ليس خبراً عادياً، أو عابراً، البتة، أن ترى، وعلى الصفحة الرئيسية لجريدة الثورة السورية، وبـquot;الفونتquot; العريض، نبأ إلقاء الحجز الاحتياطي على أموال وزير التربية السوري الأسبق محمد غسان الحلبي، وذلك لتأمين مبالغ مالية تقدر بالملايين نتيجة عقود خاصة بالأتمتة. وجاء في حرفية الخبر لعدد الثورة اليوم الجمعة، وعلى صدر الصفحة الأولى:

quot;الحجز على أموال وزير التربية الأسبقquot;

وتفصيلياً،ً دمشق- الثورة: علمت الثورة بأنه تم الحجز الاحتياطي على أموال وزير التربية الأسبق محمد غسان الحلبي لتأمين مبالغ مالية تقدر بالملايين نتيجة عقود خاص بالأتمتة. (انتهى اقتباس الثورة السورية).

وخبر كهذا، وكما هو معلوم، لا يمر، بالعادة، إلا بعد سلسلة من quot;الفلتراتquot; غير العادية، إلا أنه قد يعكس توجهاً جدياً، وصادقاً في مكافحة الفساد والمفسدين، وتقديمهم للعدالة ولو بعد حين، ورسالة في أكثر من اتجاه.

وللعلم فأن هذه الأتمتة قد أصبحت quot;سحلفةquot; وquot;عنعنةquot;، على أيدي بعض المسؤولين السوريين، من على شاكلة هذا الحلبي وأمثاله. ولا داعي لذكر نوادر ومآثر الإنترنت والأتمتة في سوريا، وما انتهت إليه. فهناك فضيحة أخرى موازية، تزكم لها الأنوف، يتم التحقيق فيها حالياً فيما يتعلق بقطاع الاتصالات السورية الذي أتـُمن البعض عليه، من قبل قيادتهم. هذا القطاع العصري والهام، الذي يعكس، في المآل، مدى التقدم الذي وصلت إليه أية دولة في العالم من رقي، وازدهار. وللتذكير، فقد صار هناك، وحتى، في بعض الدول الخليجية الصحراوية، حكومات إليكترونية قائمة ومستقلة بذاتها، ويمكن لأي مواطن تسيير الكثير من أموره اليومية الروتينية وتعقيب معاملاته الخاصة وإنجازها، وهو جالس وراء كومبيوتره، في البيت ودون أن يبرح مكانه، أوالاستصباح بوجه أي من الموظفين اللصوص الانكشارين الذين لا يتورعون عن سلبه ونهبه والسطو على ما في جيوبه. وفد قمت شخصياً بإنجاز بعض المعاملات الخاصة إليكترونياً في يوم من الأيام.

وإنه لأمر بالغ الأهمية والدلالة، أن ترى ذلك الخبر على صدر صفحة جريدة سورية رسمية،
تتمتع بالرصانة والتحفظ الشديد فيما يتعلق بأخبار رسميين رفيعي المستوى من هذا القبيل. هذا إذا علمنا، سلفاً، أن الوزير السابق الحلبي، قد quot;احتلquot; قطاع التربية السورية لأكثر من عقدين من الزمن، حيث كان في السابق مديراً لتربية محافظة دمشق، القطاع الأهم، والأكبر على الصعيد التربوي سورياً، وأكمل مهمته quot;التربويةquot; العظيمة، كوزير مزمن للتربية السورية، حتى كاد أن يصح القول يوماً بأن وزارة التربية السورية هي وزارة الحلبي، التي اقترنت باسمه بالذات. كما تردد اسمه، في غير مناسبة، وذات يوم، كمرشح لمنصب الوزير الأول. وكان مجرد توقيع منه يعتبر كـquot;طاقةquot; قدر من السماء، وقد انفتحت للمدرّس أو المدرّسة، نتيجة الطوق الذي فرضه حول نفسه، حيث لم يكن يصل له إلا كل quot;مَرْضِيّquot; وquot;طويل عمرquot;، نتيجة للعظمة والأبهة والعصمة الثورية، والمهمة القومية المقدسة التي كان يحملها quot;المسكينquot; فوق ظهره طوال سنوات نضاله العظيم والمرير في حقل التربية السورية، والذي آل على نفسه إلا أن يكملها بنهب قطاع الأتمتة والإجهاز عليه. هذا الوزير نفسه كان يسمى بالوزير الـquot;عقدةquot;، وكان لا يمهر توقيعه الميمون، إلا بعد سلسلة من التعقيدات الإدارية، والعوائق القانونية، والإجراءات الشكلية التي تذهب بروح صاحبها، قبل أن ينال مواقفته، ورحمته، ورضاه الثوري، والقومي، وها هو اليوم أحد المطلوبين للعدالة، فأي دماغ وعقل سوي يستطيع أن يتحمل تلك المفارقات؟ وكيف تتلبس أية شخصية كل تلك المتناقضات؟

