في مقالتي المنشورة تحت عنوان (من الحاضر وبعض الذاكرة بتاريخ 10/1/2007، في لندن أشرت في مقطع منها الى ما يمكن أن يسمى ب(عناد) الإدارة الأمريكية الحالية في إعتمادها للموقف السياسي وقلت ما نصه (..ونعود لخطاب الرئيس الأمريكي بوش حيث كل المؤسسات الأمريكية التشريعية ومراكز الدراسات وأصحاب الرأي يدلون بدلوهم ويقدمون الآراء للرئاسة والتي تبين بأنها ومن خلال الرئيس وصلاحياته قد ضربت عرض الحائط بكل تلك الأفكار والجهود لهذه المؤسسات والبشر الذين يعملون فيها حيث بقي الرئيس الأمريكي (صامدا ) في خندقه ولا أقول( حفرته) التي أختارها لنفسه، ليس من الصدق والمعقولية بأن كل هذه المؤسسات الأمريكية التي تتابع الشأن العراقي والمحنة الأمريكية في العراق تكذب وإنما الأقرب الى الصحة بأن الرئيس نفسه قد فقد توازنه على طريق أحلامه السابقة في النصر بالعراق والديمقراطية والشرق الأوسط الكبير ومن ثم الجديد..)
واليوم أعود لهذه النقطة الحيوية بالذات من خلال ما سأسلط الضوء عليه مع الشهادة الرسمية للسيد علاء الحيدري المواطن الأمريكي من أصل عراقي والتي قدمها لمجلس النواب الأمريكي بتاريخ 8/10/2003،أي بعد احتلال العراق بحوالي الستة أشهر والتي تعزز الرأي أعلاه حول إدارة الرئيس بوش الحالية،وكي ندخل في تفاصيل تلك الشهادة المهمة وحيثياتها نقول بأن السيد الحيدري وبنبذة شخصية مختصرة هومن مواليد بغداد- العراق العام 1940، وقد حصل على شهادته الجامعية في الكيمياء العام 1963 من جامعة بغداد،ومارس التدريس في مدارس العراق،وكان في فترة الخمسينات وما بعدها متأثرا بالجو السياسي الذي كان سائدا في العراق والمنطقة العربية حيث أنتمى لحزب البعث في العراق وبعد فترة ترك الحزب الى الساحة القومية وأعتقل أيام البعث الأول في عام 1963، وبعد إنقلاب 17-30تموز في العراق والذي حمل البعث ثانية للسلطة في العراق غادر السيد الحيدري الى الكويت حيث عمل بداية في إختصاصه التدريسي ومن ثم أسس مشروعه التعليمي الخاص وكبرت (مؤسسة الكويت للتعليم الخاص) لتكون في التسعينات تحوي كادرا تدريسيا بحدود الألفي مدرس وبعدد ثلاثين ألف تلميذ وكان السيد الحيدري هو المدير العام لتلك المؤسسة والتي قدر رأسمالها آنذاك بحدود المائة مليون دولار، حصة الحيدري فيها كانت 50%.. في التسعينات أنتقل مع عائلته الى الولايات المتحدة حيث حصل على الإقامة الدائمة كمستمثر ومن ثم حصل على الجنسية الأمريكية العام 2001.


وردت شهادة السيد الحيدري أمام الكونغرس الأمريكي (مجاس النواب للدورة 108) تحت عنوان (الظفر بالسلام،جهود التحالف لعودة العراق) وأحتوت على العناوين التالية:-
-مقدمة
أولا-مجلس الحكم
ثانيا-حل الجيش العراقي
ثالثا-الوضع الإقتصادي
رابعا-منتسبو الوزارات
خامسا-الحكومات المحلية
-خلاصة
وفي استعراضنا لهذه الشهادة سنضع بين قويسات بعض الشروحات التوضيحية للقارىء كي تكون الصورة في وضوحها الكامل..


في المقدمة،حيا السيد الحيدري أعضاء الكونغرس الأمريكي على إتاحتهم هذه الفرصة له كي يدلي بشهادته وبين رأيه الخاص في العمل الذي قامت به الولايات المتحدة في غزوها العراق وإسقاطها حكم صدام حسين حيث قال بما نصه- بادىء ذي بدء فإن الولايات المتحدة قد أبدت مساعدتها الكبيرة للشعب العراقي في التخلص من صدام حسين ونظامه وبصرف النظر عما أعترى ذلك من تداخلات والأسلوب الذي أنجز فيه ذلك العمل وثانيا أن الولايات المتحدة تبذل جهودا عظيمة في إعادة بناء العراق وتأسيس حياة طبيعية للشعب العراقي..ومع ذلك فإن هذين الهدفين ليسا بالمهمة المعقدة،ويمكن تحقيقهما خلال مدة ستة أشهرإذا ما أعدنا تعريف أهدافنا ونعيد النظر على الأرض ونحلل ذلك بعناية،عندها نستطيع تحديد الخطوات المناسبة المؤدية لإنجاز أهدافنا.إن الأزمة مستمرة في العراق لوجود تقصير في وضوح الخطة الشاملة للتعامل مع الوضعيةفي العراق لما بعد صدام حسين.


