يبدو واضحاً وجلياً تسارع وتيرة الزيارات المكوكية لوزيرة الخارجية الأمريكية_كوندليزا رايس_ والتي تذكرنا بصاحب الدبلوماسية المكوكية في سبعينيات القرن الماضي هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية آنذاك والتي أفضت إلى فك الاشتباك بين القوات الإسرائيلية والمصرية تمهيداً لعقد مؤتمر دولي في جنيف حول الشرق الأوسط، وحل الصراع العربي الإسرائيلي، ذلك المؤتمر الذي لم ير النور، وحل محله تدريجياً مفاوضات إسرائيلية مصرية أدت في النهاية إلى توقيع معاهدة السلام الإسرائيلية المصرية. كذلك تذكرنا زيارات رايس بالزيارات المكوكية لجورج شولتز وزير الخارجية الأمريكي في نهاية عقد الثمانينات والتي كانت تبحث عن مخرج سياسي للانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1994م). وأفضى ذلك في النهاية إلى عقد مؤتمر مدريد الذي انطلقت من خلاله عملية السلام في الشرق الأوسط. وتأتي زيارات رايس متزامنة مع تصاعد وتيرة الأزمة الأمريكية في العراق، والتصعيد الحادث في الملف النووي الإيراني. فهناك على الصعيد العراقي مراجعة للسياسة الأمريكية هناك بفعل ضغط مجلس النواب الأمريكي ذا الأغلبية الديمقراطية التي تتحفظ على سياسية الإدارية الأمريكية في العراق، وكان آخر قراراتها الدعوة إلى وضع جدول زمني يتم بموجبه سحب القوات الأمريكية المقاتلة من العراق في عام 2008م. وهنا تخشى الإدارة الأمريكية من بسط إيران نفوذها على العراق بعد الانسحاب الأمريكي المتوقع، وبذلك تصبح إيران متحكمة بنفوذها وتأثيرها على أهم مناطق النفط في العالم وهي العراق. ولذلك تسعى الإدارة الأمريكية إلى مشاركة من قبل الدول العربية الموالية في مواجهة النفوذ الإيراني المتصاعد.
وهذا أيضاً يتقاطع مع التوجه الأمريكي الإسرائيلي لحشد المنطقة ضد المشروع الإيراني. حيث من المتوقع تصاعد وتيرة التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران إلى حد الصدام المسلح. إذ تتوقع أوساط سياسية وعسكرية أن يتم توجيه ضربة جوية قوية ومزلزلة لإيران لإرجاعها برامجها المختلفة لاسيما برامجها العسكرية غير التقليدية وعلى رأسها البرنامج النووي إلى عقود ماضية. وقد جاءت المناورات العسكرية الأمريكية الإسرائيلية التي تعد الأضخم من نوعها وحجمها حتى الآن خلال الأسبوع الماضي، وكانت موجهة لمكافحة الهجمات الحربية بالأسلحة غير التقليدية كإشارة واضحة على الاستعدادات التي تقوم بها الدولتين في التحضير للضربة العسكرية لإيران وكيفية مواجهة رد الفعل الإيراني. وهنا تحتاج الولايات المتحدة الأمريكية إلى دعم سياسي ولوجستي عربي. وتعد المملكة العربية السعودية _الحليف التقليدي العربي للولايات المتحدة هي المرشحة لذلك. إذ من الواضح أن دول الخليج سواء الإمارات العربية المتحدة أو قطر أو البحرين أو حتى الكويت هي دول صغرى على صعيد المساحة الجغرافية، والبعد الديموغرافي، ولذلك فهي لا تصلح لأن تكون قاعدة الدعم اللوجستي الأساسية بل يمكن أن تلعب دوراً مساعداً. وستلعب السعودية الدور الرئيس في ذلك ومن هنا فمن الواضح تماماً أن الولايات المتحدة تدفع بالسعودية إلى واجهة تصدر النظام الرسمي العربي مقابل تراجع الدور المصري حيث لا تشكل مصر خط تماس مباشر مع إيران، هذا إضافة إلى أن طبيعة الشارع المصري وأحزابه ومؤسساته ليس بالأمر السهل لتطويعه وإخضاعه وتوجيه كما هو الحال في المملكة العربية السعودية التي تفتقر إلى مؤسسات المجتمع المدني، وتفتقر إلى معارضة سياسية حقيقية سواء على الصعيد الحزبي أو الشعبي.
