لم يكن لينفصل كفاح المرأة في العراق عن المسيرة التاريخية الطويلة التي قطعتها المرأة في معظم بلدان العالم من أجل مناهضة التمييزالإجتماعي ضدها، فقد حفظت لنا الكتب والوثائق والمكاتبات والسيرالذاتية لمؤرخين وسياسيين وأعلام فكرعراقيين العديد من القصص والوقائع التي أرخت لتاريخ الحركة النهضوية التي قادتها النساء العراقيات من أجل نيل حقوقهن المستلبة والتحرر من القيود التي فرضها التخلف الذي كان ينخر بجسد الأمة العراقية.
وكان الصراع الطويل والمرير قد بدا واضحا مطلع القرن العشرين بين دعاة التجديد وتحريرالمجتمع (والمرأة موضوعة البحث هنا) وبين المتعصبين والغلاة الداعين الى إبقائنا وإبقائها في العصورالمظلمة، وما نراه اليوم مع الأسف الشديد ما هو إلا عودة الى بدايات ذلك الصراع في وقت نحن أحوج ما نكون فيه الى تضييق الهوة المتسعة الذي تفصلنا عن العالم المتحضر والمتطور والمتقدم.
وحده التاريخ هو الفيصل ووحده من يسجل في صفحاته عظم الأسماء التي تقف بوجه الظلامية والعفن الفكري والتخلف والجهل برغم كل الظروف المساعدة لهذه العلل الإجتماعية والأمراض الذهنية التي تحقق مأربا وقتيا هنا أو مأربا وقتيا هناك، ذلك أن ساحة العصرالإنساني الحالي لم تعد لتتسع بعد لمثل هذه الظلاميات.

سنعود في عرضنا التاريخي البسيط هذا الى القرن الماضي لنقف على البدايات الواضحة لذلك الصراع، بين التخلف والتحضر، والجهل والتنور، والعبودية والتحرر لنقتطف بعض أهم الوقائع التي أشرت لموضوع تحريرالمرأة وأعادة الحقوق الإنسانية لها.
وحتى تكون وقائع هذا العرض أكثر وضوحا داخل مشهدها الزماني والمكاني وجدنا بداية أن ننقل للقاريء أحد أحداث ذلك الزمان ممن له علاقة بالمرأة، لكي نتعرف على الطريقة التي كان العرف يتعامل معها :

(بناءا على الطلب السلطاني الصادر عن دار الخلافة الإسلامية في إستنبول عام 1904 أراد والي بغداد عبد الوهاب باشا أن يسجل عددالنساء في العراق ومنح كل واحدة منهن تذكرة عثمانية إسوة بالرجال. ولما شاع الأمر بين أهالي بغداد قامت قيامتهم لما يحتفظون به من تقاليد موروثة وعادات عربية معروفة معتبرين هذا الأمر الذي أقدم عليه الوالي يمس شرفهم ويحط من قدرهم وكرامتهم. فخرج الرجال من أهالي باب الشيخ والصدرية ورأس الساقية وفضوة عرب وبني سعيد والفضل ومناطق الكرخ يتقدمهم السيد أحمد أفندي النقيب ومعه رؤساء المحلات معلنين السخط والإستياء، تتقدمهم الطبول والدمامات والأبواق مسلحين بالسيوف والقامات والخناجر والبنادق والمسدسات مع أهازيج شعبية وهوسات بغدادية. ليصطدموا مع الجندرمة قبل أن يقصدوا سراي الوالي الذي لم يخرجوا منه إلا بعد أن قرر الوالي تأجيل أمر التسجيل، فرجع الجميع يهتفون ويتغنون بتقاليد العرب المتوارثة).

لقد أمدتنا هذه الرواية بصورة واقعية عما كان عليه مجتمع بغداد آنذاك، وعلينا أن نتصور جسامة الأمر بالنسبة لدعاة تحريرالمرأة كما سنورده في الوقائع التالية.

(عندما أعلن الدستور العثماني في تموز 1908 وأقيمت المهرجانات إحتفالا بهذه المناسبة خيل للشاب الأستاذ في مدرسة الحقوق جميل صدقي الزهاوي إن الفرصة مؤاتية ليطلق أفكاره التحررية فنشر في جريدة المؤيد المصرية وتحت إسم مستعارمقالته الشهيرة حول ضرورة تحرير المرأة من عبوديتها، داعيا المحاكم الشرعية الى منحها حقوقها إسوة بالرجل مستشهدا بالآية القرآنية الكريمة (ولهن مثل الذي عليهن)، وما إن وصلت هذه الجريدة الى بغداد وإطلع عليها الأهالي حتى ماجت الأرض بأهلها، وتعرض الى ما تعرض إليه الشاعر الزهاوي من إعتداء وهجوم عنيف من قبل خصومه ما دفع بـ (ناظم باشا) والي بغداد أيامئذ الى فصله من وظيفته تحت ضغط الجماعات المتشددة على الرغم من تراجع الزهاوي وإنكاره لتلك المقالة بعد إهدار دمه.

