لقد نفد صبر القيادات الكردية إزاء تنفيذ المادة 140 من الدستور العراقي بحسب رئيس وزراء الأقليم..والرئيس طالباني صاحب الشعار المعروف ( كركوك قدس الأكراد) ورئيس الأقليم مسعود بارزاني الذي ورث شعار ( كركوك قلب كردستان) عن والده الزعيم الراحل الملا مصطفى البارزاني قد دخلا الخط أيضا، ويشددان من لهجتهما تجاه تنفيذ المادة 140، وينتقدان مماطلة الحكومة العراقية لتنفيذها وفقا للمراحل المقررة لها في الدستور العراقي والتي تنتهي بنهاية العام الجاري، لتعود كركوك حسب توقعات الأكراد الى حضن كردستان الى الأبد بشرعية الإستفتاء الدستوري..
لا أخفي حقيقة مؤداها أن قضية كركوك أستغلت في بعض الأحيان لمزايدات سياسية من قبل أحزاب وقوى كردستانية خصوصا أثناء الإنتخابات المحلية، وأهملت في أحيان أخرى بسبب صفقات سياسية بين القيادات الكردية والحكومة العراقية أثناء جولات التفاوض بينهما، ولكن ذلك لا يمنع القول أن السياسات الشوفينية للحكومات العراقية المتعاقبة، كانت لا تسمح تحت أي ظرف كان التنازل عن كركوك للأكراد رغم أحقيتهم التاريخية بهذه المدينة التي تثبت الكثير من الوثائق التاريخية التي لا يمكن الجدال حولها، كونها جزءا من كردستان العراق.

وحاول النظام البعثي منذ إستيلائه ثانية على حكم العراق بانقلاب 1968 التنصل مرارا من حل هذه القضية التي كانت أحد أهم مطالب الثورة الكردية المعاصرة بقيادة الزعيم الراحل الملا مصطفى البارزاني الذي وقع إتفاقية آذار عام 1970 مع الحكومة العراقية والتي نصت على تأجيل حسم تلك القضية الى مراحل أخرى،خاصة وأن حكومة البعث كانت في تلك الفترة في طور تأسيس نظام دكتاتوري قمعي وشوفيني لا يعترف بحقوق أي قومية أخرى في الحياة غير القومية العربية التي نصب حزب البعث نفسه حاميا لحماها.

وبعد إنهيار ثورة الملا مصطفى البارزاني خلا الجو أمام السلطة الدكتاتورية للبدء بتدشين سياسة شوفينية بغيظة قوامها التهجير والترحيل القسري للسكان الأصليين في إطار سياسة تهدف الى التطهير العرقي للسكان وتغيير الواقع الديموغرافي للمدينة. وفي ظل غياب المقاومة المسلحة لتلك السياسة الخبيثة نجح النظام العراقي في تشريد مئات الألوف من السكان وترحيلهم خارج كركوك، ومسح السمات التاريخية للمدينة بإجراءات وقوانين تعسفية تهدف الى طمس المعالم الكردية عن هذه المدينة الغنية بالنفط التي تغذي 90% من ميزانية الدولة العراقية منذ عقود.

ولا نستطيع إغفال حقيقة كون الصراع الدائر حول المدينة ذات طابع إقتصادي بحت، يرتبط بشكل أو بآخر بحلم تشكيل الدولة الكردية الذي يراود الزعماء الأكراد منذ إعلان ثوراتهم على الحكومة، خصوصا في النصف الثاني من القرن الماضي حينما تحول النفط الى عنصر أساسي لصراع القوى الكبرى على المصالح خصوصا في منطقة الشرق الأوسط.فدول الخليج الصغيرة التي تشكلت كياناتها السياسية في تلك الفترة كان النفط أحد العوامل الأساسية لتأمين حماية الدول الكبرى لها،فلم تكن للدول الخليجية الناهضة في الفترة غير النفط المتدفق من أراضيها وسط صحراء مترامية الأطراف ليؤمن لها الحماية الدولية بوجه أطماع دول المنطقة، ولعل القادة الكرد إستوعبوا هذا الواقع جيدا في خضم سعيهم الدائب نحو تأسيس دولتهم القومية. ففي ظل لعنة الجغرافيا التي أوقعت الأكراد بين أنياب أربع دول عنصرية ( تركيا وإيران والعراق وسوريا) والتي تنتهج بمجملها سياسات شوفينية تقوم أركانها على إنكار حقوق القوميات الأخرى، بل ونفي وجودها على الأرض مثل الأتراك والعرب،مما يجعل من الصعب بل ومن المستحيل لهذا الشعب أن يتنفس داخل دولته ورقبته مطوقة من قبل هذه الدول الشوفينية، لذلك من الطبيعي أن تسعى القيادات الكردية بكل قوتها نحو إمتلاك ( ثروة ) يمكنها تأمين الحماية اللازمة لها إذا ما قدر لتلك الدولة المزعومة أن ترى النور في يوم من الأيام.

