ما أحوج أبناء مجتمعاتنا في هذا الزمن حيث تسيطر الأجواء المادية على الحياة العامة عبر انشغال الجميع بترتيب الأحوال المعيشة والأوضاع الشخصية، (على حساب الحياة الإنسانية والاجتماعية مؤدية إلى ضعف التواصل الأسري والاجتماعي وربما القطيعة... ) للأجواء والمناسبات التي تذكره بما يحيي قلبه ومشاعره بالقضايا الإنسانية والاجتماعية
والعائلية.


عيد الأم من تلك المناسبات الجميلة والمهمة في هذا الزمن التي تستحق الاهتمام ليتذكر المرء دور الأم العظيم الرائع، ويراجع نفسه وحساباته ومواقفه أمام هذا الملاك العظيم الطاهر المتجسد في صورة بشر.

ولكي تتذكر المرأة (الأم) دورها السامي لممارسة الأمومة الحقيقية التي تفيض حبا وعطفا وحنانا ورحمة وتضحية لصناعة جيل قادر على تحمل المسؤولية الإنسانية الحقيقية وبناء مجتمع ناجح.


هل هناك تقصير من أبناء المجتمع اتجاه الأم؟

هل المرأة( الأم ) تدرك أهمية دور الأمومة أم أنها انشغلت بالحياة المادية في طلب المعيشة ومتابعة الموضة والبحث عن إشباع الذات... وتخلت عن دورها المقدس (تربية الأبناء) للخادمة والحضانة؟

هل لغياب الأم الحقيقية عن ممارسة مسؤوليتها اتجاه الأبناء دور في نماء القسوة والفساد في المجتمع؟


الأمومة رسالة سامية ومسؤولية عظيمة باقية مادام الإنسان موجود على ارض البسيطة في كل الأزمان، وهي مصدر المحبة والعاطفة والدفء والصفاء والمودة والرحمة... والأم هي الكائن الوحيد حيث يشعر الابن بقربه بالراحة والأمان والاطمئنان والسلام والقوة. فرغم ضعف الأم الجسدية وقسوة العادات والتقاليد الاجتماعية (بحيث أصبحت بلا حول ولا قوة) فهي الملجأ الآمن في كل الأمور والظروف وهي مصدر القوة الخارقة ومنبع الطمأنينة والارتياح للإنسان (الابن) مهما كبر ومهما بلغ من قوة ومكانة...

والأم الحقيقية هي المخلوق الوحيد الصادق المحب الذي يدعو لأبنائه بصدق ويتمنى لهم كل خير، وفي ظل وجود الأم فالابن يشعر بنشوة الفرح والفرج عندما يسمع دعاء أمه بحقه وكأن باب استجابة الدعاء مفتوح بوجوده.. فهي باب الدعاء المستجاب حيث إن( دعاء الأمهات بحق أبنائهن مستجاب)، وهي التي تقف بقدميها الطاهرتين بشموخ على أبواب الجنة التي هي طموح كل إنسان... كما أوضح الرسول الأعظم (ص) بقوله الكريم: (الجنة تحت أقدام الأمهات).


صور للأمومة

ولازالت الأم تضرب أروع الصور الإنسانية في التضحية والرحمة والمحبة.

احد الأصدقاء نقل لي القصة التالية من واقعنا الاجتماعي:

جاءت امرأة كبيرة في السن إلى المقبرة تجر معها الحزن والآنيين...، تتخطى بصعوبة بالغة القبور... حتى وقفت على قبر حديث وهي تبكي بحرقة قائلة: اللهي اغفر لابني ولا تعذبه على تقصيره اتجاهي، ربي إني تنازلت عن حقي وقد سامحته على تقصيره نحوي ومقاطعته لي أكثر من 15 عاما.

إنها صورة من رحمة الأمومة الملاك الطاهر بجسد بشري، فرغم آلامها وتأثرها العميق بعقوق ابنها التي لم تراه 15 عاما إلا إنها كانت حريصة على أن ينام ابنها في قبره الأخير بسلام وآمان كما كانت تفعل معه في المهد عندما كان طفلا صغيرا. وان تبادر للوقوف على قبره سائلة الله تعالى بقلب حزين وبكلمات صادقة أن يرحمه ولا يعذبه بسببها.


حقوق الأم

من المؤلم جدا أن يحدث ذلك في مجتمعنا بحيث يقاطع الابن والديه لمدة عقود من الزمن لأسباب دنيوية أو تافهة أو لأسباب حقيقية... إذ إن فضل الأم (الوالدين) لا يمكن رده فهم السبب في وجود الأبناء وحقوقهم عظيمة. وما أحوجنا في هذه المناسبة التأمل في حقوق الأم كما جاء في رسالة الحقوق للأمام علي ابن الحسين زين العابدين (ع).

(فحق أمك أن تعلم أنها حملتك حيث لا يحمل احد أحدا، وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يطعم احد أحدا، وأنها وقتك بسمعها وبصرها، ويدها ورجلها وشعرها وبشرها. وجميع جوارحها، مستبشرة فرحة، محتملة لما فيه مكروهها والمها وثقلها وغمها، حتى دفعتها عنك يد القدرة وأخرجتك إلى الأرض فرضيت أن تشبع وتجوع هي، وتكسوك وتعري، وترويك وتظمى وتظللك وتضحى، وتنعمك ببؤسها وتلذذك بالنوم بأرقها وكان بطنها لك وعاء وحجرها لك حواء وثديها لك سقاء، ونفسها لك وقاء تباشر حر الدنيا وبردها لك ودونك، فتشكرها على قدر ذلك ولا تقدر عليه إلا بعون الله وتوفيقه). رسالة الحقوق


الأم الايجابية

الأم هي العامل المؤثر على صناعة الأجيال النموذجية، وهي الأقدر على بناء أسرة ناجحة، وبناء علاقة قوية بين الأبناء (الأخوة) متجانسة متعاضدة متحابة متعاونة... من خلال تربيتها وتعاملها الواعي، وان الفضل في وجود الأسر النموذجية الناجحة يعود بدرجة كبيرة إلى دور الأم الايجابي التي تسعى دوما إلى خلق الأجواء التي تساهم في بناء جسور المحبة والصفاء والتعاون والتضحية بين الأبناء ومحاسبة الأبناء المقصرين... كيف لا وهي القدوة الحسنة ومصدر العلاقات الايجابية.