ويصف المؤرخ خيري العمري حال المرأة في العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين بقوله (كانت المنطقة غارقة في سبات عميق من الجهل، منكمشة على أعراف بدوية وقيم إجتماعية لا تكاد تعطي للمرأة أية قيمة إنسانية، بل كانت المرأة تعيش على هامش الحياة وراء جدران عالية من التقاليد وحواجز مرتفعة من العادات البالية، لا يسمح لها أن تطل على العالم إلا من خلال ثقب بباب أو برقع ونقاب، بل كانت المرأة أشبه بالعورة يجب أن تستر بستار كثيف من عبائتين وعلى الرجال أن يتحاشوا الأشارة إليها في مجالسهم خوف الفضيحة وخشية العار).
(كان عالم النساء في ذلك الزمان عالما مستقلا إستقلالا تاما عن عالم الرجال، كانت الحدائق العامة ودور السينما والنوادي تحدد أياما معينة وأوقات خاصة للنساء مراعية في ذلك إسلوب الفصل الإجتماعي الذي كان متبعا، بل حتى البيوت كانت مقسمة بين ما يسمى بـ (الحرم) وهو مخصص للنساء وبين الديوان خانة وهي المخصصة للرجال).
وكانت الدعوة الى السفور جزءا من مطالب إصلاحية عديدة كان دعاة النهضة والتجديد قد تبنوها دفاعا عن حقوق المرأة، و(برغم كل ما لاقته هذه الدعوات من مقاومة عنيفة لم يتمكن المتعصبون من وقفها، إذ سرعان ما تطورت الأوضاع الدولية والإجتماعية وزال نفوذ الخلافة العثمانية وإزدادت صلة العراق بالعالم الخارجي بحكم التقدم وتطور المواصلات فطفق العراق وهو في بداية نهضته يتطلع الى نهضة الشعوب من حوله ليقلد خطاها، كإيران رضاشاه وأفغانستان أمان الله وقبلهما تركيا كمال أتاتورك التي ألغت الخلافة وفصلت الدين عن الدولة وشرع زعيمها يلغي المحاكم الشرعية ويستبدلها بأحكام القانون المدني ويأمر برفع النقاب ومنع الحجاب).

(في شباط عام 1922 أقام المعهد العلمي ببغداد مهرجانا شعريا عرف بأسم سوق عكاظ ورأى بعض منظميه أن تساهم الفتاة العراقية فيه، فعارضه بشدة عبد الرحمن الكيلاني النقيب رئيس الوزراء آنذاك لاسيما وإن الفتاة التي وقع الإختيارعليها هي حفيدة الشيخ أحمد الداود الذي درس عليه الحديث والأصول، فثارت ثائرة المتشددين ونظموا حملة للتنديد بالمعهد وهدر دماء القائمين عليه).
(ولعل حادث الإعتداء الذي كاد يتعرض له الشاعر معروف الرصافي في آذار من العام نفسه خير ما يعكس سطوة القوى المحافظة، ففي حفلة تمثيل قدمت على مسرح سينما رويال هاجم الرصافي المحافظين والمتعصبين هجوما عنيفا في معرض دفاعه عن حقوق المرأة بقصيدة طويلة من أبياتها :

لقد غمـطوا حق النسـاء فشـددوا عليـهن في حسـب وطول ثواء
ألم ترهم أمســـوا عبيـدا لأنــهم على الذل شبوا في جحور إماء
أقول لأهل الشـــــرق قول مؤنب وإن كان قولي مُسْـخِط السـفهاء
إن أقبح جهل في بني الشرق أنهمُ يُســــمون أهل الجهل بالعلماء)

(وراحت جريدة دجلة تنظم حملة عنيفة ضد الرصافي وقام رجال الدين برفع المضابط وإصدار الفتاوى بتكفيره إلا إن الرصافي كان أحسن حظا من الزهاوي إذ هَبّ أنصارالتجديد الذين إزداد عددهم الآن الى معاضدته، لما لهم من الجرأة ما خفف من وقع موجة التأليب ضده، رافق ذلك نشرالصحف العديد من المقالات المطالبة بتعليم المرأة ورفع الغبن عنها).
ويروي أحد أبرز المدافعين عن حقوق المرأة العربية المفكر اللبناني (محمد جميل بيهم) في كتابه فتاة الشرق أنه زار بغداد عام 1923 فكلفه منتدى التهذيب بإلقاء محاضرة نسائية، يقول (بيهم) : وما إن شاع الخبر حتى خف (ثابت عبد النور) الى زيارتي ناصحا أن أتراجع عن ذلك خشية إغتيالي فما باليت وألقيتها فكانت محاضرة ناجحة ولا سيما إقبال السيدات عليها برغم الحظر الذي فرض عليهن).

