هذه الحقيقة لا نقررها نحن بقدر ما يعتمد عليها علم الاجتماع الحديث في تحديد مظاهر تخلف الدول والمجتمعات. وفي الحالة الفلسطينية نجد تجسد هذه الظاهرة في أسطع تجلياتها في شخص الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. هذا التقديس الذي يتخذ أشكالا عدة سواء في المجتمع الفلسطيني أو في حركة فتح التي ساهم هو في تأسيسها وقيادتها.

لقد درج الإعلام الفلسطيني حتى الآن على اعتبار توجيه النقد لهذه الشخصية الكارزمية من المحرمات. وغالبا ما يأتي التعرض بالنقد لسياسات هذه الشخصية خجولا أو مسبقا بعشرات الحجج المضادة لمنهج النقد والتي تسهم جميعها في تمييع النقد العقلاني وتجعله أمرا طارئا وعرضيا وليس بذي بال ولا يستحق التوقف عنده. وهذا يعكس وإلى حد كبير ضعف المنهج النقدي لدى الفلسطينيين على كافة المستويات.

وبعيدا عن عشرات المقالات التي كتبها فلسطينيون والتي دبجت في مدح الرئيس أو تلك التي اجتهدت في تعداد مناقبه وحسناته ومواقفه، وبعيدا عن المعتقدات التنظيمية والشعبية التي استندت إلى العقل السلفي والخرافي في جعل شخص الرئيس حجر الزاوية في المواقف الوطنية والتي تقاس على أساسها مدى وطنية هذه الشخصية أو تلك، أو جعل شخصه صماما للأمان سواء في موضوع الوحدة الوطنية أو المفاوضات مع إسرائيل وعدم التنازل عن الحقوق الفلسطينية، فإننا هنا لسنا بصدد تعداد المناقب أو المساوئ بقدر ما نريد تسليط الضوء على العقلية الفلسطينية التي لا تزال تقف على مسافة كبيرة من النهج الحداثي والعقلاني للسياسة في النظر إلى القضية الوطنية. فالعقلية السياسية الفلسطينية عموما لا تستطيع التمييز بين الرمز وبين القضية الوطنية ذاتها، بحيث يتماهى الرمز إلى حد التطابق في الكثير من الأحيان مع هذه القضية وتغيب الحدود الفاصلة بين الاثنين مما يجعل الرؤية الصحيحة أو العقلانية للأمور مغيبة إلى حد كبير.

مثلا، فإن بعض السياسيين يتفاخرون بأن شخص الرئيس كان يشكل صمام الأمان للوحدة الفلسطينية في الماضي، وإن ما فعلته حماس في غزة ما كان ليحدث لو كان الرئيس على قيد الحياة. أن أمثال هؤلاء يتجاهلون بقصد أو بدون قصد ربما أن ضمانة أية وحدة وطنية لأي مجتمع لا تصح أن تكون على أساس من وجود فرد أو رمز قابل للغياب في أية لحظة بقدر ما يكون ضمانة هذه الوحدة في وجود المؤسسات القانونية والدستورية الراسخة التي تحمي حقوق جميع المواطنين وتجمعهم على أساس من الأهداف والمصالح المشتركة، وأن أي رمز مهما علا حجمه لا يمكن أن يكون بديلا عن وجود تلك المؤسسات التي توحد الجميع وتصهرهم في هوية مشتركة واحدة. وربما كان من المهم جدا الآن وأكثر من أي وقت مضى نقد مرحلة كاملة كانت تقودها تلك العقلية التي كان يتصرف الرئيس الراحل على أساسها، والتذكير أنها كانت على الضد من عقلية مشروع دولة المؤسسات، وأنه ليس من الحسن للبدء في مثل هذا المشروع أن تستتبع القرارات الفلسطينية سواء منها العادية أو المصيرية شخصا بعينه مهما حمل هذا الرمز من صفات كارزمية، لأن هذا النهج المدمر في آثاره هو ما أدى إلى غياب العقلية المؤسساتية فلسطينيا لصالح شرذمة من الأفراد الذين استطاعوا مسخ هذه المؤسسات وفقا لاعتبارات مصالحهم الشخصية فقط. أن سيادة مثل تلك العقلية على الساحة الفلسطينية هو أمر كان ولا يزال وجوده خطيرا على مستقبل الفلسطينيين إذا ما كانوا حقيقة جادين ببناء دولتهم على أسس حداثية. فعقلية كل على مزبلته صياح التي اتبعتها بعض القيادات الفلسطينية للتفرد بالمؤسسات، لا يمكنها بأية حال أن تجلب للفلسطينيين دولة حديثة بقدر ما تنتج دولة الفساد والديكتاتورية شانها شأن الأنظمة العربية المجاورة لها، والتي قامت دولها على مبدأ سيادة الفرد ndash;الديكتاتور.

كما ينبغي التقدم خطوات للأمام والبدء بطرح المزيد من الأسئلة على تلك العقلية التي اعتبرت الرئيس- الرمز ضمانة أبدية لعدم التفريط بالحقوق الوطنية، لأن معنى مثل هذا الطرح هو الاعتراف الضمني بالغياب الكامل لضمانات أخرى أكثر ثباتا وديمومة ورسوخا من الرمز الذي يمكن أن يغيب لأي سبب من الأسباب. وهذا معناه الاعتراف ضمنا بعدم وجود جسد فلسطيني قادر على أن يشكل ضمانا لحقوق الفلسطينيين.

إن طرح أسئلة من نوع هل استطاع الفلسطينيون بقيادة عرفات بناء النواة الأولى والصلبة لدولتهم التي يطمحون إليها، أو ما هي العوائق التي ينبغي تذليلها للحصول على ضمانات أكثر ديمومة لوحدتهم ولعدم التفريط بالحقوق الوطنية،أو عن الكيفية التي يتم فيها بناء مؤسسات الدولة الحديثة. مثل هذه الأسئلة وغيرها هي ما ينبغي للعقل الفلسطيني أن يتوجه به إذا ما أراد التقدم خطوات إلى الأمام. أما الوقوف على أطلال الرمز أو التحسر على غيابه أو تغييبه وافتعال البكائيات في ذكرى وفاته فهي من الأمور التي لا تجدي نفعا ومثل هذا التوقف والتحسر لا يعني إلا شيئا واحدا هو أن الفلسطينيين لم يتعلموا ولا يريدون أن يتعلموا من تجاربهم شيئا، وأنهم لم يستوعبوا بعد الطرق الأكثر جدوى والأكثر حيوية في صناعة مستقبلهم على أرضهم وفق قواعد وأسس علمية باتت معروفة ولا تحتاج إلى الرموز لممارستها. فقد تجاوز التاريخ زمن الأبطال والرموز منذ زمن بعيد.

فإذا كان ياسر عرفات قد غيبه الموت، فإن الشعب الفلسطيني لا يزال حيا كما أن الثقة بإمكانات هذا الشعب على اختيار طرقه النضالية على أسس مدنية حداثية لا تزال ممكنة وفي متناول اليد ودون الوقوع مجددا بفخ الرموز.

نادية عيلبوني

صحافية فلسطينية تقيم في فيينا