ولابد من خلال هذه السطور الوقوف إجلالا واحتراما للأمهات الايجابيات اللاتي تحملن الكثير من المعاناة والإهمال تارة من قبل الأزواج وتارة أخرى من قبل المجتمع... واستطعن أن يخرجن أبناء صالحين شرفاء في ظل اسر نموذجية.

(فالأم الواعية المؤمنة المخلصة تنتج مجتمعا واعيا محصنا بالتقوى والورع).

الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق


الأم السلبية

كما إن الأسر المتفككة والعلاقات الأخوية غير المتعاونة تعود بشكل كبير إلى دور الأم السلبي... التي لم تتحمل مسؤوليتها التربوية بصورة صحيحة وسليمة في خلق الأجواء الايجابية السليمة داخل الأسرة وبين الأبناء. إذ إن بعض الأمهات مشغولات بحيتهن الخاصة الذاتية الأنا على حساب العائلة ومهملات بحق الأسرة وبحق الأبناء، وأحيانا يمارسن بلا وعي وإدراك وربما بغفلة أساليب خاطئة في التربية عبر
الإهمال والتفضيل بين الأبناء.

وان انشغال الأم بالأمور الدنيوية والموضة بدون وعي... وإهمال دور الأمومة الحقيقية وترك الأبناء في أحضان المربيات والخادمات بدون متابعة ومراقبة فالنتائج ستكون عكسية (فالخادمة مهما بذلت لن تستطيع أن تكون أما أو تسد مكان الأمومة في نفس وشخصية الأبناء).

وان كثير من المشاكل الاجتماعية في مجتمعنا ترجع إلى وجود تقصير في جانب التربية داخل الأسرة من قبل الوالدين لاسيما من قبل الأم إذ إن الأم هي صانعة الأبناء. ويوجد في المجتمع العديد من الصور المؤلمة لنماذج الأم السلبية كالتي تتخلى عن أبنائها بسبب عشيق وحبيب أو لأجل خلاف مع الزوج المهمل... من اجل تحقيق رغبات وقتية... وهناك أمهات مجردات من مشاعر الأمومة كالتي ترمي فلذات قلبها أو تقتله... كما أصبحنا نقرأ عن الأمهات الخائنات!.

(إذا تخلت الأم عن دورها الحقيقي بتحمل المسؤولية يعني ضياع الأجيال وفساد المجتمع... ويؤدي إلى مجتمع يفتقد للمحبة والعاطفة والمودة والرحمة، وان الأم القاسية تؤدي إلى صناعة جيل من أصحاب القلوب القاسية)


الأمومة المقدسة

وتبقى الأمومة المقدسة الحقيقية شلالا متدفقا من المحبة والرحمة والتضحية والعاطفة والعطاء بلا حدود... وهي المدرسة الأولى الأقدر على صناعة بيئة وجيل متجانس قوي متعاون ايجابي داخل الأسرة والمجتمع والأمة. وان إصلاح الأسرة و المجتمع ينطلق من خلالها.. ولهذا فان الأم التي تبذل حياتها من اجل سعادة أبنائها تستحق من أبنائها ومجتمعها الكثير الكثير.


وإذا كانت الأمومة بهذه المكانة العالية المهمة في حياة البشر وفي إصلاح المجتمع... لا بد من الاهتمام بالفتاة منذ نعومة أظافرها والاعتناء بها اشد الاعتناء من الناحية الصحية والثقافية والعلمية والاجتماعية والسياسية والقيادية والدينية لأنها قائدة المجتمع بل صانعة الإنسان ثقافيا وعلميا واجتماعيا ودينيا بل أنها أم الإنسان مهما كان. (من الأمهات تبنى الأمم).


أمل لجميع أخواني في الإنسانية إذا كانت هناك قطيعة مع الأم أن يتخذوا من هذا المناسبة فرصة للتوجه إلى أحضانها الدافئة ونسيان ما مضى فالأم مصدر الأمان والاطمئنان وليس هناك صدر أوسع من صدر الأم لأبنائها (لا توجد في الدنيا وسادة انعم من حضن الأم، ولا وردة أجمل من ثغرها) كما قال شكسبير.


أحب الناس لي أمي ومن بالروح تفديني

فكم من ليلة قامت على مهدي تغطيني

بصوت هادئ عذب وإنشاد تغنيني

تخاف علي من برد ومن حر فتحميني

ومن الم ومن مرض أناديها فتأتيني

بروحي سوف افديها كما بالروح تفديني

واسعي في هناءتها كما تسعى وترضيني


وبهذه المناسبة (التي يمنع الاحتفاء بها في بلادي على أساس أنها بدعة ويتم
محاربتها!) أتقدم لك يا أمي الغالية يا عز من في الوجود... يا صاحبة القلب المفعم بالمحبة والرحمة والصفاء والتضحية.. بأصدق عبارات التهاني والتبريكات بعيد الأم.. معتذرا لكي عن أخطائي طالبا العفو والمغفرة، ساعيا لرضاك.. (رضاء الله من رضاء الوالدين)، سائلا العلي القدير أن يطيل عمرك وأنت بصحة وعافية.

علي آل غراش