عقب مغادرتي العراق عام 1991 في عمر بلغ30 عاماً بدأت أكتشف الوطن من جديد، اذ انني ومثل أكثر العراقيين لم نكن نشعر ان هذا الوطن لنا فهو لم يوفر لأبنائه أياً من حقوق المواطنة كالعدالة والمساواة والتوزيع العادل للثروات والديمقراطية، والشيء الخطير الذي حصل لأغلب العراقيين هو زحف كراهيتهم للسلطة وامتداد هذه الكراهية الى الوطن واصبح الناس لايفرقون ما بين الوطن كتاريخ وجغرافيا وممتلكات وحضارة ومعنى، وما بين السلطة القمعية، فقد كان الوطن مملوكاً للمقبور صدام حسيناذ كتب في احد الايام المقبور عدي صدام حسين مقالة قال فيها بوضوح هذه (( دولة والدي )) وكان صادقاً فالعراق أصبح ملكامستباحاًأستولى عليه صدام حسينوأما أبناء الشعب فقد كانوا مجرد خدم وعبيد وجنود يذهبون للموت فداءاً لنظام صدام!



وفي المنفى بدأت أعيد أكتشاف الوطن من بعيد ولأول مرة رحت أطلع على تاريخه، وكانت مفارقة مؤلمة ان مكتبتي الشخصية في العراق لم يكن فيها ولاحتى كتاب واحد عن تاريخ العراق، وفي عام 1992 أخذت اتحدث عن حبي لمدينة البصرة مع بعض اشخاص من أهالي المدينة.



يؤسفني أنني لم أذهب قط في حياتي لزيارة البصرة، فقد كنت أخاف من السفر والنوم في الفندق وانا أحمل هوية تثبت أنني من ابناء مدينة كربلاء ففي زمن نظام صدام كان يجب عليك تبرير كافة تصرفاتك للسلطة وكان من الصعب اقناع الأجهزة الأمنية بأنني جئت في جولة سياحية لمدينة البصرة فهذا النوع من التبرير غير مقنع بالمرة لأجهزة النظام علما كانت قوائم اسماء نزلاء الفنادق تذهب كل صباح الى دوائر الأمن من قبل اصحاب الفنادق الذين أجبروا على العمل كمخبرين لدى أجهزة الامن في كافة المدن!


ولاأدري لغاية الآن ماهياللحظة التي فجرت في نفسي الحب والشوق لمدينة البصرة والحسرة والندم بسبب عدم زيارتها ورؤيتها طيلة حياتي في العراق.


ولكن الذي حصل ان البصرة صارت تمثل لي رمزا حضاريا واقتصاديا هائلاً، فهي ميناء العراق الوحيد وهي أم الخيرات والبركة فيها الثروات النفطية والنخيل والسمك، فالبصرة تشبه الأم الحنون التي ترعى عائلة كبيرة وتحرم نفسها من أبسط الأشياء اذ ان ثروات البصرة تدر بخيراتها على كافة مدن العراق واهلها ولكن مع هذا فهذه المدينة التي تنتج الذهب تعاني من الأهمال والخراب في كل شيء.


والبصرة مركز حضاري رائع فهي بحكم اطلالتها على البحر واحتكاكها بالحضارات المختلفة أصبح المجتمع البصراوي من أكثر المجتعات العراقية ثقافة وانفتاحاً، وسكانها خليط من العرب المسلمين الشيعة والسنة والمسيحيين واليهود والصابئة وكانت رمزاً للتعايش الانساني الرائع بين الجميع، وهي مدينة حقيقية من حيث العمران اذ تجمع ما بين البناء التاريخي القديم والعمران الحديث،وابناء البصرة ينفردون عن باقي ابناء المدن الاخرى في ان أكثرهم يجيد التحدث بعدة لغات أجنبية وخصوصا الانكليزية بسبب عملهم الدائم في الموانيء والاحتكاك بالبحارة الأجانب.



وتمتاز الشخصية البصراوية بميزة جميلة وهي الانفتاح الاجتماعي على الاخر، فالبصراوي شخص اجتماعي من الطراز الاول ويتصف بالمرح والعفوية وعشق الفن بدرجة كبيرة، فأين ما يتواجد البصراوي يحل معه الغناء والموسيقى.


ولعلها مفارقة تدعو الى الحيرة ان تتحول البصرة هذه المدينة المتحضرة والمنفتحة والعاشقة للثقافة والفن... ان تتحول الى مدينة أسيرة بيد القوى الظلامية من الاحزاب العميلة للمخابرات الايرانية ويتم قتل روحها العذبةوأطفاء شعاع نورها!


أن حب البصرة والأحتفاء بها هو واجب وطني على كافة العراقيين، فهذه المدينة صاحبة فضل كبير على الجميع، فمنها ينبع الخير والعطاء والنفط... ومنها يطل العراق على بحار العالم، ومن البصرة يهب نسيم الثقافة والفن والسلوك الاجتماعي الحضاري المنفتح على الاخر... ان البصرة هي روح العراق وقلبه وعقله، وهي أهم مدينة عراقية على الأطلاق، بلهي العراق كله.

خضير طاهر

[email protected]