ثمة ظواهر عدة، وإن بدت فوضوية ولا رابط بادٍ بينها، إلا أنها تعكس وتنبئ بتحولات نوعية وجذرية على المشهد السلوكي والفكري والمجتمعي السوري لم نعهدها من قبل في ظل هذا التغول والسعار السلفي والطالباني الإقليمي الرهيب الذي من شأنه، لو قيض له النجاح، أن يأخذ البلاد والعباد إلى مهالك حتمية، كما أخذ دولاً كثيرة من قبل، وأحالها إلى أطلال إنسانية مقفرة، وما لم يتم التصدي لها بسرعة، وبكل جدية وعلمية وموضوعية تجنيباً للمجتمع من أية خضات أهلية محتملة إذا تركت تجري هكذا في أعنتها، ودون أخذ العبر مما حصل ويحصل في غير مكان.

ولا يمكن، في الحقيقة، لظواهر كتلك أن تمر عادة هكذا، دون ردات فعل متباينة، إلاّ إذا كان الجو العام مهيأً لها، ويتقبلها، ويأخذها على أنها مجرد مسلـّمات مفروغ من أمرها. وإن الصمت الغريب والمريب من كل ما له ومن له علاقة بهذا التحول الخطير، له دلالات مؤلمة تشير إلى نفاذ وتغلغل ثقافة التسطيح، وربما عدم القدرة والرغبة في وقفها ومعالجة فقه الحشمة والحجاب والمنكر والانشغال بالنصف السفلي من جسم الإنسان في عقول وسلوكيات الناس، تماماً كما كان عليه الحال منذ ألف وأربعمائة عام من الزمان، ومن الدوران في ذات الحلقات المفرغة من الحروب العبثية والتي لا طائل منها على quot;الغرائز والشهواتquot; وأستغفر الله، وquot;كأنك يا أبا زيد ما غزيت، ولا رحت ولا جيتquot;.

فبعد سنوات غير قليلة، من الترويج والاستسلام شبه المطلق للفكر السلفي التكفيري، وتغييب شبه مقصود ومحاربة لا هوادة فيها للفكر التنويري والنهضوي العلماني، أصبح، الآن، بإمكان شخص على شاكلة الملا صباح عبيد، أمير الجماعة الفنية في بلاد الشام، والذي يعمل، ولمجرد العلم، في أوقات فراغه نقيباً لفناني سوريا، أن يستصدر فرماناً طالبانياً quot;هابطاًquot; في مضمونه، لم نر مثيلاً له حتى الآن في دوائر الإفتاء في الإمارات الوهابية والطالبانية ذائعة الصيت، ويقضي منع بضع فنانات من الغناء في سوريا بحجة منع quot;الفن الهابطquot;، والتعري وإشاعة الفاحشة بين الناس، والعياذ بالله، متقمصاً بذلك نفس أدوار الوصاية الفكرية والسلوكية التي يمارسها شيوخ التكفير الكبار، وأمراء الجماعات والتيارات الدينية في فضائيات البترودولار دون أي خوف ولا وجل أو استحياء من الانحدار والهبوط نحو هذا المستوى المتدني من الانحطاط الفكري والخلقي والتفكير الغرائزي بإدارة المجتمعات والنقابات. والمضحك في الموضوع، كأن بقية الفنانات اللواتي لم يشملهن فرمان المنع يطربننا، ويتدلعن ويتشخلعن وهن بالنقاب والشادور ويغردن من وراء حجاب؟ هل ثمة ما تبقى من حدود، هنا، للبلاهة والاستغفال؟

كما أن ذاك التمهيد والقصف الفكري المركز، والتعبئة الدعوية، وشيوع ثقافة quot;المطاوعةquot;، أفضى هو الآخر إلى قيام بعض من الشباب quot;المتطرفquot; حسب مراسل العربية، برش مادة الأسيد الحارقةعلى فتيات quot;سافرات متبرجاتquot; (وهذا من عندنا وحسب الخطاب الدعوي الإرشادي التعبوي)، وفي أماكن حساسة من الجسد، وذلك في قلب مدينة دمشق الفيحاء، وليس في قندهار عاصمة خلافة بني طالبان وواليها الملا عمر حفظه الله.
www.alarabiya.net/articles/2007/11/13/41619.html
وكان من تداعيات هذا الحادث الغريب هو دعوة صريحة لشيخ السوري يدعى أحمد رمضان، وهو خطيب بمسجد الشيخ رسلان في منطقة باب توما بدمشق، إلى إنشاء لجنة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!!!. لجنة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي سورية مهد الحضارات!!! لعمري أنها كذبة نيسان؟ أو ربما مزحة سمجاء لإغاظة وتلويع العباد؟ هل بلغت الجرأة إلى هذا الحد بهذا الشيخ للتطاول على مشاعر الناس واللعب بأمنهم والمتاجرة بحرياتهم الشخصية التي منحهم إياها القانون والدستور والمواثيق والأعراف الدولية؟