والانطباع والتعليق المباشر الذي يتلو قراءة مثل هذا النبأ، هو أن نقول للجهات الرقابية السورية، quot;نعيماًquot;، وصح النوم، على هذه الاستفاقة، وإن بدت متأخرة quot;ليسquot; بعض الشيء. ورغم أن quot;اللي ضرب ضرب، واللي هرب هربquot;، والندم حيث لا ينفع النفع. وإذا كان موظفاً كبيراً بحجم وصفة وزير يتصرف بهذه الطريقة، فهل يتبقى ثمة عتب على موظفين صغار quot;لهثانينquot; أن يقوموا بتلك الممارسات المخزية، والمشينة التي نسمع عنها يومياً، حيث أصبح بعضهم quot;لورداتquot;، وأصحاب quot;عزبquot; وأطيانquot;، وميزتهم الوحيدة في الحياة، هي الموهبة الشفطوية، والغباء المستفحل، والفشل المحبط، والإخفاق المستمر. وإذا كان وزير التربية يتصرف على هذه الشاكلة فهل نلوم موظفو المالية، أو الجمارك، والطابو، والبلديات إذا بدت منهم مواهب وميول مافيوزية كثرت في الآونة الأخيرة. وقد أصبح كثير من هذه الوظائف يحتاج لواسطة، وquot;خلو رجلquot;، وهو مبلغ طائل يدفعه صاحبه للحصول على هذا الشرف العظيم والوسام الرفيع، الذي لا يناله في ساحات الوغى والقتال، ولا يهم في هذه الحالة مدى ما يتسم به المرء من ذكاء، وثقافة، ومواهب، وإمكانيات، بقدر ما يتمتع به من quot;دعمquot; ومواهب شفطوية ونهبوية، وكروش كبيرة قادرة على بلع كل ما يقف أمامها من مغريات.

إذا فسدت التربية والقضاء، فسدت أمور البلاد والعباد، وانهارت القيم والأخلاق. ولا عجب بعد اليوم إن رأينا هذا الكم الهائل من الانهيار القيمي، والمعرفي، والأخلاقي، إذا كان من هو قيم على التربية، ومؤتمن على عقول الناشئة والأبناء أن يتصرف بمافيوزية، وانتهازية، ولصوصية لا يتمتع بها حتى الشبيحة، والوشيشة والسماسرة وقطاع الطرق، والخارجين على القانون. ولنا حق التساؤل بعد هذه المعمعة المافيوزية أي جيل تربوي هذا الذي نتوقعه إذا كان وزير التربية نفسه لصاً، ولكن لصاً غير ظريف؟ وأي مستقبل لهذه الأجيال إذا كان بعض القائمين على بعض القطاعات مثل التربية هم مجموعة من اللصوص والحرامية والسرسرية والانكشارية الذين لا يرعوون، ولا يتورعون عن ارتكاب الموبقات في سبيل منافع وغايات شخصية دنيئة وصغيرة؟

وأخيراً هل هناك ذنب للقيادة السياسية إن وضعت ثقتها في غير من يستحق أن توضع به أية ثقة، ولا يؤتمن على أي شيء؟ وهل تضع عنصر مخابرات فوق رأس كل موظف من هؤلاء؟ وهل تكفي هذه البهدلة والشرشحة وتكون عبرة لمن يعتبر لغيره من اللصوص والأشقياء؟ أم أن الأمور ستسير كالمعتاد، وكأن شيئاً لم يكن من الأساس؟ وهل هناك حدود للجشع والطمع والبلع الذي يتمتع به بعض الأفراد؟ وألا يكفي الإنسان وصوله لمنصب وزير لكي يحقق طموحاته الشخصية ويحمد الله؟ أم أن عين الإنسان الصغير لا يشبعها أو يملأها إلا حفنة من التراب؟

ويبقى السؤال الأهم هل أصبح حتى وزير التربية، في أوطاننا، بحاجة إلى تربية وإصلاح؟ وإلى أي نوع من quot;التربيةquot; يحتاج؟

نضال نعيسة
[email protected]