من هنا نستطيع تبرير مخاوف بعض دول الأقليم من إمتلاك الأكراد لكركوك، ففي الحقيقة لا نملك إلا تأييد مخاوف قادة دول الجوار من أن إعادة كركوك الى أقليم كردستان تعني الخطوة الأولى نحو الإنفصال عن العراق. فتلك حقيقة لا يمكننا إنكارها. وإلا ما هو السر في تمسك القادة الأكراد بضم كركوك الى أقليم كردستان في الوقت الذي ينص الدستور العراقي الجديد على إبقاء ثروات البلد تحت سيطرة الحكومة المركزية التي توزعها على مناطق العراق حسب النسب السكانية، فالحصة الكردية من ثروات البلد مضمونة طالما بقي الدستور العراقي،وفي حال تعطيله سيكون لكل حادث حديث!.

المهم،أن كركوك تحتل أولى أولويات القيادة الكردية في مرحلة ما بعد سقوط صدام حسين، ولايخفي القادة الأكراد موقفهم تجاه مسألة التطبيع الدستوري لكركوك بوصفها ( مسألة مصيرية) وبإعتبارها مسألة لا يمكن التنازل عنها، لذا فإن المحاولات جارية لإرغام الحكومة العراقية للإسراع بعملية التطبيع، خصوصا وأن القيادة الكردية اليوم طرف فاعل في العملية السياسية الجارية في العراق ولها دور مهم في إتخاذ القرار السياسي ببغداد،وتدرك هذه القيادة جيدا، أنها إذا لم تتمكن اليوم من إنتزاع حقوق الأكراد في كركوك في ظل حكومة عراقية ضعيفة،،فمن الصعب أن تنتزعها في ظل حكومات قوية قادمة إذا قدر لها أن تقوم، لذلك تراها تسابق الزمن للوصول الى أهدافها في حسم مشكلة كركوك،وبناء على ذلك فإن هذه القيادة تتمسك بمواقفها الرافضة لأي تأجيل لقضية التطبيع وفقا للمادة 140 وما يتبعه من إجراء إستفتاء على مصير المدينة، وطبعا لها الحق في ذلك بسبب تراكم الخبرة لديها من تنصل الحكومات السابقة من إلتزاماتها تجاه هذه المسألة بالذات.

إذن،القادة الأكراد يلعبون بمهارة فائقة في ظل الأوضاع السياسية الراهنة في العراق، ويمسكون بأوراقهم بصورة جيدة، وهذا من حقهم الطبيعي خاصة وأن مسألة تحديد هوية كركوك الكردستانية مسألة لا جدال حولها، ولكن تداعيات أي حل على أرض الواقع قد لا تكون مرضية حتى للأكراد في المستقبل. وأعتقد أنه بقدر ما جنى العراقيون من ( خيرات!) سقوط النظام الفاشي في العراق، فإن ما يجنيه الأكراد من خيرات عودة كركوك الى أحضانهم قد لا تختلف كثيرا، خصوصا وأن قضية كركوك لها تداعياتها الأقليمية بالإضافة الى تداعياتها الداخلية.

ففي البداية نحن نعلم مدى حساسية الأتراك من مسألة كركوك، وهناك الكثير من التصريحات الرسمية تصدر عن الحكومة التركية تتعارض تماما مع ما يطمح اليه الأكراد، بل أن هناك تهديدات واضحة من تركيا في حال الخروج من هذه المسألة بمكاسب لصالح الأكراد في جنوب كردستان. وتركيا التي تتغلب على حكوماتها المتعاقبة منذ تشكيل الدولة من قبل مصطفى كمال أتاتورك في عشرينات القرن الماضي،سياسات عنصرية تنفي وجود الشعب الكردي في الأصل، لا أعتقد أنها ستتساهل بتسليم كركوك الغنية بالنفط الى يد أكراد العراق، فموقفها المهادن الان الذي يساير التوجهات الدولية بالتهدئة في العراق للظروف التي يمر بها حاليا، ستكون مختلفة تماما عن موقفها في حال ظهور نتائج الإستفتاء على هوية كركوك، وهي نتائج تبدو مضمونة بالنسبة للأكراد.

ولا أعتقد أن موقف إيران سيكون بأقل قوة من موقف تركيا خصوصا وأن أكراد العراق يأوون منذ سنوات طويلة أكراد إيران ويقدمون الكثير من أشكال الدعم لثوارهم في إيران.وكذا الحال بالنسبة لسوريا التي بدأت ملامح الحركة الكردية فيها بالبروز خلال السنوات الأخيرة التي أعقبت سقوط نظام صدام وقيام علاقات قوية بين الأحزاب السياسية الكردية في سوريا مع القادة الكرد في العراق.

