ـ مقاربة ثانية ـ

في مقاربتنا الأولى تعرضنا لمفهوم المدنية الذي رأينا أنه يشتق من المدينة بكل ما تفرضه علائقها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والقيمية أولا، ومن إيحاء دلالي واضح المعالم في استغراق دلالاته لمفهوم العصرنة والبقاء في روحية العصر دوما بلا كلل أو ملل، فهذا التوتر الجديد الذي تخلقه المدينة والمدنية بالآن معا سيبقى يحكم العلاقة بين المنظور السياسي والمنظور المجتمعي في تدفق واضح للمعطيات التاريخية والراهنة وعلى كافة الصعد بين الفكر والواقع من أجل تحصينات خلقتها النقلة الأساس وهي نقلة ( الأمة ـ الدولة ) حيث من المفترض أن تكون الدولة هي التوسط الضامن لهذه العلاقة المهتزة دوما بين المجتمع ـ مجتمع هذه الدولة ـ وبين السلطة التي دوما لو اتيح لها لابتلعت الأخضر واليابس. فهذه الدولة هي التي تحمي السلطة من الفوضى وتحمي المجتمع من تغولات السلطة. يجمع الباحثون في هذا الشأن على أن: مفهوم الأمة قد وصل إلى أن يكون حاضنا لمجموعة بشر يطلق عليهم مواطنين يسكنون بلد المدينة والمدنية بالآن معا والحد الوحيد الذي يكون نهائيا في العادة هو الحدود الجغرافية لهذه الدولة أما ما تبقى فتعريف الفرد / المواطن يأتي من خلال بطاقة هويته التي تشير إلى الدولة التي ينتمي إليها مكنسة من بنودها التعريفة أية انتماءات قبلية سواء كانت تاريخية أو راهنة ـ سياسية ـ فسويسرا بلد فيه تنوع أصلي ومهاجر ولاتعرف فيه هل هذا المواطن الفرد / من سويسرا الألمانية أم من سويسرا الإيطالية إلا عندما يحدثك أما في جواز سفره / بطاقة هويته فلا تعرفك إلا عن جغرافية ولادته وإلى أية دولة ينتمي. فلا دينه ولا عرقه ولا طائفته تذكر في هذه الهوية الجامعة المانعة على التفتيت الهوياتي الماقبل دولتي. فالأحزاب السياسية هنا فيها السويسري المتحدث الألمانية والسويسري الذي يتحدث الفرنسية والإيطالية..الخ وأن اشتقاق أمور إدارة البلاد والسلطة تتم وفق معطيات الواقع وبما لايتعارض مع مفهوم المواطن / الناخب ( مكون أساس من مكونات أي مجتمع مدني ) والناخب هنا جملة معقدة من العوامل التاريخية والراهنة والمصالح المتباينة والانتظامات المتنافسة سياسيا ومدنيا. بالمؤدى النهائي الناخب مفهوم نسبي وتاريخي، وميزة النظم الديكتاتورية كنظامنا السوري أنها تلغي تاريخية هذا الموقع، فهو محدد بقرار أمني سياسي في كل زمان ومكان ولامجال لتبدل آراءه أو مصالحه بين هذا الحزب أو ذاك فهو ناخب لمنتخب واحد يظلل كل المجتمع بمظلته الأمنية والسياسية وعطاءاته الاقتصادية. جل ما يستطيعه هو أن يقاطع كما حدث في الانتخابات الأخيرة لمجلس الشعب السوري الذي يوضح بما لايقبل الشك المعادلة التالية: مجلس الشعب هذا دستوريا لا سلطة له لارقابية ولا تشريعية والتي هي من اختصاص رئيس الجمهورية حصرا. فهو لا يستطيع حجب الثقة عن حكومة أو سن قانون مهما كان إلا بعد أن يقوم رئيس الجمهورية بسنه وطرحه على مجلس الشعب للموافقة عليه وإذا لم يوافق في المرة الثالثة يستطيع رئيس الجمهورية إقراره دون الرجوع إلى مجلس الشعب هذا! إذا ما هي وظيفته؟ لكنه يعبر خير تعبير عن دور الشعب السوري في القرار السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي. حيث دوره هو التصديق على كل قرارات الحاكم. فمجتمع مثل هذا كيف يمكن تسميته مجتمعا مدنيا؟ ولقد استفاد النظام السوري البعثي من عدة عوامل في تحييد تطور المجتمع السياسي ولكن أهمها:
العامل الأول ـ أزمة وجودية في الهوية السورية مع تخلف في البنية الثقافية في البنية السورية المحدثة.
