا القومية ولماذا لا نبدع ذلك لنشر الحقيقة المغيبة أمام الرأي العام الغربي وبكل الوسائل الممكنة.
محطات عديدة تقدم السينما الغربية على مدار الساعة وكذا المسلسلات التلفزيونية والأفلام الوثائقية والتاريخية بل وحتى البرامج الحوارية وحتى الآن لم يرقى برنامج عربي حواري واحد إلى مستوى العالمية أو القومية كما يحظى برنامج مثل دكتور فيل مثلا آو برنامج المقابلات الشهير أوبرا ورغم أن هذين البرنامجين لا يقدمان لمجتمعاتنا ما هو مفيد أبدا إلا أن لهما جمهور عربي واسع جدا وخاصة في أوساط الشباب وقد تكون نجمة التلفزيون باربارا اشهر من أي مقاوم عربي في أوساط الشباب العربي اليوم وكل من يراقب تلك المحطات ويقوم بعملية إحصائية فهو سيجد برامجها على نوعين الأول ذاتي محدود يتم انتقاءه على قاعدة مواكبة موقف الممولين للمحطة أو أصحابها أو البلد الذي يستضيفها وفي غالب الأحيان لا يسمح للرأي الآخر عربيا أن يظهر على محطته إلا من باب التسخيف وإذكاء نار الفتنة والجزء الثاني من البرامج وهو الأكبر يتراوح بين برامج وأفلام ومسلسلات مترجمة لكنها تسوق للفكر الغربي بمجملها وحتى تعريب بعض البرامج كبرامج المواهب الفنية في حين يغيب كليا برنامج إبداعي حقيقي يعطي الفرصة لتطوير ما هو عربي حقيقي وفقط يمكن اعتبار برنامج أمير الشعراء نموذجا يحتذى رغم عديد الملاحظات عليه وكذا نحن بحاجة لبرنامج عالمي وسينما عالمية وإعلام عالمي بلغة العالم ومن خلال قضاياه, إعلام ينتمي لمن يوجه له بالمضمون ولا يعتمد التلقين أو الفرض, إعلام يتقن قراءة الآخر في سبيل تقديم الذات ولا يلغي الآخر مدعيا نه مجبر على قبول ذاتي لكوني مقتنع أنني الأفضل وانه أي الآخر الأسوأ والسؤال هو كيف يمكن لمن أخاطبه بالهجوم عليه أن يقبلني ويقبل روايتي أنني الأفضل, لذا فان هذه المماحكة بيننا وبين الآخر عادة ما تأتي بنتائج عكسية بحيث تلغي كل جدران بيوتنا أمام ريحهم وترتفع جدرانهم أمام ريحنا الغير موجوده أصلا وعلى المراقب ان يلاحظ الفرق بين لغتين( لغة تقول يجب قتل النصارى والصليبيين واليهود وفي المقابل لغة أخرى تقول يجب محاربة الإرهاب أينما كان وتوحد بسبب خطابنا السابق بين الإرهاب والعروبة والإسلام) في حين أن بالامكان قلب الصورة وهو المفترض لتصبح كالآتي (لغتنا تقول أننا نحن العرب والمسلمين ورثة الأديان السماوية جميعا وأننا لذلك الأحق بمقاومة كل من يسيء إلى الأديان السماوية جميعا من دعاة الاحتلال والعنصرية وممارسي الإرهاب الرسمي في احتلال أراضي الغير ونهب ثروات الشعوب) ولو أننا استخدمنا هذه اللغة فعلا في خطابنا وتمكنا من إيصالها فأي لغة سيجد جورج بوش ليخاطب جمهوره بها وأي لغة ستجد الحركة الصهيونية والمسيحيين الجدد بزعامة بوش لمقاومة لغة تقول بان المسلمين والعرب هم حماة التراث العظيم للأنبياء العظام جميعا وان بوش وحلفاؤه هم الأعداء الحقيقيين لموسى وعيسى عليهما السلام.
نحن أمة أفراد نغلق ذواتنا على ذواتنا في سبيل فرديتنا المطلقة وبادعاء اجوف عن جماعية غير قائمة إلا بالألفاظ وبالمقابل نحن أمام عالم آخر يعلن فرديته ويفتحها على الدنيا في سبيل الكل الأوسع والأبعد من الذات المنغلقة لأنه على قناعة أن نجاح العام وتطوره هو في واقع الحال نجاح للخاص ولتطوره وكلما تمكن الفرد من تحقيق النجاح لذاته الجماعية كلما تمكن من إنجاز تطور الطرفين بشكل تلقائي.
نحن نعلن في لغتنا عن أهمية الجماعة والتفاني في سبيلها ونكرر ذلك في خطابنا شعرا ونثرا وموسيقى وحين نصل إلى المحك تنقلب الأمور رأسا على عقب وتظهر الانا الفردية المنغلقة على حقيقتها لتغلق أي وجود للجماعة, والسؤال هو كيف يمكننا بهذه العقلية أن نذهب إلى الآخر إذا كنا غير مستعدين لوجود الآخر الأقرب المشارك والذي نحتاجه لأي مواجهة أيا كان نوعها ومن يسمع منا خطاب العشيرة كذا ضد العشيرة الأخرى يصاب بالغثيان والعشيرة هنا هي الحزب والجهة والعائلة وحتى الدولة القطر آو الدول الإقليم إن جاز التعبير فعروبتي هي لصالح شاميتي التي بدورها تصغر أمام فلسطينيتي ثم عشيرتي وحتى ذاتي الفردية وليس العكس.
من مصلحة الفرد أن يفتح البوابات لفرديته ليجد لها مرادفات ومكونات ابعد وأوسع بالمفهومين المادي والمعنوي وفي حالتنا نحن نتصاغر فنعلن مثلا أننا امة الإسلام ثم نكتشف إنها كبيرة علينا وقد يسرقها منا احد ما فنتراجع إلى أهل السنة فنتذكر أن من بين أهل السنة من بات يقطع أشواطا ابعد على طريق التقدم فيعجبنا من القرآن الكريم لغته العربية ونبدأ بانتقاء ما يبرر انعزاليتنا لنصبح قوميون عرب وحين نجد بين جوانحنا عربا اقحاح وليسوا مسلمين نعود لتصغير أهل السنة إلى من هم عربا منهم ثم نصر على التصاغر أكثر إلى أهل الشام أو أهل الخليج آو وادي النيل أو شمال إفريقيا ثم فلسطينيون نصرخ بالآخرين أين انتم حين نحتاجهم وحين يصير العكس ينعكس الصراخ نفسه ونكتشف أننا أنفسنا لا نسمع فنتصاغر إلى القرية أو المدينة أو الحي أو البيت حتى الفرد الصغير التافه المنعزل كليا عن الدنيا.
هذه هي عدتنا التي من المفترض أن نفتح بواباتها على أكثر من ستمائة محطة فضائية ومثلها من الإذاعات والصحف وآلاف مواقع الانترنت وجميعها تقدم نفس هذه البضاعة الفاسدة, دون أن نحاول على سبيل المثال إيجاد محطة واحدة بلغة الآخر كي نتوجه بها إليه لنقدم ذواتنا لو أن لدينا ما نقدمه وإذا حصل وفعلنا فنحن نصدر صحيفة إنجليزية في حاراتنا ليقرأها من يعتقد انه يتقن لغة ألآخر لفظا لا أكثر وإسرائيل وحدها وهي الدولة المزعومة على حد تعبير الفن اللفظي العربي تملك محطات تلفزة وراديو وصحف ومواقع انترنت عربية وموجهة للعرب, والفلسطينيون وحدهم يعرفون مدى تأثير الإعلام الصهيوني على العقل العربي وخصوصا الفلسطيني وسأضرب أمثلة حية عن ذلك لتقريب الأمر:
bull;إسرائيل تستخدم في إعلامها كلمة سكان للإشارة إلى المواطنين الفلسطينيين على أرضهم فتقول سكان الضفة الغربية مثلا وهناك اليوم الكثير منا يردد هذه الكلمة دون أن يدرك مدلولاتها ولماذا تستخدمها وسائل الإعلام الصهيونية.
bull;إسرائيل تصنف الأسرى الفلسطينيين إلى أصناف فتصف بعضهم بالملطخة أيديهم بالدماء وقد حدث أن أخطا العديد من الفلسطينيين بهذا التعبير وحتى على وسائل الإعلام.
bull;في خطابنا الإعلامي نجد الكثير في أوساطنا إن لم يكن الغالبية السائدة نقدم أنفسنا على أننا امة تعشق الموت في عالم أكثر ما يمقت مثل هذه اللغة ومقابل عدو يعلن عن تمسكه بالحياة بكل مناسبة وعادة ما يشاهد المواطن الغربي على شاشات التلفزة مشهدين باتا أليفين له وهما أم شهيد فلسطيني تزغرد وأم يهودية تبكي فقيدها ثم نتساءل لم لا يؤيدنا العالم.
bull;العالم يجد نفسه مضطرا للمقارنة بين خطابين الأول عربي عالي الصوت تهديدي عنيف بلا مضمون والثاني صهيوني يقدم نفسه على انه الذبيح المظلوم ويساعده في ذلك اللغة التي نستخدمها نحن ضده وعن ذواتنا.
والأمثلة تطول ونحن هنا إذن أمام نموذجين الأول من نمثله نحن وهو نموذج يشبه الطبل أو البالون المنفوخ منغلق ذاتي يخشى الآخر فلا يسعى للانفتاح عليه وفي نفس الوقت لا يتقن أبدا ولا يمكنه إغلاق شبابيكه أمام الريح العاتية التي يطلقها الآخر المنفتح الذي لا يخشى شيء بل هو مستعد أن يأتي إليك ليسرق ما لديك ليس ماديا فقط بل وفكريا وليدعيه لنفسه علنا مقتنعا انه الأجدر بوراثة الفكر الإنساني لأنه الأقدر على تطويره وتفعيله.
وحدها الأمم الفاعلة والمنتجة للثروة المادية من يمكنها صياغة ثروة البشر الفكرية وهي حين تملك ما تسوقه ماديا تجد نفسها تلقائيا مالكة لأدوات الإنتاج الفكرية للمساهمة بسيادته وعادة فان أولئك الذين يتقنون الاستهلاك يجدون أنفسهم مجبرين على استهلاك الفكر تماما كما يستهلكون المنتوج المادي, فحتى تتمكن من صياغة منظومة فكرية متماسكة وقادرة على الحياة فأنت بحاجة إلى ما يلي:
bull;أن تكون مشاركا فاعلا في إنتاج الثروة المادية للبشرية حتى تملك الحق والقدرة على المشاركة بصياغة وإنتاج الثقافة والفكر والإبداع الإنساني.
bull;أن تكون مستعدا لتقبل الآخر ومعتقدا بان الفكر الإنساني لا قومية له وان إبداع البشر للبشر جميعا ووحده الفاعل والمنتج من لا يخشى إنجازا إنسانيا بعيدا عنه ما دام قادرا على الاستفادة منه وتطويره بما يخدم رؤيته وقضاياه وعلى سبيل المثال فان تكنولوجيا الإعلام لدى الغرب قدمت لهم فائدة عظيمة في تسويق حضارتهم ونحن نملك القدرة على الاستفادة من ذلك في نفس الوقت الذي يأتي فيه من يقرر اعتباطا أن التلفاز مثلا حرام وبدعة من عمل الشيطان.
bull;أن تحمل رسالة إنسانية واضحة ومحددة وقادرة على الحياة وان تدافع عنها وتصوغ رؤاها بما يكفي لحشد أوسع ما يمكن من البشر من حولها بغض النظر عن لغتهم وجنسهم وقوميتهم.
bull;أن تدرك أن لا وجود لمسالة إنسانية مكونة من طرف واحد وان أطراف القضية الفلسطينية على سبيل المثال هي الفلسطينيون والحركة الصهيونية والولايات المتحدة والعرب وإذا لم تتوجه لهذه الأطراف جميعا بما فيها جنود الاحتلال مثلا فأنت تغلق الدنيا على نفسك فما هي المشكلة مثلا في أن تقوم الحركة الوطنية الفلسطينية بتوزيع منشورات وإصدار نداءات باللغة العبرية لجنود جيش الاحتلال أو حتى لجمهوره المدني وذوي الجنود الذين ينكلون بالفلسطينيين.
bull;أن تملك لغة العصر القادرة على الحياة فالعالم اليوم مقتنع اشد الاقتناع بحقوق الطفل في حين يأتي البعض لدينا ليدفع بالأطفال إلى المعركة وليقدمهم إعلاميا على أنهم جنود ببزات عسكرية وأسلحة وكثيرا ما نتحدث عن ضحايا الاحتلال من أطفالنا بألقاب مثل الشهداء الأبطال ونلصق بهم أعمالا عسكرية لا وجود لها في واقع الأمر.
bull;أن نرقى في علاقاتنا الداخلية إلى نظام المواطنة الذي يوحد الحقوق والواجبات للجميع ويفتح الأبواب على مصراعيها لصالح الحق بالاختلاف وممارسته فكرا في سبيل تطوير الأداء الجماعي, والمواطنة نظام العصر القادر على إلغاء الفوارق التي تعطي الحق لمن يصر على وجودها بالتفكير بإلغاء الآخر ومن ثم تحويل هذه الفكرة إلى سلوك على الأرض منفذا لفكرة إلغاء الآخر فكريا وماديا.
أطراف العملية الإعلامية ثلاث منتج ومتلقي وواسطة والمكونات الثلاث متداخلة مكملة لبعضها البعض فالمنتج في الأصل هو المتلقي فيما بعد والواسطة عادة ما يكون منحازا بهذا الشكل أو الآخر لأحد أطراف الحدث والمنتج في واقع الأمر هما أطراف الحدث ويملك كل منها القدرة على نقل الحدث برؤيا مختلفة عن الآخر والنقل يجب ان يملك القدرة على إفشال المكون الآخر للحدث وعكس ذلك يصبح الناقل خادما لضده دون ان يدري, والإعلام في عصر الثورة الرقمية جعل من العالم قرية صغيرة فلا يمكنك التحدث عن لغتين في الإعلام لغة للداخل ولغة للخارج فلا داخل أصلا فكل الأبواب مشرعة اليوم أمام الجميع فما تقوله في حارتك الصغيرة يصل الى العالم قبل بيوت الحارة وقد يستخدم للرد عليك ويصبح الرد هو الأكثر انتشارا وتأثيرا وأنت لا زلت في سباتك البيتي.
الاعلام الناجح بحاجة ان يملك القائمون عليه القدرة على الاجابة على ثلاث اسئلة مهمة وهي:
1- من انت؟
والسؤال موجه قطعا لمن يرغب بالقيام بعمل اعلامي محدد لتقديم نفسه.
2- ماذا لديك؟
وهذا يعني باختصار انه ينبغي ان يكون لديك ما تقول بالمعنى الفكري والبرامجي وكل المبررات الضرورية للقيام بالعمل الاعلامي.
3- لمن تتوجه؟
اي ان الرسالة التي ترغب بتوجيهها يجب ان تستهدف جهة او فئة او مجموعة بشرية ما.
واذا لم تكن تملك القدرة على الاجابة على هذه الاسئلة ولا تملك مبرراتها والمادة الضرورية لتقديمها فانت قطعا ستجني العكس وستقع فريسة الآخر الذي يملك الاجابات الواضحة على تلك الاسئلة وقادر على التوجه اليك ومعني بذلك.
الامة العربية والفلسطينيين في المقدمة لم يتمكنوا بعد من الاجابة على السؤال الاخطر من كل ذلك وهو ماذا تريدون, بل ان بالامكان القول ان العقود السابقة كانت تحمل اجابات ما ولو جنينية على هذا السؤال اما الآن فن هناك تراجعا خطيرا عن القدرة على ادراك الذات واهدافها وبالتالي فان هناك استحالة ان تملك القدرة على التوجه للآخر المعادي والاقدر ما دمت لست قادرا على معرفة ذاتك ومضامينها واهدافها بل وحتى تحديد المعنى المادي للذات تلك وابعادها.
عدنان الصباح
التعليقات