وعلى الصعيد الدولي، فبرغم أن الأكراد يحظون بدعم أمريكي وبريطاني كبير فيما يتعلق بحقوقهم القومية المشروعة في العراق، ولكن علينا أن لا نغفل حقيقة تشابك المصالح الدولية في المنطقة، وأنه ليس كل ما تقرره هاتان الدولتان سينفذ على الأرض، خصوصا وأن لهاتين الدولتين حلفاء في المنطقة يفوقون منزلة عن القيادات الكردية في العراق، وأن هولاء الحلفاء سيحتاجون الى تركيا في المستقبل، لا سيما وأن مشكلة المياه التي تعتبر مشكلة مستقبلية في المنطقة خلال القرن الجديد ستلعب دورا مهما في إعادة صياغة التحالفات في المنطقة، وتركيا تمتلك ثروة هائلة من المياه التي قد تفوق بأهميتها ثروة النفط في المنطقة مستقبلا، ما يؤهلها لتكون لاعبا أساسيا في الصراعات القادمة.

أما على الصعيد المحلي، فهناك تشابك المصالح أكثر تعقيدا، فكركوك التي تضم قوميات ومذاهب وأديان مختلفة تتناقض توجهاتها ومواقفها وتتصادم في كثير من الأحيان،يتشابه وضعها الراهن مع وضع بغداد ما بعد سقوط صدام التي طغت عليها كل الصراعات العرقية والمذهبية والسياسية ما أدى بها الى الإنحدار الكلي بسبب العنف الطائفي. فما الذي يمنع أن تنتقل العدوى مستقبلا الى كركوك، وأن تحشد القوى الإرهابية المتربصة بالتجربة العراقية الجديدة ومعها قوى سياسية عنصرية سواء من فلول النظام البعثي السابق، أو قوى شوفينية مشاركة في الحكم حاليا ولها ميليشياتها،كل قواها من أجل تحويل كركوك الى ما يشبه جحيم بغداد الراهن؟!. فنحن نتوقع أن تتحول كركوك فعلا الى بغداد ثانية وأن تملأ الجثث شوارعها في حال عدم توصل جميع الأطراف المعنية بهويتها الى إتفاقات واضحة مدعومة من دول الأقليم المعنية بدورها بقضية كركوك،وهذا ما نستبعد حدوثه في ضوء قراءتنا للمواقف السياسية من عملية التطبيع التي لم تبدأ بعد.فالمصالح الأقليمية والمحلية أكثر تعقيدا مما نتصوره،خصوصا فيما يتعلق بتحديد هوية كركوك، وهي أكثر حساسية من مسألة ربطها بأقليم كردستان.

نحن نعلم جيدا أن تعقيدات الأوضاع السياسية والأمنية الراهنة في العراق لا تساعد البتة على الشروع بعملية تطبيع ترضي جميع الأطراف المعنية بقضية كركوك،وأن تشابك المصالح الأقليمية والدولية ستعقد المشكلة أكثر فأكثر، وأنه في ضوء تسلح جميع القوى السياسية الراهنة في العراق، وفي ضوء التصارع الدموي الطائفي ووجود الميليشيات السائبة لا يمكن أبدا الخروج بحلول مرضية لجميع الأطراف، فما الضير لو فكرنا اليوم وبعقل مفتوح على قراءة الوضع الحالي في مسألة تأجيل عملية التطبيع وترحيلها الى مرحلة لاحقة؟؟. فالتهدئة أفضل بإعتقادي من تسريع العنف العنصري الذي لم يجن منه الشعب الكردي سوى الويلات والمآسي طوال تاريخيه القديم والحديث، فالشعب الكردي كان على الدوام ضحية لمثل هذا العنف، ولم يعد يحتمل تضحيات كبرى حتى لو كانت القضية مهمة بل و( مقدسة) بنظر القيادات الكردية، خصوصا وأن الشعب الكردي الذي تحرر من الدكتاتورية يحق له أن يبدأ ببناء مجتمعه المدني الذي دشنه فعلا منذ بضع سنوات، وأن يرتاح من مشاهد الدماء الغزيرة التي سالت في أوديتها وجبالها، ولا حاجة له بإسالة دماء 140 ألف إنسان آخر على مذبح المادة 140 من الدستور العراقي لضم كركوك الى أقليم كردستان قسرا.
إن المستقبل بعد إنحسار ظل الدكتاتوريات في العراق، كفيل بنهوض جيل جديد متسلح بالثقافة المدنية وبروح التسامح والتصالح، عندها ستهون جميع الصراعات القومية والمذهبية والدينية أمام ترسيخ ركائز المجتمع المدني والتطلع الى مستقبل أفضل لأجيالنا القادمة.

[email protected]