بعض مشاهد دراما السياسة اللبنانية الحالية،هو الإقامة الجبرية لقوى 14 آذار في فندق فينيسيا ببيروت، حيث هم أسرى الوضع الأمني إلى أجل غير مسمى، وبعضه أيضاً تعكسه حركة الوفود الدولية القادمة المبتسمة إلى بيروت والخارجة منها المتجهمة،على أمل زحزحة تمترس الأطراف الداخلية من مواقعها وحلحلة مواقفها والإتفاق على رئيس جمهورية جديد أصبح حلماً في حياة اللبنانيين، وفي زحمة تلك الوفود والأزمات والإستعراضات والتصريحات،لازال الدخان الأسود يتطاير من مدخنة بكركي،وأكثف منه من عمامة قوى المعارضة ومدخنة قصر بعبدا حيث الرئيس إميل لحود يمضي أواخر أيامه ذهاباً وإياباً حالماً بقدر جديد يبقيه في قصر الحكم ولو كمومياء متحركة، وكل هذا البعض يشترك في أنه يلف ويدور في الفراغ العجيب،ولم يصل إلى الإتفاق على الوفاق الرئاسي المطلوب، والحال كذلك في هذا الصمت المتوتر واللقاءات المتوترة والمتواترة وحيرة الجميع الذين بدوا يضربون كفاً بكف من شر مستطير يلوح أمامهم، إلى أن جاء خطاب حسن نصر الله في يوم الشهيد،فقلب الطاولة على جميع الأطراف الداخلية والخارجية، بل كسرها،ووضع لبنان أمام خيارين أحلاهما مر، الأول وضع لبنان على فوهة بركان يغلي منذ أمد طويل، أو التسليم بخيار واحد أحد لاسواه كما يريده حزب الله،أو بالأحرى كما تريده إيران بالتحديد.
والجديد في خطاب حسن نصر الله هو نقل مواقعه من حالة الدفاع والحوار إلى حالة الهجوم والقطيعة مع كل الأطراف ومن حالة الحرص على التوافق واحترام رأي الآخرين، إلى توجيه الأوامر العسكرية الصارمة إلى أصدقائه وخصومه على حد سواء،وكأنه أصبح الآمر الناهي بأمر الله في لبنان الأسير، ورغم تعويم الحالة اللبنانية في حالة الفراغ، أراد حسن نصر الله أن يعطي الإشارات العلنية غير المشفرة هذه المرة والمفهومة من الجميع وأولهم أصدقاؤه، على أن الإشارة إلى قوى الرابع عشرمن آذار جاءت هجومية فوق العادة وخارج حسابات خط الرجعة بوصفهم علناً quot; لصوص وقتلة وعملاء المشروع الأمريكي - الصهيوني....quot; هذا أولاً، ولاإنتخابات رئاسية في الموعد الدستوري بل الإنتخابات المبكرة ثانياً، ولن يقبل بتطبيق الدستور سوى في حالة واحدة وهي حصول الأغلبية على الثلثين وهو شرط مستحيل في وضع لبنان السياسي الحالي ثالثاً، وعرض قوته بشكل تحدى فيه الجميع في الداخل والخارج وأن سلاح حزب الله أصبح جزءاً ثابتاً من الحياة السياسية في لبنان تترتب عليه معادلات جديدة ثالثاً، وأنه مستعد لخوض حرب وحروب تاريخية على كل الجبهات قد تغير وجه المنطقة رابعاً، والخروج عن الإجماع المسحي بأمر الرئيس الحالي إميل لحود بالتصرف السريع قبل انتهاء فترته الدستورية،أي بالإنقلاب العسكري وتشكيل حكومة جديدة خامساُ، والأخطر من كل هذا هو أنه تجاوز حلفاءه في لبنان وسورية أيضاً بتدويل لبنان وإدخاله لعبة الصراع الدولية مع إيران سادساً وأخيراً.