إن من المهم الملاحظة الى أن بعض الخطوات التي أتخذت في العراق لحد الآن قد خلفت تأثيرا سلبيا بين الولايات المتحدة والشعب العراقي،علاوة على هذا فإن بعض الخطوات التي أتخذت وأنتجت تأثيرات إيجابية في العلاقة بين أمريكا والشعب العراقي قد جاءت متأخرة جدا!!.


وأختتم السيد الحيدري مقدمته هذه بالقول( السيدات والسادة، اسمحوا لي بأن أشير بأن القرارات والخطوات المتعلقة بها ndash;من وجهة نظري- مهمة جدا في حل الوضع الحالي في العراق والذي سيكون من عواقبها بأن تتمكن الولايات المتحدة من تأسيس روابط ستراتيجية قوية مع الشعب العراقي..)
أولا-مجلس الحكم:- (( توضيح من كاتب المقالndash; بعد الإحتلال، شكل الحاكم الأمريكي للعراق السفير بول بريمر مجلس الحكم في بغداد يوم 13/7/2003، وتألف المجلس من خمسة وعشرين عضوا بينهم ثلاثة سيدات،وجاء تشكيل المجلس ضمن مبدأ المحاصصة الطائفية والعنصرية وإسقاطا للهوية العراقية الوطنية الواحدة))
إن تأسيس مجلس حكم ممثل حقيقي هو خطوة رئيسة فاعلة بإتجاه هدف الإستقرار والديمقراطية،ومما هو حاصل الآن فإن المجلس الحالي بتشكيلته لا يعكس ببساطة الحقيقة العراقية،لذا سيكون له تأثير سلبي بين السلطة (الإحتلال) وعموم الشعب العراقي.


إن أي مجلس تمثيلي يجب أن يتكون من العرب المسلمين سنة وشيعة،الأكراد، التركمان، والمسيحيون، والتمثيل يجب أن يكون بتفويض واضح من الناس المكونين لهذه المجاميع،وللأسف فإن أغلب أعضاء المجلس الحالي لايملكون الدعم أو التفويض من قبل المجموعات السكانية التي ينتمون لها،وهذه الوضعية لا تساعد على بناء الثقة بين الولايات المتحدة والشعب العراقي وسيكون لها تأثير معاكس..
إن المجلس الحالي لا يوفر تمثيلا بالمطلق لعدد من المحافظات العراقية على الرغم من أن كل محافظة فيها ما يزيد على المليون نسمة،ويجب أن يكون هناك إجراء فوري لتعديل أو تجاوز تشكيلة هذا المجلس الحالية والذي هو على صورة قيادة (معارضة المنفى) والتي شكلت بدعم من الولايات المتحدة بلندن قبل سقوط صدام،إن أغلب العراقيين ترفض هذه القيادة لكن الولايات المتحدة تتجاهل حقائق القوة السياسية في العراق،وإذا ما تركت الأمورمستمرة هكذا،فإن ذلك سيقود الى تصاعد المعارضة السياسية بل ومن الممكن المعارضة العسكرية وعلى نطاق واسع.


ثانيا-حل الجيش العراقي:-
يتفهم العراقيون عامة أهمية بقاء التواجد العسكري للولايات المتحدة في العراق وذلك لتحقيق الإستقرار وبناء نظام ديمقراطي دائم..لكنه لا العراقيون ولا سلطات الولايات المتحدة يتقبلوا فكرة سياسة المدى الطويل والتي تجعل الشرطة العسكرية الأمريكية تقوم بفرض النظام في المدن بالعراق.
لذا يجب عودة الشرطة العراقية وأن تضطلع بواجباتها في أقرب وقت وعلى قوات الولايات المتحدة مغادرة المدن الى قواعد خارجها..