(وبدأت الحركات النهضوية الداعية الى الثورة على الجهل والتخلف تنمو في العراق حاملة راية التحرر وداعية الى اللحاق بركب التطور الذي غزا العالم، وكان لابد للمرأة العراقية من أن تتأثر بتلك الدعوات سياسية كانت أم إجتماعية، فكانت حاضرة مع أول ظهور لحركات التحرر في العراق التي حمل لوائها السياسي اليساري الرائد (حسين الرحال)، فمضت حاملة هموم المجتمع بأكمله، قبل أن تبدأ المناداة بحقوقها وحرياتها وتعمد الى تشكيل جمعيات نسائية خاصة بها أو منظمات مدنية تعنى بشؤون الأسرة، كما تمكنت عام 1923 من إصدار عدد من المجلات النسائية أبرزها مجلة (ليلى) التي رأس تحريرها (بولينا حسون) إحدى زعيمات النهضة النسوية العراقية.
(إشتدت معركة السفور والحجاب وأصبحت أكثر ضراوة بعد حفل إستقبال الأمير غازي بمناسبة عودته من لندن والتي شاركت فيها مدارس بغداد وكان من بينها لأول مرة طالبات ثانوية البارودية للبنات. تتقدمهن مديرة المدرسة الآنسة (معزز برتو). فأقامت الأوساط المحافظة الدنيا ولم تقعدها وعلى رأسهم رجل الدين المتشدد محمد بهجت الأثري (الذي صارالرصافي يلقبه ببوليس السماء، لكثرة الفتاوى التي يصدرها في كل صغيرة وكبيرة) ومعه رشيد عالي الكيلاني وسلمان الشواف وتوفيق الفكيكي والشاعرالشعبي الملا عبود الكرخي وآخرون، كما عهد داود العجيل رئاسة تحريرجريدة البدائع الى الأثري خصيصا لمواجهة المجددين، فإنبرت هذه تهاجم مديرة المدرسة وتعتبر العمل الذي أقدمت عليه خروجا على الفضيلة وتمردا على الآداب. وقال الأثري في مقال نابي اللهجة الى دعاة السفور والتحرر:

( ألقوا حبل نسائكم على غاربهن ودعوهن سافرات ودعونا نفعل بهن ما نشاء، إن شئنا قتلناهن وإن إردنا وأدهن فلستم علينا بمسيطرين )!!.

(فسارع المخضرم حسين الرحال الى الرد عليهم بجرأة وعنف ومعه عصبة من الشباب كالأديب مصطفى علي ومحمود أحمد السيد وسامي شوكت وعوني بكر صدقي ومحمد سليم فتاح. كما أنضمت جريدة العراق التي يتولى تحريرها رزوق غنام وروفائيل بطي الى جانب دعاة السفور. وكتب فيها سامي شوكت مقال جاء فيه :
(إن المطالبين في بقاء تستر المرأة وأسرها يكون طلبهم منطقيا أكثر لو طلبوا إلغاء التعليم ورفع التهذيب والإبقاء على الحالة الهمجية للمجتمع).

كما كتبت إحدى سيدات بغداد مقالها تحت إسم مستعار(فتاة غسان) متهكمة من دعاة الحجاب قائلة :
(يقول هؤلاء المستبدون إن البرقع والحجاب ليس معناه أسرالمرأة، فأرجو من الرجال أن يجربوا ولو لإسبوع لبس البوشي والعبائتين)!!.

هناك حقيقة تاريخية فيها من الأهمية ما يدعونا الى الإشارة إليها، فقد جرت العادة لدى البعض (كما هو الحال اليوم) التشكيك بدعوات التحرر أو التجديد، وتوصيفها وتصنيفها إما جهويا أوقوميا أو دينيا أو طائفيا، على وفق ما أصطلح عليه في القاموس السياسي بنظرية المؤامرة، لكن الغرابة كل الغرابة أن نجد هنا أن المتشددين والمتعصبين يستشهدون في معرض تصديهم لدعوات التحرر بالمسيحيين واليهود كمثال على الإلتزام بالحجاب والتقاليد المحافظة، فها هو(جميل المدرس) أحد أشد المناوئين للسفور كتب يقول:

(خذو العبرة من النصارى واليهود هل نجد فرق كشافية أناثية في مدارسهم الأناثية كما في مدارسنا، إن البنت اليهودية العراقية لا تسدل على وجهها نقابا خفيفا كالذي تلبسه اليوم أكثر بنات الإسلام المتبرجات بل نقابا أخشن وأثخن!!).