ومن هنا فإن ما تطرحه وزيرة الخارجية الأمريكية في زياراتها المكوكية هو محاولة فكفكة التوتر العربي الإسرائيلي لصالح تضافر الجهود العربية والإسرائيلية لمواجهة المشروع الإيراني الذي يشكل خطر على الطرفين كما تحاول الإدارة الأمريكية تسويقه. وحتى تتصدر السعودية النظام الرسمي العربي لا بد أن تقود الدبلوماسية العربي في المرحلة القادمة ومن بينها الملف العربي الإسرائيلي ولذلك جاء عقد اتفاق مكة برعاية سعودية، وبالتأكيد بضوء أخضر أمريكي لجر حركة حماس بعيداً عن التجاذب السوري الإيراني. ومن هنا يجب أن يعاد إحياء المبادرة العربية التي قدمت في مؤتمر القمة العربية في بيروت من قبل ولي العهد السعودي آنذاك الأمير عبد الله (الملك عبد الله الآن) على اعتبار أن من قدمها هي السعودية التي يجب أن تترأس النظام العربي الرسمي كما ذكرنا سابقاً. ومن هنا نجد التسريبات الإعلامية حول لقاءات سرية سعودية إسرائيلية يقودها مستشار الأمن القومي السعودي الأمير بندر. كما صدر من فترة قريبة التصريحات حول اعتبار إسرائيل للمبادرة العربية بأنها إيجابية ولكنها بحاجة إلى بعض التعديلات. ومن هنا فإنه من المتوقع أن يتم إعادة تبني القمة العربية القادمة في الرياض للمبادرة العربية دون تعديل يذكر. وأن يتم تقديمها وتسويقها دولياً بطريقة تختلف عما حدث في السنوات السابقة، أي بوتيرة أسرع، وبدعم دبلوماسي أمريكي خفي أحياناً وبارز أحياناً أخرى لكي تضم المبادرة العربية إلى خارطة الطريق كأساس لاستمرار المفاوضات الفلسطينية والعربية الإسرائيلية. حيث أن الولايات المتحدة ستحاول إيهام العرب بأنها ستضغط على إسرائيل من أجل تقديم تنازلات تقوم على أساس إقامة الدولة الفلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل. ومن هنا نرى التصريحات المتكررة لكوندليزا رايس بأن الرئيس بوش الابن هو أول رئيس في الولايات المتحدة يدعو إلى إقامة دولة فلسطينية، وأن من أولويات الإدارة الأمريكية في السنة والنصف القادمة (حتى انتهاء فترة رئاسة بوش) هي تعزيز المسار الفلسطيني الإسرائيلي وصولاً إلى إقامة الدولة الفلسطينية. وهنا يبدو واضحاً البضاعة السياسية الأمريكية وهي الدولة الفلسطينية مقابل دعم عربي للسياسة الأمريكية في العراق، وبشكل رئيس تقديم الدعم على الصعد كافة لمواجهة المشروع الأمريكي.
وهنا تحاول الولايات المتحدة أن تسير في خطاها بشكل متوازي ففي الوقت التي تلتقي به رايس بوزراء خارجية دول الرباعية العربية الموالية للولايات المتحدة للحديث في الجوانب السياسية تلتقي مع مدراء مخابرات هذه الدول حتى يتم تنسيق الجهود الأمنية. حيث من الواضح أن أجهزة المخابرات العربية تمتلك من المعلومات عن المقاومة في العراق وغيرها الكثير مما تحتاجه أجهزة الأمن الأمريكية. ولذلك يمكن القول إن التقاء رايس مع مدراء المخابرات يعني أن التنسيق الأمني قد قطع أشواط بين الطرفين، وأن الاجتماعات تدخل باب تنفيذ الخطط الأمريكي في مواجهة المشروع الأمريكي. ولذلك من الموقع ازدياد وتيرة الزيارات المكوكية لرايس إلى المنطقة مع ازدياد أزمة الإدارة الأمريكية في العراق، ومع تسارع وتيرة التوتر والمواجهة مع المشروع الإيراني.
إن ما يحدث الآن هو محاولة رسم الشرق الأوسط الجديد وفق الرؤية الأمريكية، وإعادة توزيع مراكز القوى السياسية الإقليمية، حيث ستبرز قوى، وتضعف قوى. وفي الوقت نفسه محاولة إدارة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي خدمة للمشروع الأمريكي في المنطقة. والتساؤل المطروح هل توجد هناك رؤية عربية واضحة وموحدة لما يجري، واستثمار ذلك من أجل المصلحة العربية أم استجابة للإملاء الأمريكي حفاظاً على بقاء هذا الأنظمة؟ هل ما يجري يصب في مصلحة الأمن القومي العربي؟ هل ستستفيد الدبلوماسية الفلسطينية من المستجدات الإقليمية والدولية أم ستكون ضحية لها؟ هل ستقود زيارات رايس إلى مؤتمر سلام جديد يعيد المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية إلى سكتها السابقة؟
التعليقات