وقد بلغت ذروة ذاك الاستفشار والهجوم السلفي على ما تبقى من بنى وهياكل نهضوية تنويرية في سوريا تجرؤ أحد التكفيريين، ويشغل رئيس تحرير مجلة الاجتماعية quot;المرخصةquot;، على إطلاق دعوة علنية ومن منبر مجلته quot;المرخصةquot; لـ quot;التبولquot; على كاتب علماني وتنويري وهكذا علناً. هل قلنا التبول؟ نعم ليس ثمة خطأ في المصطلح، في مجتمعات باتت تعيش أيضاً وتتبرك بالبول وتشربه وتشيع ثقافته وتتقبلها!!! وبما يشير إلى ذاك الانحدار والانحطاط الفكري الذي بدأنا نستشعر بعضاً من جوانبه عبر هذه الترهات والرثاثة والإسفاف.

ومن سمات ذاك الانقضاض الطالباني الموجه، أيضاً، مهاجمة خطيب جامع النور للسيد وزير الإعلام في إحدى خطبه، وذلك بسبب عدم الامتثال لطلبه بالسماح ببث خطبة الجمعة عبر أثير الشاشات الوطنية، وquot;الدعاءquot; بشكل عفوي وعادي جداً على السيد الوزير بعد إدامة الوزارة عليه، تماماً كما يدعو بالفناء والموت في صلواته على الكفار. ولا ندري، هنا، إن كان الله والقيادة سيستجيبان لطلبه، طالما أنه لا يوجد حتى الآن أية نية سورية جدية للتغير الوزاري. ولن نعرج على ازدهار وشيوع فكر quot;القبيسياتquot; الرائج حتى في أوساط الطبقات المخملية النسائية ناهيك عن الفقيرات المستسلمات أصلاً والمتعلقات بحبال الوهم والمنجرّات أوتوماتيكياً للتعلق بالغيب والأوهام طالما أن أحلامهن لم تتحقق في الواقع والحياة. الفكر quot;القبيسيquot;، نسبة للآنسة منيرة القبيسي، الذي يهدف ويمثل في المحصلة إلى إعادة مازوشية للمرأة إلى حظيرة الحرملك والخضوع العبودي المطلق للفقه الذكوري الذي يسلبها إنسانيتها وحقوقها وكرامتها البشرية، ويشكل انتهاكاً قانونيا فاضحاً لمواثيق حقوق الإنسان المعترف بها والتي نهضت بالغرب، وإفلاتاً عقائديا من استحقاقات حضارية ملزمة يجب أن تتحلى بها المرأة، وهو خسارة فادحة ومؤلمة للمكتسبات العظيمة للمرأة السورية التي حققتها عبر تاريخها بعد عصور من التسلط من الممارسات العصملية النتنة ضدها.

إنه الهولوكوست الفكري الكبير والمذبحة العقلية الكبرى؟ فهل ثمة غرابة في هذه الأمور؟ وهل دخلنا في تلك الأنفاق المظلمة التي لا سبيل للخروج منها بدون أثمان وأكلاف باهظة في زمن الجهلة والأميّين والأدعياء؟ وإلى أين يسير ويمضي هؤلاء؟ ألم يئن الأوان لاستصدار القوانين والتشريعات التي تلجم الرداءة والإسفاف؟ وهل هي محض صدفة أن تتضافر كل تلك الحوادث في وقت قصير، بحيث باتت تطغى على المشهد السوري العام؟ في ذات الآن الذي يغيب فيه الحراك الثقافي التنويري والنهضوي ويتراجع خجلاً إلى الوراء فاسحاً بالمجال لضباع السلفية التكفيرية بتبوأ نجومية التصريحات والمنابر العامة، والتي تصب جميعها، أيضاً، وفي نهاية المطاف، ولا بد، في طواحين المعارضة الطائفية التي تنعق ليل نهار على ذات المحور، وتذهب بنفس الاتجاه، مستكملة عملية الإطباق على المشهد العام التي يشتغل عليها آنفو الذكر من هؤلاء، ومستثمرة بخبث ودناءة التنوع والتعددية، لتجييرها لمآرب سياسية محضة، تلك التعددية والتنوع التي طبعت وجه سوريا على الدوام، وكانت مصدر اعتزاز وفخر حضاري لكل سوري عز نظيره في أي مكان، والذي لا نريد أن نخسره من أجل إرضاء أمزجة حفنة من المغامرين والحالمين بالعودة إلى عصور السحر والخرافة والديناصورات.

نضال نعيسة
[email protected]