نبدأ مقالنا بأمل كبير أن يصمد الاتفاق الثامن الذي تم بين حركتي فتح وحماس من أجل التهدئة في قطاع غزة، وأن ينجح لقاء الحوار الذي سيعقد يوم الثلاثاء القادم في مكة المكرمة بين وفدي الحركتين تجنباً لمزيد من الدماء الطاهرة التي سفكت على ثرى الوطن الحبيب، وسعياً وراء إزالة التشويه الذي لحق بنضالنا الوطني وقضيتنا العادلة بسبب اقتتال الأخوة. ومحاولة لتوجيه سلاحنا في الاتجاه الصحيح بعد أن أخطأ اتجاهه، وفقد الغاية التي حُمل من أجلها. وما دفعنا لكتابة هذا المقال هو مقال قرأته لأحد أعضاء المجلس التشريعي الذي يحمل شهادة علمية عليا، ويكتب مقالاً أسبوعياً في إحدى الصحف المحلية. حيث تباكى في مقاله الأخير على أحد شهداء أحداث الاقتتال الداخلي الأخير بين حركتي حماس وفتح. ووصفه بجمال بنيانه الجسمي والخُلقي والروحي، وأنه كان وحيد أمه التي quot;تنظر لحظة إلى القمر ولحظات إليه، وتنتظر بفارغ الصبر قراره بالزواج لتبحث له عن أجمل عروسquot;. ونحن نتفق مع زميلنا الأكاديمي والكاتب ونبكي معه شاباً فلسطينياً يافعاً فقدناه في الزمن والمكان الخطأ، وكنا نأمل أن يرتقي شهيداً إلى جنات الخلد في معركة المقاومة والبطولة مع العدو الصهيوني، ولكن ما لا نتفق مع زميلنا الكاتب هنا هو التباكي على شخص دون أخر ممن سقطوا في الأحداث المؤسفة الأخيرة، بحيث يبدو تميزاً واضحاً بين شخص وأخر، بين دم وأخر. لا اتفق معه في إغداق إنسانيته، وإفراغ حزنه على شهيد دون أخر. فكل شهيد هو غال على أهله، وكل شهيد هو قصة حياة حية متدفقة ونابضة بالشعور والإحساس. وكل شهيد كان كتلة من الأمل في غد مشرق، وكل شهيد كان مشروعاً إنسانياً يمشي على الأرض وعينه ترنو بطموحات كبيرة لنفسه وأهله ووطنه. وكل شهيد هو خسارة لنا جميعاً. إن نعي شخص دون أخر، ورثاء شهيد دون أخر هو ضربة قوية للمواطنة السليمة التي تنظر إلى كل فلسطيني كمواطن صالح في هذا الوطن. وهو تفريق وتشظي يبدو مقصوداً لأبناء الوطن وتقسيمهم إلى ملائكة وشياطين. فهذا شخص رِباني وهذا شخص شيطاني مفسد في الأرض. هذا يحمل في عروقه دم طاهر وذاك يحمل في شرايينه دم فاسد نجس. فالذي لاشك فيه أن الكثير من أبنائنا الذين سقطوا في الأحداث الأخيرة كانوا من خيرة الشعب الفلسطيني، وكانوا ممن ناضلوا، وامضوا في المعتقلات سنوات طويلة من حياتهم، والعديد منهم ممن أصيب برصاص الاحتلال في سنوات الانتفاضة الأولى والثانية. والعديد منهم ممن سهر ليال طوال يحرس مخيمه، ويواجه الاجتياحات الإسرائيلية المتكررة التي قضت على الأخضر واليابس في قرانا ومخيماتنا. لذلك حري بنا جميعاً أن نبكيهم جميعاً دون استثناء، وأن تفجع قلوبنا جميعاً بفقدانهم في نزاع داخلي الجميع منا خاسر فيه. وأن نتجاوز الفئوية الضيقة حتى في تعاطينا مع من صعدت أرواحهم إلى السماء، وأصبحوا بين يدي العادل الرحيم الذي لا تغفل عينه ولا تنام.

وهذا الموضوع يدفعنا إلى الدخول في موضوع آخر يتعلق بالموضوع الأول وينبثق من جنباته والذي يتمثل في أن الفئوية الضيقة ضاربة جذورها حتى في الأكاديميين الذين كنا نتأمل منهم أن يكونوا فوق الجميع بوعيهم وسعة مداركهم. فالحقيقة أننا استبشرنا خيراً عندما شاهدنا في القوائم الانتخابية للانتخابات التشريعية الأخيرة عدداً كبيراً من الأكاديميين الذين يحملون شهادات عليا في حقول مختلفة، والذين قضوا سنوات من حياتهم في تدريس طلبة من أطياف سياسية مختلفة. وأملنا أن يترفع هؤلاء عما يعانيه رجل الشارع العادي من تربية حزبية ضيقة، وروح مفعمة بالتعصب الأعمى. وتوسمنا أن تكون الشهادات العلمية قد هذبت أخلاقهم، ونزعت من صدورهم كل حقد أو تعصب أعمى. وأن أسفارهم وترحالهم واختلاطهم بالآخرين خارج الوطن قد أكسبهم نزعة إنسانية كبيرة تعينهم على ضيق الأفق الذي يعاني منه رجل الشارع الذي لم يتح له الخروج للتحليق بآفاق بعيدة، وتجاوز محدودية المكان في قطاع غزة. ورأينا في فوزهم انتصاراً للوطن وخطوة في الاتجاه الصحيح يمكن أن تشكل جسراً للتفاهم بين الأطراف المتنافسة التي يعاني معظم عناصرها من انغلاق فكري وخواء ثقافي. وأن يدعموا باعتدالهم أفق الحوار، ويسعوا جاهدين لنقل الديمقراطية من شعارات ترفع، وثقافة ينظر لها إلى سلوك ممارس. وأن يوظفوا علمهم وقدراتهم في بناء الوطن وأعماره.

