يخبرنا التاريخ وبكثير من التفصيل، عن الحضارات العظيمة التي شيدها الإنسان هنا، وهناك، وبلغت شأناً من الرقي والتحضر ما يثير الإعجاب، والتوقف عنده طويلاً. وتلك الحضارات، وفي معظمها، لم تنشأ بأمر من السماء، وكان معظمها وثنياً ولا دينياً، ولم تقم على فكرة الغيب، بل كانت تتعامل مع الواقع بموضوعية وعلمية مذهلة، تراقب، وتتابع، وتحلل، وتعطي الحلول للكثير من المعضلات والمشاكل المعاشة. فحمورابي، مثلاً، سطـّر أعظم قانون وضعي عادلاً وموجوداً حتى الآن، وأقام حضارة ما تزال ماثلة في الأذهان، يتذكرها الجميع بمشاعر من الفخر والتأمل والاعتزاز. والفراعنة المصريون القدماء، أقاموا حضارة عظيمة منظـّمة، بنوا فيها الأهرامات الشاهقة التي تدل على تكامل رياضي وهندسي وإنشائي وحسابي فذ ومتناسق، يعكس مدى التقدم التقني الذي وصلوا إليه، وما تزال الكثير من فصولها وأسرارها ألغازاً تكرس لها مراكز البحوث العالمية، ميزانيات ضخمة لسبر أغوارها، ومعرفة مخبوءاتها، وقد تم كل ذلك دون، وبالطبع، دون فتوى من الأزهر الشريف، أو شرح وإطناب طويل من العالم الجليل محمد متولي الشعراوي.
كما كانت هناك مثلاً الحضارات الإغريقية، والرومانية، والآرامية، والسيريانية، والآشورية، والسومرية، والبابلية، والفينيقية. ولا يزال فكر وفلسفة سقراط، وإفلاطون التي حرمها الفكر الديني أنموذجاً نادراً لتفتح العقل البشري الجبار. كما أن حضارة الأنكا تعتبر من أبرز الحضارات القديمة التي نشأت في أمريكا الجنوبية في البيرو وتحديداً في جبال الآنديز، وما يزال الغموض يلف أوجهاً عدة منها. كما كان ازدهار الحياة الاقتصادية والتبادل التجاري والحركة الثقافية في شبه الجزيرة العربية مثاراً للإعجاب. وكان سوق عكاظ quot;غربالاًquot; لكل ما يستجد من إبداعات فكرية وشعرية خلال عام في تلك المنطقة، وكانت تـُكرّم تلك الإبداعات بوضعها على جدار الكعبة، وانطفأ ذاك التقليد الإبداعي الرائع. وهناك، أيضاً، حضارة تدمر العظيمة، التي بنت أوابد عملاقة في قلب الصحراء السورية، وتولـّت فيها quot;الإمامة الكبرىquot;، والزعامة، امرأة حديدية هي زنوبيا السورية الأشهر، وهناك الكثير من الحضارات والمجتمعات التي نشأت وازدهرت وتركت شواهد باسقة تدل على عظمتها، وتميزها، وكان معظم ذلك على أسس وثنية، وضعية، ولا دينية.
جاءت الأديان على خلفية أن الأمم والشعوب قد بلغت من الفجور والفسق، والانحلال الخلقي، مبلغاً يلزم إعادتها لجادة quot;الحق والصوابquot;. وقوضت تلك الأفكار الدينية الوحدة والأخوة الإنسانية من هذا الباب، وقسمت بني الإنسان، إلى مؤمنين وهراطقة وزنادقة وكفار وملل وأطياف، وحقنت الناس بمشاعر الكراهية والعنصرية البغضاء. وأشعلت، بذلك، أتون الحروب، والعداوات، والثارات، والانقسامات، وبثت الحقد والكراهية والعنصرية وفكر العصمة والاستعلاء بين الناس. وكل دين كان يأتي، كان ينسخ ويبطل ما قبله، ويعتبره في غي وضلال وبأنه هو الوحيد الذي يمتلك ناصية الحق وجادة لصواب. وانقسمت الأديان نفسها، بفعل التقادم الزمني، وتآكل إيديولوجيتها وتعثرها، وعدم قدرتها على مواكبة التطورات، إضافة إلى إغراءات التسيـّد والزعامة لدى بعض الشخصيات، إلى ملل ونحل، وطوائف، وعشائر، ومذاهب، وجماعات تشن الحروب فيما بينها، وسيبقى يقاتل، والحمد لله، بعضها بعضاً إلى يوم البعث، والحشر، والنشور، والحساب.
إن قيام وازدهار حضارات ودول ومجتمعات على أسس لا دينية، كما نراه اليوم في كثير من دول العالم، وتخلف وكساح كثير من الدول تتمسك بأهداب الأديان، يبطل كلية تلك الخرافة السائدة القائمة على أن الحضارات يمكن أن تقوم فقط على أسس دينية تجلب الرفاه، والإزهار للإنسان. بل على العكس تماماً، لقد كانت الحضارات الوثنية، قديماً وحديثاً، أبقى، وأقوى، وخلـّفت أثراً بشرياً إبداعياً عظيماً. على عكس الحضارات التي قامت على أسس دينية وغيبوية فانتهت إلى انقسامات حادة ومذاهب متناحرة متصارعة وجغرافيات مفككة ومهلهلة ومتشرذمة. وغطـّت كثير من الأمم والشعوب والمجتمعات في سبات عميق بعد أن اجتاحها المد، والصراعات والخلافات التي لا تنتهي، والفكر الديني الهدّام، الذي شلـّها وعطل عقول أبنائها عن العمل، والعطاء، والإبداع، وبعد أن فوّضت أمرها، وكل شؤون حياتها إلى الغيب والسماء، الذي يبدو أنها، حتى الآن، لا تستجيب للدعاء.