(في 23/11/1924 وبينما هذه المعارك قائمة في الأندية والمحافل، وأخبارها وأحاديثها تدور في المقاهي إذا بناد جديد يفتتح بإسم (نادي النهضة النسائية) تألفت هيئته الإدارية من (أسماء الزهاوي شقيقة الشاعرجميل صدقي الزهاوي ونعيمة السعيد وماري عبد المسيح وفخرية العسكري زوجة جعفر العسكري) فسارعت جريدة العراق الى الترحيب به معتبرة إفتتاح النادي إنتصارا لحرية المرأة).
أحتدمت المعارك بين أنصار التجديد وبين المحافظين المتشددين وأقبل الناس على الصحف التي أصبحت الآن ساح لها، ووصلت المشادات الكلامية في أحيان كثيرة الى التهديد والوعيد بالقتل، ناهيك عن الشتائم وإطلاق النعوت والألقاب والصفات المزرية على المجددين.
(وعندما أخذ دعاة تحرير المرأة ينادون على صفحات جريدة العراق بإلغاء المحاكم الشرعية وسن قانون مدني جديد ينظم الإحوال الشخصية على قواعد تساير العصر، طار صواب المحافظين لهذه المبادرة الجريئة وأخذوا يطاردون دعاة التجديد تارة بالتهديد بالقتل وطورا بالإرهاب)، فأضطرعدد من أنصارهم الى اللجوء للقضاء طالبين حمايتهم من المحافظين.
(وصارالملك فيصل الأول وديواني مجلس الوزراء ووزارة الداخلية يستقبلون وفودا لا تنقطع من المحافظين، يصغون الى إحتجاجاتهم ويستلمون منهم المضابط التي تحث الحكومة على (تأديب) المجددين بحسب قولهم، فأوعزت مديرية المطبوعات التابعة لوزارة الداخلية الى الصحف بالكف عن نشر المقالات التي تدعو الى التحرر والسفور، إلا إن تلك الإجراءات لم تمنع حسين الرحال من إصدار مجلة (الصحيفة) التي إستطاعت أن تهز الأوساط المحافظة وتزعزع القيم القديمة السائدة).
(فعكست المجلة في أعمدتها أحدث الآراء في التاريخ والأدب والنظريات السياسية والإقتصاد وعلى صفحاتها تتبع الجمهور العراقي نهضة المرأة التركية والإيرانية واللبنانية والمصرية، ومن تلك المقالات نقتطف هذا المقطع للكاتب محمود أحمد السيد الذي يقول فيه :

( سنواصل مسيرتنا في سبيل الحرية الفكرية والحق والمثل العليا.. نحن أقوياء بأنفسنا أقوياء بأقلامنا، سنكشف قناع الرياء عن ميراث العصور المظلمة وسنزهق الباطل ونسحقه سحقا ونرفع للمرأة راية التعليم والتحرر الإجتماعي، وذلكم واجبنا الأكبر).

(كان لهذه المجلة أثرها الكبير في تنبيه أذهان الناس والتمهيد لخلق مفاهيم حضارية جديدة، فنشط المجددون بشكل واضح)، وأنضمت إليهم أسماء جديدة مثل طالب مشتاق وكامل السامرائي وعبد الحميد رفعت وشاكرالأوقاتي وساطع الحصري ومحمد بسيم الذويب وغيرهم الكثير.

لكن المحطة الأهم في تاريخ نهضة المرأة العربية عموما والعراقية خصوصا هو إنبثاق مؤتمرات خاصة بالمرأة، ويعزى ذلك للنشاط الذي تبناه المفكراللبناني (محمد جميل بيهم) ضمن مساعيه الحثيثة للدفاع عن حقوق المرأة العربية، فتلقت زعيمة النهضة النسائية العراقية (أسماء الزهاوي) رئيسة نادي النهضة رسالة من رئيسة المجمع النسائي العربي اللبنانية السيدة (نور حمادة) بداية آذار1929 تدعو فيها المرأة العراقية للتشاورمن أجل عقد أول مؤتمر نسوي عربي. ودعت الزهاوي في ضوء ذلك عضوات النهضة للإجتماع والمداولة في موضوع المؤتمر فضم الإجتماع بالإضافة الى عضوات النادي عدد كبير من السيدات الناشطات ومما قالته الزهاوي في الإجتماع (إن إجتماعنا هذا لهو دليل على أن الحركة النسوية المباركة في العراق صادقة لا يثبط عزيمة القائمات عليها معارضة الفئة الرجعية، إننا نسير في ظلمات التعصب المخيم على ربوع الرافدين ولكن الصبح قريب وسنراه بعيوننا صبحا يفيض نوره في القريب العاجل على الربى والبطاح ). كما إشتكت الزهاوي (من عجز الحكومة عن مساعدتهن ضد القوى المتعصبة التي تصول وتجول وتهدد وتتوعد)، معيبة عليها (أي الحكومة) الوقوف على الحياد في هذا الصراع الإجتماعي الصعب وهو ما أرهب النادي وأعجزه عن تسمية إمرأة عراقية واحدة لتمثيل العراق في هذا المؤتمرالمنتظر(الذي تمنته نور حمادة أن يعقد ببغداد)، فإكتفى النادي بإرسال كلمة ألقيت بالنيابة عنه في أول مؤتمر نسوي عربي والذي عقد في القاهرة.

إتسعت رقعة المؤيدين للتجديد والداعين الى إعطاء المرأة حقوقها وإزدادوا ثقة بأنفسهم، ومال إليهم رؤوف الجادرجي أستاذ القانون الدولي وحكمت سليمان أستاذ المالية وتوفيق السويدي أستاذ القانون الروماني، وأصبحت الصحف تنشر لهم كل يوم العديد من المقالات والقصائد المحرضة والمدافعة عن المرأة ومن بينها تلك القصيدة الشهيرة للشاعر جميل صدقي الزهاوي والتي مطلعها :

أسفري فالحجاب يا أبنة فهر هو داء في الإجتماع وخيم
كل شيء الى التجــدد ماض فلماذا يقــــــــــر هذا القديم

(لم يطل العام 1930 حتى ظهرت أصوات نسائية بأسمائها الصريحة تدعو الى منح المرأة حقوقها وتلمح علانية بسفورها وضرورة إفساح المجال أمامها للدخول الى معترك الحياة فأرتفع صوت (رفيعة الخطيب) يناقش الشريعة الإسلامية ما إذا كانت منعت السفور أم لا، وصوت الآنسة أمينة الرحال (شقيقة حسين الرحال) يدعو الى ضرورة إستقلال المرأة إستقلالا إقتصاديا. وعندما دعي العراق للمشاركة في المؤتمرالنسائي الثاني الذي أتفق على إنعقاده في العاصمة السورية دمشق في تموز من ذلك العام، بذل السياسي المعتدل ثابت عبد النور جهودا كبيرة من أجل إقناع الحكومة بضرورة المشاركة في هذا المؤتمر، فكان إن رشحت الحكومة الآنسة أمينة الرحال (والتي لم تزل تلميذة في معهد المعلمات) ومعها الآنسة جميلة الجبوري لتمثيل العراق، فكان لكلمة العراق التي ألقتها أمينة الرحال صدى مميزا في أوساط المؤتمر.

ولم يحل شهرتشرين ثان 1932 حتى إنعقد ببغداد مؤتمر المرأة العربية الثالث وهو أول مؤتمر للمرأة في تاريخ العراق، ما عزز إتصال حركة المرأة العراقية بمثيلاتها في الدول الأخرى.

كل ذلك بدا مرافقا للتطورالذي راح يظهرعلى العديد من تفاصيل الحياة اليومية للمجتمع العراقي وراحت الهوة التي كانت تفصل عالم المرأة عن عالم الرجل تضيق رويدا رويدا، ففي أربعينات ذلك القرن بدأت المرأة ترتاد النوادي ودور السينما والحدائق العامة بصحبة الرجل، بل أصبحت المرأة العراقية مشاركة في الأنشطة الثقافية والأدبية ومتذوقة لكل أنواع الفنون الموسيقية والمسرحية والتشكيلية، وأنقل هنا مقطع من المذكرات اليومية للفنان التشكيلي العراقي الرائد (جواد سليم) وفيه صورة لما هي عليه المرأة العراقية آنذاك :

13 آب 1946، أفتتح اليوم معرضي التشكيلي الشخصي وكان الحضور كثيفا وبالمئات فإضطررت نتيجة الزحام الى تخصيص الفترة الصباحية للعوائل والفترة المسائية للرجال، كنت أجلس على مقعدي متطلعا الى نساء بغداد، والى طريقتهن في السير وفي مسك العباءة وقد تركن قسم من شعورهن على جباههن والى العيون المكحلات بغزارة والى الفساتين المليئة بالورود الملونة والى ضفائر الشابات الصغيرات وتنانيرهن القصار!!).

إن التطوراللاحق الذي سيلفت النظر إليه هو دخول المرأة المعترك السياسي بل وستأخذ مواقع مؤثرة فيها وتسطر مآثر حفظتها ذاكرة التاريخ العراقي الحديث، فعلى سبيل المثال ضم الحزب الشيوعي العراقي (المحظورآنذاك) في خلاياه نساء من مختلف الأعمار والدرجات الوظيفية والمستويات الثقافية والإجتماعية، فكن يحضرن الإجتماعات السرية ويؤدين الواجبات الحزبية مع ما يكتنف ذلك من مخاطرغيرمحمودة، بل ويشتركن في التظاهرات والإعتصامات.