وعليه كان خطاب حسن نصرالله واضحاً تماماً،تلخصه كلمات معدودة وهي أنه لايريد الإتفاق وهو غير معني به وضمن أية صيغة داخلية كانت، والأمر أصبح مرتبط كلياً بصراع إيران مع المجتمع الدولي، واستطاع ببراعة أن ينقل ملف الرئيس اللبناني من بعبدا ودمشق إلى قم وطهران، بدايته كانت شروط الحوار المستحيلة، وبعدها حرب تموز التي خلطت الحابل بالنابل واحتلال مركز بيروت، وأفرزت الإستقطاب الواضح ومغادرة نواب حزب الله الحكومة، تبعها قفل مجلس النواب وتعطيل المؤسسات الحكومية لتغييب القدرة على اتخاذ القرارات، وفحواها هو تعطيل مرور قرار تشكيل المحكمة الدولية، وانتهاء ً بالوقوف ضد بكركي والإجماع المسيحي على رئيس جديد، ومغازلته المستمرة المزدوجة للعمادين إميل لحود من جهة، وميشيل عون ودغدغة حلمه الوحيد في الجلوس على كرسي بعبدا من جهة ثانية.
ومابين هذا وذاك يبدو أن النظام السوري وضمن حملة الضغوط الداخلية والخارجية وضعفه وطيشه وتهالكه على البقاء في عواصف المنطقة وأعاصيرها، قد أخذ موقف ظاهري متفرج وباطني تضمنه له إيران،ووفر على نفسه سهام الصف الأول في المواجهة، و حسم أمره وتوكل على قدرة حزب الله وجرأته ونزعته الحربجية وصواريخه وسلم أمره كلياً إلى إيران، وتراجع إلى دور خلفي على الساحة اللبنانية، بمعنى أن القرار الإيراني هو الذي بات يحدد قواعد اللعبة اللبنانية،والنظام السوري أصبح دوره تنفيذياً على الأرض بالتعاون مع حزب الله وأدواته على الساحة اللبنانية، وأهدافه ومصالحه قد انضغطت في المصالح الإيرانية الإقليمية والدولية إلى حد بعيد، بعض مؤشراته هو تصريح أحمد جبريل بتكرار مأساة نهر البارد التي لم تجف دماءها بعد، ولم يلملم الفلسطينيون أحزانهم وتشردهم بعد، وذلك بالتمهيد لزج المخيمات الفلسطينية من جديد كحطب وقود في لعبة النظام السوري الإيراني على الساحة اللبنانية.
والحال كذلك وبهذا المستوى من الخطورة، ولبنان لم يبق له سوى بضعة أيام تهزه بعنف نحو مصير مجهول، تبدو كافة الأطراف الداخلية لاحول لها لها ولاقوة في التأثير في مجريات الأمور ونوابها سجناء في فندق فينيسيا، وبكركي غير قادرة على الحسم خوفاً لتكرار ماضي لاتريده،في غمرة هذا التوتر والعجز عن الحسم، تبقى كثرة الوفود الدولية والفرنسية والأمريكية منها على وجه التحديد،توحي بالتشاؤم أكثر ماتوحي بالتفاؤل، ومن نافل القول أن الأطراف العربية تملك بعضاً من التأثير في الأحداث، إذ تبدو جامعة الدول العربية آخر القادمين وآخر المتكلمين،وآخر المؤثرين والمخزي أنها لاتملك شيئاً لتقديمه للبنان في هذه الأيام العاصفة، وتبقى على الجانب الآخر إسرائيل وهي ترقب الصورة بحذر ومناورات وترقب مباشر شديد وهي quot; تضحك في عبها quot; ولسان حالها يقول quot; فخار يكسر بعضه quot;...فهل من عقل تبقى لمن بيدهم بعض الحل والربط...؟!.
وهل اختزل لبنان كله ومستقبله ليصبح بحجم فرد... رئيساً كان أم فقيه؟!.
د.نصر حسن
التعليقات