إن على الإدارة الأمريكية قبول حقيقة أن حل الجيش العراقي والشرطة كان خطأ فادحا حيث أن هذه القوى تلعب دورا حيويا في حفظ القانون والنظام،وحاليا تحول الكثير منهم الى معارضة للوجود الأمريكي..وكان على الولايات المتحدة طرد الضباط الجنرالات أو من كانوا يحتلون مواقع عليا في حزب البعث،لقد كان أغلب الرجال في الجيش والشرطة يعانون من صدام حسين ونظامه ومن كانوا في القمة هم فقط من مؤيديه، ويمكن إعادة هيكلة هذه القوى وزجها في العمل ثانية وعودة الضباط من رتبة عقيد فما دون الىالقوات المسلحة، ومن كل العراقيين وليس من فئة أو مجموعة واحدة،مع إستثناء من خدموا في الحرس الجمهوري والخاص والمخابرات وبكلمة أخرى إستبعاد من كانوا مسؤولين عن الجرائم في عهد صدام،ويمكن إعتماد معادلة لدفع الرواتب لمراتب الجنود والشرطة بما لا يقل عن ثمانين دولارا ولا تتعدى الثلثمائة دولارا في الشهر الواحد،هذه الخطوات ستحسن علاقات الإدارة الأمريكية مع المدنين العراقيين ومع منتسبي الجيش والشرطة..


وفي نفس الوقت يجب إستحداث دوائر عبركل العراق للإستماع لشكاوى الناس ومظالمهم الخاصة بالجرائم التي أرتكبت تجاه العراقيين من قبل نظام صدام،وبهذه الطريقة ستساعد الولايات المتحدة المجتمع العراقي من التخلص من تلك الجرائم وذلك بتطهير المواطنين بأنفسهم لوطنهم وهناك الكثير من العراقيين ممن هم مؤهلين تعليميا لإدارة هذه الدوائر..


ثالثا-الوضع الإقتصادي:-
وضعية الإقتصاد العراقي اليوم مرعبة.الطاقة الكهربائية تتقطع بشكل مستمر وهناك نقص في مياه الشرب،وتقصير في الرعاية الصحية والتعليم وقد دمرت البنى التحتية وملايين العراقيين يعانون من البطالة..إن الإحياء وإعادة الإعمار يجب أن تحتل المرتبة الرئيسة،وبالإضافة فإن على الولايات المتحدة وحلفائها العمل على إلغاء الديون الدولية التي سببها نظام صدام فليس من العدل بأن يعاني الشعب العراقي جراء الديون التي سببها صدام ومجموعته المجرمة..


رابعا-موظفو الوزارات:-
أن العراقيين مقتدرون في إدارة شؤونهم بإنفسهم،وهذا سيكون في صالح سلطة الولايات المتحدة،المختصون العراقيون هم الأعلم والأقدر من أي واحدآخر في شؤون بلدهم،ويستطيعون بسرعة تحديد الخطوات اللازمة لإعادة بناء الإقتصاد..وماعدا الصف الأول من القيادة الحزبية البعثية، سيكون من الأساسي عودة جميع موظفي الوزارات للعمل،خصوصا في مجالات الصحة، التعليم، العدل، الكهرباء، البلديات، ومياه الشرب.

إن عودة هؤلاء الموظفين للعمل سيكون المؤشر على بداية عودة الحياة للمجتمع العراقي مما يعني البداية الفورية لأعمال الصيانة الملحة ولتحديد نوع وكمية الحاجة للمعدات لتوفير خدمات حديثة للسكان..ويمكن للأمريكان الإشراف على تنفيذ الأعمال من قبل المختصين العراقيين وهذا سيشكل حالة واعدة لعودة الحياة الطبيعية للعراق..وعلى الولايات المتحدة ألا تسمح الإستعانة بالعمالة الأجنبية في العراق ما عدا في الحالات التي لا يستطيع العراقيون القيام بها بأنفسهم، وهذا سيحفظ المصالح العراقية من بعض البلدان ويخدم مصالح الإقتصاد العراقي.

وهذا العمل كله سيكلف ربما عشرات أو مليارات الدولارات،عليه فإنه يمكن للولايات المتحدة إنشاء مشروع على غرار مشروع مارشال وبتمويل يتراوح المائة مليار دولار والذي يجب أن يمول من قبل الدول النفطية المجاورة،ويمكن توقع هذه الأموال من السعودية،الكويت،وبقية الدول المنتجة للنفط ويدعم إعلانهم الكامل مؤخرا لتحقيق عراق حر،وإعترافهم بدعمهم لصدام وما سببه من أذى للشعب العراقي..ومن الضروري تشجيع الإستثمار من قبل الأمريكان من خلال التعاون مع منظمة (أوبك) وبنك الإستيراد والتصدير الأمريكي.