فها هي (عدوية الفلكي) الشابة بنت التاسعة عشر تتقدم أعتى وأشهر تظاهرة في تاريخ العراق السياسي على الإطلاق ما عرفت بعد ذلك بـ (وثبة كانون).

كانت هذه الإنتفاضة العارمة الخالدة قد تجمعت من مختلف أنحاء الرصافة في الساحة التي تعرف الآن بساحة (الرصافي) قاصدة عبورالجسرالعتيق، فيما كانت قوات الشرطة بجانب الكرخ قد نصبت أسلحتها الرشاشة فوق سطوح المباني والجامع المطلين على الساحة (حاليا الشهداء) تنتظر وصولها، حتى إذا ما إجتازت التظاهرة منتصف الجسر أنهمرعليها رصاص الأسلحة الكثيف فراح المتظاهرون يتساقطون قتلى وجرحى (400 شهيد ومئات الجرحى حسب بيانات الشرطة)، كانت (عدوية) هذه في مقدمة التظاهرة ترفع مع زميل لها أحدى اللافتات وعندما أردى الرصاص زميلها قتيلا لم تخف ولم تتراجع بل أصرت على حمل تلك اللافتة وحدها هذه المرة متجاهلة نيران الأسلحة المدوية لتعبر ذلك الجسر لوحدها، (الجسر والساحة اللذان حملا فيما بعد أسم - الشهداء- تيمنا بهذه الواقعة الوطنية أوالمجزرة البشرية).

وتكر مسبحة التاريخ والمرأة تزداد ثقة بنفسها لتنتزع ثوب التخلف والتبعية والإنكفاء على الذات، ففي خمسينات ذلك القرن إمتلأت القطاعات العلمية والثقافية والأدبية والفنية بأسماء عراقيات مبدعات تركن بصمات واضحة عليها، كما عم الإختلاط بين الجنسين معظم الكليات والمعاهد الدراسية، ومع سيطرة الجمهوريين على الحكم عام 1958، تمكنت المرأة من تحقيق أهم أهدافها التي كافحت من أجلها طويلا، فبعد عام واحد أصدرت الدولة العراقية القانون رقم 188 وهو أول قانون مدني ينظم الأحوال الشخصية في العراق.
إن المتتبع للمشهد العراقي خلال عقد الستينات يلمس بكل سهولة مديات الإنعتاق والتحرر الذي وصلت إليه المرأة العراقية سياسيا وثقافيا وتعليميا ومهنيا وإجتماعيا. ففي مطلع هذا العقد عينت (نزيهة الدليمي) وزيرة للبلديات لتكون أول وزيرة في تاريخ الحكومات العراقية، وهو ما دفع باليمين السياسي وفي مقدمتهم البعثيين الى تأليب مشاعر المحافظين ضد هذه الخطوة، بل وأطلقوا الأهازيج السوقية للنيل منها. كان هذا العقد عقدا حضاريا مميزا في تاريخ العراق، مازال الليبراليون والمتنورون العراقيون يتذكروه بمزيد من الإعتزاز بل والأسى والأسف على فقدان إنجازاته،

برغم ما تعرضت له المرأة إبان حكم البعث الأول في الشهور التسعة من العام 1963، حيث حولت ميليشيا الحرس القومي ملاعب الكشافة والكرخ الى سجون للنساء الناشطات، كان القتل والإعتقال والتعذيب والإغتصاب مصير آلاف العراقيات المناضلات من مبدعات في حقول الأدب والفن ومن متخصصات في المجالات العلمية، إضافة الى الفصل التعسفي من الوظائف الذي طال الآلاف من العاملات في مجال التعليم وغيره، وهو ما جرى في عموم محافظات العراق.

ومع صعود البعث الى السلطة مرة أخرى نهاية ذلك العقد، بدأت الفئات المتخلفة ومعها قيمها البدوية تزحف بإتجاه مراكز النفوذ وصنع القرار، ليبدأ العد التنازلي للواقع المضيء الذي حققته المرأة لعقود زمنية مضت، (أصبحت مشاهد مثل تمزيق ثياب الفتيات وطلاء سيقانهن بالنفط الأسود من قبل مفارز محافظ بغداد المدعو خيرالله طلفاح مألوفة مطلع السبعينات)، حتى إذا ما بلغنا عقد الثمانينات وما تلاها كانت القيم الهمجية هي السائدة سياسيا وإجتماعيا، ويكفي أن نقف على التداعيات الإجتماعية والإقتصادية التي رافقت الحروب والحصار لغاية هزيمة ذلك النظام عام 2003، حتى نتعرف على التركة الثقيلة والأمراض الإجتماعية المزمنة التي خلفتها العقود الفاشية الثلاثة لتلقي بظلامها على المرأة العراقية الضحية الأكبر لمطاحن الترويع والقتل والإعتقال والملاحقة والتهجير والحروب والحصار والمجاعات، فهي من ثكلت بأبنائها أو أشقائها أو من ترملت أو من يتمت وهي بعد طفلة أو صبية قاصرة أو فتاة ما زالت بحاجة الى الرعاية، كان عليها أن تعاني مرارة العيش تحت هيمنة قوى سلطوية مزقت نسيج المجتمع وبسطت عليه قيمها المتخلفة، فأصبح على المرأة تحمل كل تلك الأعباء، بل في حالات عديدة تحملت مسؤولية أعالة ذويها.