كما لا نخفيكم سرورنا بفوزهم وهم الذين يعودون في معظمهم إلى الطبقات الشعبية الفقيرة والمسحوقة، وقلنا في نقاش بيننا وبين أنفسنا أن زمن الزعامة العائلة الأرستقراطية قد ولت وحل محلها زعامة عاشت طفولتها في أزقة الحارات الضيقة، وعايشت الجوع والعوز واقعاً وسلوكاً. وأنهم الأقدر على فهم حاجات شعبهم الذي هو في معظمه فقير معوز يسعى من أجل قوت يومه. وأملنا أن تشكل جذورهم الاجتماعية والاقتصادية تصحيحاً لمشروعنا الوطني الذي غلب عليه الفاسدون في السنوات الأخيرة، وحرفوه عن مساره. وكيف أنهم تعاملوا مع سلطة وليدة ناشئة كشركات احتكارية، ووسيلة من وسائل الثراء السريع. وأحدثوا فجوة كبيرة في بنيانه الاجتماعي، وخلقوا أزمة ثقة بين المواطن وقيادته. نعم كنا نرى في ولوج الأكاديميين عالم السلطة والسياسة مرحلة جديدة تبعث على التفاؤل بحيث يأخذون دورهم الذي تغيبوا أو غيبوا عنه طويلاً، وأن ذلك سيشكل مزيجاً رائعاً سينجم عنه مرحلة من التقدم والبناء. وأن ما يمتلكونه من رؤية وتحليل علمي للأمور وقدرة على تشخيص أمراض المجتمع سيساهم في القضاء على الكثير من الآفات المجتمعية والسياسية التي صبغت المرحلة السابقة.

ولكن ما يؤسفنا قوله إن الأكاديميين قد فشلوا سياسياً ولم ينجحوا في مهمتهم أما لأنهم فاقدون لما كنا نأمله فيهم من وعي وإدراك وترفع عن الحزبية الضيقة، وأن شهاداتهم لم تهذب العصبية الكامنة داخلهم، وأما أن شهوة السلطة قد جرفتهم عن مبادئهم وقيمهم. وأما أنهم وقفوا عاجزون أمام عسكر المجتمع الذين يقودون كل شئ بما فيه الساسة والسياسة، ولم يتيحوا لهم ممارسة دورهم المتوقع. وأما أنهم لم يكونوا قدر المسؤولية التي أُسندت إليهم، وتقاعسوا عن معالجة واقع هو بأمس الحاجة لهم. فالذي لاشك فيه أن معظم وزراء الحكومة الحالية من الأكاديميين، ومعظم نواب المجلس التشريعي منهم كذلك ومع ذلك فإن الواقع الفلسطيني قد ازداد سوءاً على سوء على الصعد كافة. فحتى الوحدة الوطنية وحرمة الدم الفلسطيني الذي نرفعه شعاراً بكرة وأصيلا قد ذهبت أدراج الرياح وساد مكانتها التعصب الأعمى والحزبية الضيقة وصولاً إلى الاقتتال الداخلي. وأكاديميونا في التشريعي قد تخلوا عن دورهم الرقابي، وتحول تحت مقاعدهم إلى حاضر غائب فيما يعاني الوطن والمواطن من معاناة فاقت كل تصور. وبدلاً من أن يؤدوا دورهم الذي انتخبهم الشعب من أجله فإنهم يعلقون جلساتهم بحجة السفر هنا وهناك وكأن دورهم الحقيقي في اندونيسيا أو غيرها وليس في داخل وطنهم ووسط شعبهم الذي يمر بأصعب أوقاته. وبدلاً أن يكونوا جسوراً للتفاهم والمحبة نجدهم يكتبون ويخطبون كلاماً تحريضياً يزيد واقعنا سوءاً على سوء. وبدلاً أن يوجهوا دفة الأمور نحو التعقل والمنطق والتسامح نجدهم يجلسون على طاولة فشلت في إنجاح ثمان هدن لوقف نزيف الدم الفلسطيني، وتركوا رصاص الموت يتجول في أزقة الحارات الضيقة التي تربوا وترعرعوا فيها.

كلنا أمل أن يعود الأكاديميون إلى رشدهم، ويعيدوا تقييم أدائهم في المرحلة السابقة، وأن يقفوا مع ذاتهم وقفة نقدية جادة تعيدهم إلى دورهم المتوقع منهم، وأن يثبتوا أنهم أهل للثقة التي منحت لهم. فمجتمعهم بأمس الحاجة لهم، وهم لا زالوا المنارة التي تتجه لها الأنظار للخروج من التيه والنفق المظلم الذي نقبع فيه. وأن يثبتوا للجميع أنهم قادة المجتمع الحقيقيين وليسوا ألعوبة في يد هذا وذاك. وأن يبرهنوا أنهم ضمير الوطن وحارسه الأمين، وأن يعملوا من أجل جميع مواطنيه دون استثناء.

د. خالد محمد صافي