العامل الثاني ـ والمتجادل مع العامل الأول أن البعث ومشتقاته قد كرس مقولة أن المجتمع السوري هو مجتمعا انتقاليا نحو المجتمع العربي الأكبر لكونه حامل رسالة تحقيق الأمة العربية الواحدة. فبقي السوري ينظر إلى نفسه كموجود انتقالي في هذا الواقع السياسي. لم يستطع أن ينشئ هويته الخاصة كحال المجتمع المصري مثلا. وهذا أيضا ما كرسته السلطة على صعيد الدولة بما هي دولة انتقالية أيضا وبقيت دولة قطرية ذات بعد رسالي من جهة ومن جهة أخرى وسيلة لتحقيق هذا البعد الرسالي من قبل سلطة قادة أنبياء وأوصياء على الشعار: أمة عربية واحدة. وتقلص هؤلاء الأنبياء لكي يصلوا إلى نبي واحد مع ذريته عاجز المجتمع السوري عن ولادة نبي آخر؟ ربما المواطن السوري وغيره من مواطني الدول العربية يجد نفسه عندما يسمع بمفردة الأمة يغرق في دلالاتها غير المتواجدة في شرطه التاريخي فإما يغرق في دلالات أمة عربية واحدة أو أمة إسلامية واحدة! بينما مفهوم الأمة بدون الدولة يصبح فارغا من أي مضمون اجتماعي تاريخي. ولهذا لا مكان لمفهوم الأمة الدولة في الوضعية السورية لأن هذا المفهوم هو الأكثر عداءا للسلطة السياسية. كل هذا وغيره سنحاول إضاءته قدر ما نستطيع أضيف إلى عامل مهم وجوهري لعب دور في تاريخ المشهد السوري وتطوراته وتكويناته الحالية وهي أن سلطة البعث قد انقلبت على مبادئها أصلا انقلابا طائفيا وبشكل سلمي وعنفي بالآن معا. وهذا ما جعلها أيضا حريصة على النسق الخطابي الرسالي لتخفي أقليتها التصاعدية والاستبدالية والتي تبدأ سوريا كحامل وحيد للرسالة العربية ثم طائفيا داخل التكوين الطائفي والأثني والديني السوري ثم في النهاية عائليا لنصل إلى مفهوم العائلة المقدسة بمواجهة الجميع.فتم بناء على ذلك تفخيخ المجتمع جهويا وعبر كل تنضيداته التاريخية القومية والدينية والطائفية والطبقية. فهل في ظل هذه الفضاءات يمكن انبثاق مجتمع مدني سوري؟ هذا ما سنحاول مقاربته في الجزء الثالث. ولكن قبل أن نختم هذا الجزء لا بد لنا من القول معرفيا أن تطور البشر لايمكن أن يبقيه نظاما سياسيا قيد سيطرته إلى الأبد وإلا نكون أمام إستثناء في التاريخ البشري ولكن ماحدث في الانتخابات الأخيرة لمجلس الشعب يوضح أن شعبنا ليس استثناء وما شغفه أيضا بسماع الإعلام والأنترنت إلا تعبيرا عن تطلعه الدائم لكي يصبح مثله مثل بقية شعوب الأرض.

غسان المفلح