كماإقتصرنشاط الحركة النسوية العراقية على منظمتها الوحيدة (الأتحاد العام لنساء العراق) التي أدلجها النظام لتخدم أغراضه الفاشية ولتصبح بعد ذلك إحدى أدواته الرقابية البوليسية بل إحدى منابع الأفساد الإجتماعي والإمتاع الغرائزي لرجالات السلطة، وهناك من الوثائق والمكاتبات التي كشفت عنها الصحافة ما يند له الجبين الإنساني.

أما بعد هزيمة ذلك النظام عام 2003 فقد كسرت المرأة تلك القيود وغص العراق من شماله الى جنوبه بعدد لم يسبق للعراق أو للمنطقة أن عرفه من المنظمات النسوية، فبلغ متوسط عدد المنظمات والجمعيات النسوية في كل محافظة من محافظات العراق ما يربو على عشر منظمات ناهيك عن العاصمة بغداد التي ضربت رقما قياسيا في عدد التنظيمات علاوة على وجود منظمة نسوية في كل حزب من الأحزاب العديدة قديمها وحديثها.
لكن علينا ألا نحسب من فضيلة أو فائدة لهذا العدد الهائل من التنظيمات النسوية، بل العكس فقد أضاعت في خضم تشتتها هذا ؛ العديد من الحقوق التي كان بإمكانها الحصول عليها في حال إصطفافها ضمن تجمع مركزي واحد أو على أقل تقدير إيجاد قنوات إتصال ثابتة وفاعلة فيما بينها للإرتقاء الى نقاط إتفاق مشتركة حتى يكون لها موقعها ووقعها الضاغط والفاعل.

بل إن إمرأة القرن الواحد والعشرين ــ وهذه من المفارقات الغريبة ــ قد فقدت إنجازات حققتها إمرأة القرن الماضي قبل أكثر من أربعين عام!!

وبرغم ما تحقق للمرأة من نصيب في السلطة التشريعية أقره بداية قانون إدارة الدولة فقد وجدت المرأة العراقية نفسها من جديد بمواجهة تيارات محافظة تعمد الى عزلها أو تحجيم دورها وخصوصا ما تعلق بأمر خطير للغاية مثل وضع دستورجديد للبلاد. فكان عليها أن تكون حاضرة وسط معارك سياسية وإهتمام شعبي وإعلامي رافق وضع هذا الدستور مع ما تعرضت له من تهميش في مراحل إعداده وإقراره والذي جاء في النهاية مخيبا لآمال المرأة العراقية.

وهذا ما يجعلنا نقف اليوم طويلا أمام الجهود التي يبذلها عدد محدود جدا من القيادات الأكاديمية النسوية ممن قمن بتشكيل تحالف أو حملة أسمينها (عهد العراق) ليحملن على عاتقهن مسؤولية الدفاع أوالحصول أوالمحفاظة على حقوق المرأة العراقية من الهدر والضياع وسط هذا الضج السياسي والواقع الإجتماعي المتأزم الذي يعيشه العراق حاليا.

فقد عمدت عضوات هذا العهد منذ عام مضى وضع مشاريع قوانين دستورية وتعديل غيرها تلك التي تشكل تماسا مباشرا بحياة الفرد العراقي والأسرة والمجتمع، ولعل أهم تلك القوانين ما تعلق بالأحوال الشخصية وحقوق الإنسان والحريات العامة، وترتب عليهن منذ ذلك الوقت العمل والمثابرة من أجل كسب تأييد وموافقة ومساندة أكبرعدد ممكن من السياسيين والبرلمانيين لضمان إنجاح تلك المشاريع القانونية عند عرضها على البرلمان العراقي الحالي، فعقدن المؤتمرات والندوات وورش العمل ليس في العاصمة وحسب بل وفي مختلف المحافظات العراقية لتعزيز وجهة نظرهن.

يرى العديد من المتخصصين إن الدستور العراقي الجديد تجاهل الحقوق الأساسية للمرأة العراقية، كتلك التي حصلت عليها قرينتها في بلدان العالم المتقدم، فهم يرون على سبيل المثال (إن إلغاء قانون الأحوال الشخصية 188 وإبداله بالمادة 41 من الدستور الجديد ما هو إلا عودة الى عصر الحريم!!). على حد وصف إحدى سيدات (عهد العراق)، إن آراء بعض قيادات التيارات الدينية المتشددة وتأثيرها على القرار السياسي العراقي كان سببا كافيا لهذه العودة.