خامسا-الحكومات المحلية:-
كي يحقق الشعب العراقي حكم نفسه ذاتيا فإن كل محافظة من المحافظات الثماني عشرة يجب أن تختار محافظها ومجلس المحافظة الحاكم الذي يمثل كل الوحدات الإدارية، التعليم،الصحة،البلدية، الماء،الكهرباء، الزراعة والري، تخطيط الأراضي، الصناعة، والشرطة المحلية وذلك لتأمين إدارة كفؤة لكل محافظة..وهذا مما يساعد على تخفيف العبء على الإدارة الأمريكية في بغداد..وبنفس الوقت يدعم الثقة لدى الشيعة والسنة والكرد والتركمان على تسيير محافظاتهم بأنفسهم وسيجعلهم أقرب الى الولايات المتحدة..


إن أي محافظ مختار يجب ألا يبقى في منصبه أكثر من سنتين الى ثلاث سنوات،وهذا سيساعد الإدارة الأمريكيةعلى تأسيس سلطة شرعية في العراق تمثل الشعب العراقي حقيقة،وهذا سيحسن العلاقة بين الولايات المتحدة والشعب العراقي وسيساعد على تقديم نموذج فريد لنظام ديمقراطي في الشرق الأوسط،لكن ذلك لن يحدث بدون مجلس إنتقالي جديد يمثل حقيقة العراقيين في الداخل وليس الذين جاءوا من المنفى..


خلاصة ما تقدم،فإن الوضع الخطير في العراق يتطلب تغييرا فوريا في التوجهات..
*الإقرار بالحاجة الى كل الأحزاب السياسية والحركات الدينية في العراق لتكون جزءا من ستراتيجية الولايات المتحدة وحلفائها.


*عودة منتسبي القوات المسلحة للخدمة ممن لم يكونوا جزءا من نظام صدام.
*إحياء الوزارات العراقية بعودة منتسبيها إليهاسيقود الى الإدراك المتسارع للحاجة الى الخدمات..
*الإدارة والتنظيم لكل المحافظات الثماني عشرة،حيث الحاجة القصوى للسيطرة والأمن.
وبدون هذه التغييرات فإن المستقبل سيكون أكثر تعقيدا وخطورة وسيكون من الصعب جدا تحقيق أهدافنا المشتركة..


في الختام، أود أن أشير مرة أخرى الى المشكل الكبير للأموال بخصوص إعادة إعمار البيتة التحتية والتي تسهلها وبنطاق واسع مساهمة الدول النفطية المجاورة،حيث أن هذه الدول لديها موارد كافية ولصالحهم توفير توفير هذه الأموال،إن دماء الأمريكان والتحالف تبذل على مطلب الحرية والديمقراطية للعراق وتحتاج للدعم،وشكرا لكم.


تلك كانت الشهادة التي أدلى بها السيد علاء الحيدري-المواطن الأمريكي والعراقي الأصل- أمام الكونغرس الأمريكي قبل أكثر من ثلاث سنوات، حيث أن أهميتها تكمن وبعد كل تلك الفترة والتي أدخل فيها العراق في سلسلة رهيبة من الأخطاء التي وصلت حد الجرائم الكبرى وما زالت، بأن تلك الشهادة كانت قراءتها صحيحة وحلولها الموفرة في وقتها أفضل بكثير للشعب العراقي وللإدارة الأمريكية المحتلة مما تتخبط فيه الأوضاع المزرية الحالية وخطورة تطورها على الشعب العراقي وحاضره ومستقبله، وكذلك على الولايات المتحدة ومواجهات إدارتها الحالية لأزمتها في العراق وكيفية الخروج منها بما يحفظ ماء الوجه،ولا ينهي هيبة وسمعة الولايات المتحدة كأقوى قوة في عالم اليوم،وهناك العديد ممن لا يتفقون مع السيد الحيدري في تفاؤله المبكر ورسمه لصورة أقرب الى الوردية لما كان من المؤمل أن تكون عليه الحال في العراق،لكن الذي يلفت النظر أن كل المقترحات الإيجابية البناءة التي تقدم بها السيد الحيدري وهو بالتأكيد ليس الوحيد وإنما هناك جمهرة من مراكز البحوث والدراسات والمفكرين الأمريكان يشاركونه آراؤه ولربما بتفصيل أكبر،قد جرى تجاهلها وبشكل فظ من قبل هذه الإدارة إبتداءا من الرئيس الأمريكي ومرورا بكل الطاقم الحاكم معه،ويقينا فإن التاريخ لا يمكن أن يعيد نفسه مهما احتوت محطاته الماضية من مآسي ونكبات وقتل للبشر وتدمير آمالهم في وجودهم ووطنهم،خصوصا بعد أن مسخ الإحتلال واستمراره كل الأماني المشروعة في الديمقراطية والتقدم،وأنتج بدلها وضعا راهنا عميلا ورجعيا،طائفيا وعنصريا في العراق الممزق والمستباح..

اسماعيل القادري

لندن في 1/3/2007

[email protected]