إلى الراحل الدمث سلطان أبازيد

الدكتور سلطان أبازيد في لحظة وداعه الأخير وهو مسجى على سرير الموت وحيدا في غرفة باردة، ونحن كل بدوره يلقي عليه التحية الأخيرة! أبو رشا وسها تخطى في رحيله عنا ما عمل عليه طيلة وجوده في المنفى وهو أن يجمع كل ممثلي المعارضة السورية في مكان واحد! هذا المكان كان المشفى الذي ودعنا فيه الراحل وفي قبو لا يشبه أي سجن في سورية حيث هناك شاهدت كل مالايجمع معا في مكان واحد وهذا جعلني أقول أن الموت يوحد الرؤى من الحياة هل هذا صحيح؟ سورية التي لم تجد لأبو رشا مكانا ليودع فيها نفسه على الأقل. منذ أيام هروبه إلى لبنان من القمع السوري في نهاية السبعينيات وحتى لحظة وداعه في باريس 31/1/2007 لم يجد ما يكتبه في وصيته سوى أن يدفن في باريس عرفانا لباريس بالجميل من جهة واستجابة لرغبة أبنتيه من جهة أخرى. كان آخر لقاء لي مع أبورشا منذ أقل من شهرين في باريس عندما دعاني أنا وصديق آخر إلى مطعم لتناول [ الكسكس المغربي ] هنالك قال لي ألا تريد أن تترك الدخان لأنه أجبرنا ووفقا لوضعه الصحي أن نجلس في مكان لغير المدخنين وبهذه المناسبة أذكر كيف كان يخبأ علب الدخان التي كان يحضرها معه ابن العم ـ رياض الترك ـ في زيارته الأخيرة إلى باريس حيث نصحه الأطباء بوقف التدخين وابن العم عصبي بعكس أبو رشا لهذا كانت بالنسبة له السيكارة تخفيف شحنة عصبية. ثم أردف بحنيته المعروفة تستطيع التدخين على تلك الطاولة وتعود! قلت له: لا أريد التدخين معك الآن. وكان لحظتها يهاجم هو السرطان الذي يحاول أن ينهش لحمه بوحشية لا تقل عن وحشية المنفى بأحاسيسه المتضاربة. فقد كتب مذكراته وهو يهاجم هذا الوحش المتربص بنا جميعا ولا أحد يعرف متى يأتي ومتى يأخذ حصته من لحم البشر. كتب مذكراته عن حياته وعن عمله الديمقراطي المعارض طيلة حياته من أجل سورية ديمقراطية. أبو رشا قارئ من نوع خاص وكاتب مقل من نوع خاص أيضا! لأنه لا يكتب إلا عندما تصل درجة الاستفزاز لديه من أمر ما إلى السقف. وآخر ماكتبه هو خوفه من حرب شوارعية فلسطينية وتخوفاته وهذا ما حدث بعد شهر واحد او أكثر من كتابته لمقال حول الساحة الفلسطينية. والمفارقة أنه مات والدم الفلسطيني يستبيح الدم الفلسطيني.


كان يهاجم كثيرا وهو لايهاجم أحدا بل يرد على تشوهاتنا الداخلية كمعارضين ـ وخصوصا تلك المتعلقة بالنفاج السوري المعارض الذي لا يرى نفسه إلا بالهجوم على تيارات المعارضة الأخرى ـ يعيدها إلينا ولا يسمح لها أن تدخل إلى روحه السمحة والدمثة. ولا يدخل في صولات وجولات بعض المعارضين بالنميمة والشتائم والتخوين والاتهام بالعمالة لهذا الطرف أو ذاك. وكان يتابع كل ما يكتب عن سورية والمنطقة دون أن يترك شيئا يفوته.


بعد اعتقال الرفيق والصديق فائق المير أبو علي ـ عضو الأمانة العامة لحزب الشعب الديمقراطي ـ رفيق حبستنا الطويلة في سجن صدنايا بدمشق وجلسات [ المتة الطويلة فيه حيث لا يحدها وقتا سوى إغلاق أبواب المهاجع تلك الأبواب الحديدية التي صوتها يجعلك تشعر بسقف الحياة في سورية تلك الجلسات التي تبدأ بالنميمة غير الشريرة وتنتهي باختلاف سياسي كل يوم ونعود في اليوم التالي إلى نفس الطقس ] بعد اعتقال أبوعلي مرة أخرى بعد أن قضى في المرة الأولى عشر سنوات والتهمة الآن الاتصال بالياس عطالله النائب اللبناني عن حركة اليسار الديمقراطي. قلت لأبو رشا مازحا على الهاتف: يبدو أن النظام في سورية يفكر كما يفكر بعض المعارضين وهو إزاحة التيار الجذري داخل المعارضة إما بالسجن أو بأشياء أخرى تتفنن السلطة في سورية بابتداعها. فرد ضاحكا: كل رفاقنا في الحزب ـ حزب الشعب الديمقراطي المعارض في سورية ـ جذريين! وبدون هذا الغمز واللمز!


وأبورشا كان جذريا حتى في دماثة خلقه وكان جذريا في وصيته وفي منفاه.
ودعنا أبو رشا ونحن ننتظر لنقرأ مذكراته التي يجتهد بعض الأصدقاء والصديقات من أجل إخراجها بطريقة تليق بأبو رشا.

غسان المفلح