ولكن حتى نكون أكثر إنصافا وتلمسا للواقع علينا الإعتراف بإن هذا الدستور ما هو إلا إنعكاسا طبيعيا لحقيقة الواقع الإجتماعي المتردي الذي وصل إليه العراق.

فالمجتمع العراقي يجني منذ سنوات ثمار الزرع الذي أنبتته الظروف اللاإنسانية والمتخلفة التي عاشها طوال العهد الفاشي المأزوم، فالتخلف والتعصب عادا ليطبعا مجتمع العراق بطابعهما.

في مقال جريء عنوانه (المرأة التي وحدت المسلمين) وصف أحمد عبد الحسين وادي (وهو من الكتاب الليبراليين الشباب) من خلال مثالين إختارهما من مشاهد العنف اليومي ما آل إليه واقع المرأة العراقية، فهو يقول (أن القتلة المجهولون في مدينة (الدورة) كمثال لمن يدعون إنتمائهم أو تمثيلهم للطائفة السنية يلاحقون المرأة التي تقود السيارة أو التي ترتدي البنطال لتخطف أوتقتل، جريا وراء نسخ التجربة السعودية في هذا المضمار، مقابل القتلة المجهولون في مدينة الصدر ممن يدعون إنتمائهم أو تمثيلهم للطائفة الشيعية الذين يلاحقون ويقتلون المرأة التي لا ترتدي الحجاب والجلباب لنسخ تجربة حرس الثورة الإيرانية)، ويضيف الكاتب (إن فريقي القتل المجهولان يتقاتلان ضد بعض بكل ضراوة، ولا يتفقان ولا يجتمعان إلا على أمر واحد يوحدهما هو عدائهما السافر للمرأة وحقوقها وحريتها!!). بقي أن نذكر إن هذا الكاتب قد أهدر دمه هو الآخر نتيجة آراءه هذه، فهرب الى خارج العراق، لكأن التاريخ يعيد نفسه، ولكأننا عدنا الى مطلع القرن الماضي والى بداية الصراع من أجل التحرر والتحضر!!.

لعل واحدة من أهم الثوابت الإجتماعية التي يؤكدها التاريخ هو أن المرأة كانت وستظل دائما الضحية الأولى والأكثر تضررا من أي شريحة إجتماعية أخرى إذا ما نابت البلدان حروب أو مجاعات أو كوارث. كذلك وجدنا أن المرأة تكاد تكون الضحية الوحيدة التي تدفع ثمن آفات التعصب والتخلف إذا ما أصابا مجتمعها.

(إن التمييز ضد المرأة أوعدم المساواة بين المرأة والرجل ما هو إلا مفارقة أزلية منذ أن بدأ الوجود الإنساني على الأرض، ذلك أن مستلزمات الصراع من أجل البقاء ومتطلبات المنظومة البدائية للإنسان، بدءا بالعصور الحجرية وما تلاها كان عمادها القوة العضلية لا العقل، فشريعة الغاب التي حكمت المجتمع البشري في بدايته أشاع إستيلاء الطرف (العضلي) الذكوري على سلطة تلك المنظومات، وهو ما أدى لاحقا لبسط نفوذ الرجل وتحكمه بالطرف الآخر طوال العصور والدهور التالية، لا لسبب علمي منطقي سوى أنه واقع (فسلجي) تقابله تركيبة الكائنات الحيوانية الموجودة الآن في الغابات!!!).

لذلك ليس مصادفة أن تسلب حقوق المرأة في المجتمعات التي مازالت متناغمة مع القيم البدائية والمحكومة بشرائع الغاب، فمتى ما غاب العقل والعلم كانت البدائية حاضرة وشائعة وحاكمة، ولما كان كل ما هو مشاع مشروع بحسب توافقات المجتمع المتخلف، فإن شيوع الجهل منح أفكاره وأعرافه هذه المشروعية بكل تأكيد، ونؤسس على ذلك إن لا حقوق ولا حرية ولا تحرر للمرأة إذا لم يتحرر المجتمع والرجل أولا من الجهل والتخلف والبدائية.
ــــــــــــــــــ
المصادر:
البغداديون مجالسهم وأخبارهم، إبراهيم الدروبي
حكايات سياسية، خيري العمري
فتاة الشرق، محمد جميل بيهم
العراق السياسي، حنا بطاطو
الرحلة الثامنة، جبرا إبراهيم جبرا
نشرات (عهد العراق) الخاصة بمشاريعهم القانونية

عبدالجبارالبياتي
[email protected]
[email protected]