إن أكثر المجتمعات التي تعاني الفقر، و تفتك بها الأمراض، والحروب، والمجاعات، الآن، هي تلك المجتمعات التي ما تزال تعيش صراعات دينية وفي سكرة الفوز بالجنان، وتتخللها انقسامات مذهبية حادة، وتشغلها اختلاف التفسيرات، وحملات التكفير والاستبراء، وهيمنة الوعاظ ورجال الدين على مناحي الحياة، وعن اللحاق بركب الحضارة الإنسانية جمعاء. وتتخلف مثلاً دول في قلب القارة الخضراء، مثل ألبانيا، والبوسنة، والشيشان، عن أوروبا سنيناً ضوئية، بسبب حلمها الوردي بالعودة إلى quot;المنابع والأصول والأجدادquot;. وفي الهند ما تزال الولايات التي ترزح تحت نير الاستبداد الديني تتخلف عن تلك الولايات والمقاطعات التي تنعم بشيء من الليبرالية والعلمنة. وأما دول أمريكا الجنوبية الكاثوليكية المحافظة، وتلجمها المحرمات والمحظورات، فتتخلف قروناً عن دول الشمال الأمريكي، ككندا والولايات المتحدة، المتحررة نسبياً من أغلال الأديان والتي اتخذت من العلمانية منهجاً لها في الحياة. وأما الباكستان، وبنغلادش، وكشمير فتتبوأ مركزاً سفلياً متدنيا يفصلها بمئات القرون عن جاراتها النمور والسباع والضباع الآسيوية الاقتصادية الأخرى. وفي إفريقيا السمراء حيث ما يزال المجال مفتوحاً للدجل والسحر والخزعبلات فإن الوضع لا يسر على الإطلاق، والصراعات القائمة على خلفية إيديولوجية وقبلية ما تزال جارية على قدم وساق. فيما نهضت أوروبا العلمانية من كبوتها الحضارية وسباتها القروسطي بعد أن خلعت أثواب الدجل والشعوذة والخرابيط والأساطير والخرافات عن كاهلها، ورمت جانباً بيزنس بيع صكوك الغفران، واتجهت للعلم وإعمال العقل في كل شيء، لتبني أعظم حضارة عرفتها البشرية على أسس لا عقيدية أو دينية حتى الآن؟ هل هناك سر في ذلك، أم أن كل ذلك محض صدفة عرجاء؟
كما بنى الروس الشيوعيون quot;الكفارquot; أعظم إمبراطورية وقوة عسكرية في التاريخ، وأرجو ألا يقولن لنا البنلادينيون الموظفون أمريكياً، سابقاً، ولاحقاً، بأنهم هزموا هذه القوة الجبارة، فمن قوّضها هو بوريس يلتسين، ومن وراءه الإصلاحي الروسي ميخائيل غورباتشيف، وأعطى أوامره بسحب قواته بعد أن تيقن أن تلك الشعوب التي أتى ليحررها تبدو عصية على التقدم والتحضر، وترفض العصرنة، وما زالت تعيش في القرون الحجرية والظلامية السوداء. وكانت قنبلة ذرية واحدة، مثلاً، كافية لإبادة أفغانستان بمن فيها، وعن بكرة أبيها بمن فيهم الظواهري وبن لادن وابن عزام. ورغم أن طالبان، المتجلببة العصماء والناجية من النار، أعدمت تماثيل بوذا في باميان في بداية العام 2000 فهذا لم يغفر لها ولم تنتصر على طائرات البي 52 التي هزمت الميثيولوجيا الدينية شر هزيمة نكراء، ولن تقم قائمة لحضارة الطالبان بعد الآن وبعد أن جربها وخبرها الناس والمجتمع الدولي. وبنى، ويبني الصينيون الوثنيون، والعياذ بالله، اليوم، واحدة من أكثر الحضارات البشرية نمواً وازدهاراً. وينافس اليوم التنين الصيني اللاديني والوثني، المارد الغربي العلماني في كافة المجالات. ولا داعي هنا للتذكير بالعملاق الياباني صاحب البوذية الوضعية الذي فاق التصور والخيال، والنمر الكوري الجنوبي الجامح، والنسر السنغافوري الجارح. ويتراكض المتدينون من كافة الأديان، وفي كافة بلدان العالم، وأصحاب العمائم واللحى لاقتناء المنتوجات اليابانية والتفاخر بها على الملأ، وأمام الناس.
لقد أثبتت التجارب الإنسانية العظيمة، والناجحة، والرائعة، إن كان على مر التاريخ، أو التي نعيشها الآن، أنه بمقدور الإنسان أن يعيش، ويبني أعظم الحضارات، ويحقق المعجزات في كافة المجالات، بعيداً جداً، وبمعزل عن الفكر الديني عامة، والذي نحترم، جداً، بقاءه خياراً شخصياً وحلاً نفسياً، لأي إنسان، إلا أنه لم يثبت، وللحق نجاعته، وفعاليته، وجدواه في هذا المجال.
نضال نعيسة
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات